الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السلطة الأبوية المفترسة..

السلطة الأبوية المفترسة..
31 أغسطس 2011 21:34
تشهد المجتمعات العربية الكثير من النقاش طوال السنوات الأخيرة حول مفهوم ونشأة “المجتمع المدني العربي” وأهدافه ودوره، وتباينت الآراء والمواقف منه، ورصد الباحث الليبي صالح السنوسي جانبا كبيرا من هذا النقاش، في دراسته التي صدرت مؤخرا في القاهرة بعنوان “إشكالية المجتمع المدني العربي.. العصبة والسلطة والغرب”. ثقافيا وتاريخيا يرتبط مفهوم المجتمع المدني بالدولة المدنية، التي نشأت في اليونان القديمة، وكان نموذجها الأبرز مدينة أثينا ودولتها، ومن ثم فإن المفهوم هو نتاج الثقافة والحضارة الغربية وظهر في بلاد اليونان وتبناه مفكرو وفلاسفة الغرب من عصر سقراط وحتى العصر الحديث. وإذا كان المجتمع الغربي هو مجتمع المدينة فإن المجتمع العربي في نظر صالح السنوسي هو مجتمع القبيلة وعصبياتها، ويستغرق في شرح تفاصيل هذا المجتمع، وأبعاد روح العصبية والقبلية فيه، وبناء على هذا التحليل يصبح “المجتمع المدني” مفهوما لا يتناسب معنا ويحتاج زرعه الى عملية أو عمليات بالغة الصعوبة والتعقيد، إذ أنه استنبات لمفهوم لا يتناسب مع بنية المجتمع العربي وثقافته. لا تقف مشكلة المجتمع المدني عند حدود القبلية فقط، لكنها تمتد كي تشمل دور السلطة في المجتمعات العربية، وهي سلطة أبوية استبدادية تبتلع المجتمع المدني، إذ ترى فيه تهديدا لوجودها ولبقائها، والسلطة تبتلع المجتمع كله وتكاد تسخره لصالحها ولحسابها، وتحاول أن تقوي من شأن العصبية لأنها تضمن بقاءها ووجودها. أما المشكلة الأكبر فهي ترتبط بالمائدة الغربية، تحديدا الاميركية لمنظمات المجتمع المدني في البلاد العربية، وهذه المائدة ظهرت مع القرن الجديد، طوال التسعينيات كانت الولايات المتحدة مشغولة بدول أوروبا الشرقية وإحداث التحول فيها، كي تتخلص نهائيا من البلدان الاشتراكية التي خضعت للاتحاد السوفيتي، وكان ذلك ضروريا لإنهاء الحرب الباردة، وهذا الانشغال جعلها بعيدة عن الاهتمام بالمجتمع المدني في المنطقة العربية، لكنها أخذت توليه الاهتمام وتقدم لعناصره الدعم والمساندة المعنوية والمادية في مطلع القرن الجديد ومع الدخول في صراع ما سمي حرب الخليج الثانية، أو إسقاط صدام حسين في العراق، انضم عدد من البلدان العربية الى التحالف الدولي ضد صدام، ومن ثم لم تمارس الولايات المتحدة ضغوطا كبيرة، في رأي عدد من الدارسين، على الدول العربية للتحول نحو الديمقراطية وإعطاء مساحات أكبر للمجتمع المدني، وكانت الولايات المتحدة بين أمرين، خاصة بعد 11 سبتمبر، اما الضغط الشديد على الدول، أو الاكتفاء بمساندة المجتمع من دون ضغط خاصة أن الدول العربية أعلنت هي الأخرى الحرب على الإرهاب. مفهوم المجتمع المدني عند كثيرين هو نتاج العلمانية الغربية ومن ثم لا يصلح عندنا، لكن في المقابل عرف المجتمع العربي، وعرفت الدولة الإسلامية المجتمع الأهلي، وتمثل في نظام الوقف وإقامة المشاريع الخيرية، مثلا كان التعليم في الأزهر مجانيا، ولم تكن الدولة هي التي تنفق عليه، بل الاهالي من أوقافهم التي أوقفوها خصيصا على الجامع، وهكذا في بقية المدارس بالجوامع، سواء في القاهرة أو في غيرها، وكانت هناك تنظيمات لأبناء الحرف، أشبه بالتنظيمات النقابية المعاصرة، قامت على مساعدة أبناء كل طائفة أو حرفة، وكان شيوخ كل حرفة يتولون ضمان الالتزام بقواعد ومعايير ممارسة الحرفة، وردع من يتجاوز تلك المعايير وظاهرة إقامة الاسبلة وغيرها كاليمارستانات كانت تتم بجهود أهلية. وفي العصر الحديث نتذكر قصة بناء جامعة القاهرة، فقد تأسست بفضل الجهد الأهلي، ولم تمد لها الحكومة يد المساعدة، بل كان لورد كرومر ضد إنشائها. ولو ان المجتمع والجهد الأهلي أمكن تطويره والتأسيس عليه، لكان أشبه بالمجتمع المدني في الغرب. لكن الكتاب الذي بين أيدينا يرفض تماما تلك الرؤية، ويضع مقارنة تفصيلية بين المفهومين على النحو التالي: المجتمع الأهلي يرتبط بالمفهوم الأبوي والعلاقات الإنتاجية المحدودة، القائمة على الاكتفاء الذاتي، بينما المدني يرتبط بالمجتمع الذي يعرف الإنتاج الواسع، مع الشركات عابرة الحدود والقارات. والمجتمع الأهلي يقوم على الدفاع عن أعضاء كل حرفة فقط، ولا يهتم بالمجتمع كله، وعلاقاته السياسية مختلفة، إذ تقوم على التوسط للأعضاء لدى السلطة لحل بعض القضايا والمشكلات القائمة، ومن ثم فهو يتبع السلطة ولا يوازيها ولا يعاملها بحالة من الندية، ويتوسع الباحث في هذه الجزئية، الى الحد الذي لا يتضح معه الفارق بين المجتمع المدني والحزب السياسي، في بعض السطور نشعر بأنه يتحدث عن المجتمع المدني باعتباره حزبا سياسيا ويذهب الباحث الى أن بعض تنظيمات المجتمع الأهلي لا تعترف بالمساواة، وهي أساس المجتمع المدني، ويتوقف في ذلك عند نقابة الأشراف، التي تخصص لأناس يعدون أفضل من غيرهم في النسب والشرف، وحال نقابة الإشراف اليوم مختلف تماما، ويصعب تحديد النسب النقي لشخص أو أسرة طوال أكثر من 14 قرنا، فضلا عن أن هذه النقابة لا ترتب لأعضائها تميزا أو حقوقا اجتماعية وسياسية واقتصادية. الكتاب مليء بالمعلومات والكثير من التفاصيل، وبذل الباحث جهدا يستحق الثناء في جمع المادة العلمية لموضوعه، فالمصادر محدودة حول المجتمع المدني العربي، لكنه ذهب الى الصحف يقلب فيها ويراجع ما بها من مواد، وتابع الكثير من النشرات والمواد العلمية حول المجتمع المدني في مصر وتونس وسوريا، فضلا عن عدد آخر من البلدان العربية، وصاغ مادته باقتدار وتكثيف شديد في الكتاب، لكن مشكلة الباحث أنه يعتمد النموذج الغربي الكلاسيكي ان صحت التسمية لمفهوم المجتمع المدني، أي مفهوم المدينة الاغريقية القديمة، وهو يرصد المجتمع العربي، بالمقارنة مع المجتمع اليوناني وما هكذا تناقش وتفهم القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية. لقد كشف الباحث عن فهم عميق لتلاعب الولايات المتحدة بمفاهيم المجتمع المدني، فالذي يرفض الحصار الاسرائيلي على غزة يصبح “إرهابيا” حتى لو كان من نشطاء المجتمع المدني، ومن أقر باجتياح بغداد وتدمير الفلوجة وسجن أبو غريب يصبح ديمقراطيا ونموذجا مناسبا للمجتمع المدني، ولو مددنا الخط على استقامته لجعلنا ذلك ندرك ان المجتمع المدني العربي يجب ان يكون مرتبطا بالواقع العربي ومنخرطا مع هموم الإنسان والمجتمع العربي للنهوض بهذا المجتمع، بما يؤدي الى تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وبناء الدولة الديمقراطية الحديثة وايضا الوطنية. الكتاب: إشكالية المجتمع المدني العربي/ العصبة والسلطة والغرب المؤلف: صالح السنوسي الناشر: الدار المصرية اللبنانية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©