الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حكايات ومشاهدات في صنعاء ومأرب

حكايات ومشاهدات في صنعاء ومأرب
31 أغسطس 2011 21:35
الرحلات والأسفار إحدى مصادر المعرفة الإنسانية، التي ارتبطت حركة الإنسان خلال حياته الأولى بالترحال والانتقال، وقد أصبحت الرحلة إلى الحج وزيارة الأراضي المقدسة صورة من صور الرحلات لدى العرب، كما كانت الرحلة التجارية إحدى الصور الأخرى، فاشتهرت بينهم رحلتا الشتاء والصيف التي ذكرهما القرآن الكريم، وهما رحلتنا رحلة الشتاء إلى بلاد اليمن، ورحلة الصيف إلى بلاد الشام. ونجد أن لكتب الرحلات في الأدب العربي، قديمه وحديثه، وفي الآداب العالمية جميعاً، مكاناً بارزاً ملحوظاً في هذا المقام. ليس من ناحية الكَم، فحسب، بل من ناحية أخرى، تتمثل في أن كتب الرحلات تبدو في الغالب أكثر جاذبية، وربما لأنّ الحديث فيها ذو طابع ذاتي، يُزجيه الرحالة ـ المؤلف ـ لقارئه أشبه بمناجاة بين صديقين متقاربين، فالرحالة وهو يسرد وقائع رحلته وخاصة إذا كان يتمتع بأسلوب سهل بديع، ويصدر في عباراته عن عفوية مُحببة لا تكَلُّف فيها، ولا ريب في أنه في مثل هذا الموقف لا يمكن إلاّ أن يجذبنا إلى متابعته بكل لهفة واهتمام... وقد سجل الرحالة العرب المسلمون الذين طافوا البلدان الإسلامية وغيرها مما صادفهم في أسفارهم الطويلة من مشاهدات وانطباعات عن الأقوام الذين مرّوا بهم، وعاشوا بين ظهرانيهم، كما دونوا في رحلاتهم الكثير من الغرائب والعجائب التي عايشوها وسجلوها في تلك الديار القصيّة، ومن أبرز الرحالة العرب الرحالة محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي (ت 614 هـ)، والرحالة أبو عبدالله اللواتي الطنجي المعروف بابن بَطُوْطَة صاحب أشهر رحلة شعبية في التراث الجغرافي العربي من أشهر الرحلات خلال القرن الثامن للهجرة/ الرابع عشر للميلاد، وغيرهم ممن الرحالة العرب الذين حفل بهم تراث العرب الجغرافي. وما زالت شعوب كثيرة في العالم تعيش على الرحلة والتنقل كمن مكان لآخر، بل إن حُب الانتقال يعتبر من الخصائص التي يتميز بها الإنسان لأنها تضيف إليه معرفة جديدة كما تعرّفه بأحوال المجتمعات والشعوب. كما ما زال هنا نمط أدبي يتناول سرد الرحلات الخاصة والعامة إلى مناطق معزولة من العالم، أو على أماكن زارها رحالة ودونوا عنها، لكنها بقيت حبيسة المخطوطات، فجاءت أيدٍ حنونة انتشلتها من الضياع، ونفضت عنها غبار الزمن الماضي، وأعادت تحقيقها وفق أسس التحقيق العلمي المتعارف عليه، فنشرته للناس ليطلعوا ويتعرفوا إلى ما خط أولئك الرحالة الذين كابدوا المَشَاق والأهوال من اجل أن يخطوا صفحات رحلتهم الشاقة صوب الأماكن والبلدان التي يمموا وجوههم صوبها. جائزة تحقيق المخطوطات أضاء كتاب: “من مصر إلى صنعاء رحلة في بلاد العرب السعيدة 1927”، لمؤلفه نزيه مؤيد العظم، والذي تولى تحقيقها وقدم لها الأستاذ المحقق عبدالله السريحي، حيث أضاء النص ـ الرحلة ـ على جغرافية اليمن وتاريخ أحواله في الربع الأول من القرن العشرين خلال عهد الإمام يحيى. وهو موضوع بقلم مؤلف ينتمي إلى عائلة وطنية دمشقية عريقة، كان منفياً في مصر سنة 1926م إبان الثورة السورية الكبرى التقى بشارلس كرين، الثري الأميركي الذي كان مُلقباً بصديق الشعوب المظلومة، وطلب مرافقته في رحلة إلى الحجاز واليمن. وهو ما جرى، وكانت ثمرة تلك الرحلة هذا الكتاب القيم الذي قام المحقق عبدالله السريحي، وهو باحث رصين ومعروف من اليمن، بتكليف من المركز العربي للأدب الجغرافي: ارتياد الآفاق في أبوظبي، بإعادة تحقيقه، وتصويب ما وقع فيه المؤلف من أخطاء تتعلق بتاريخ اليمن، مع الإشارة إلى ذلك في موضوعه، وقد قام بهذه المهمة بجدارة كبيرة استحق عنها جائزة ابن بطوطة للمخطوطات. تضمت الرحلة ـ الكتاب ـ على استهلال، المقدمة، نص الرحلة، تتمة الرحلة، والملاحق التي اشتملت: “محاضرة المستر كراين، وثلاثة ملاحق، الفهارس الكشّافة، ومصادر التحقيق”. حيث عرض الاستهلال لجائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي الذي أعلن عنها في أبوظبي العام 2003 م، وتهدف إلى تشجيع أعمال التحقيق والتأليف والبحث في أدب السفر والرحلات واليوميات، وتأسست الجائزة إيماناً من “المركز العربي للأدب الجغرافي ـ ارتياد الآفاق”، و”دار السويدي” بضرورة الإسهام في إرساء تقاليد حُرّة في منح الجوائز... كما تناول المحقق الباحث عبدالله السريحي في المقدمة التعريف بـ”حياة مؤلف الرحلة نزيه مؤيد العظم الذي ينتمي إلى أسرة شامية، المولود في مدينة دمشق العام 1890م”، وتوقف عند محطات عديدة في حياته، ثم تطرق إلى ذكر أعماله الفكرية، حيث كتب وترجم العديد من الكتب، فترجم نزيه عن الإنجليزية كتاب “القول الحق في تاريخ سورية وفلسطين والعراق”، للبريطاني ج. دي. ف. لودر. بعدها أوضح السريحي للقارئ تفاصيل رحلة ـ كتاب ـ نزيه مؤيد العظم” من مصر إلى صنعاء: رحلة في بلاد العرب السعيدة 1927”، ثم نبه إلى ملاحظات عامة على الرحلة، مع بيان عمله في تحقيق هذه الرحلة من مصر إلى صنعاء... وأشار المحقق في”توطئة إلى تعرّف نزيه العظم على “المستر شارلس كرين المثري الأميركي، وصديق الشعوب المظلومة، عندما قَدِم على سورية بعد الحرب العالمية على رأس لجنة الاستفتاء التي أوفدها الحلفاء لدرس حالة البلاد العربية التي انفصلت عن الدولة العثمانية”. في عَرض البحر الأحمر بدأت الرحلة “في عَرض البحر الأحمر، عدن وأهميتها التجارية والعسكرية”، حيث يقول العظم: “قمت منذ بضعة أعوام برحلة من مصر إلى صنعاء اليمن، فركبت باخرة إيطالية من بور سعيد، وعبرت بها قناة السويس، تلك القناة العجيبة التي أبدعتها يد الإنسان فقرّبت المسافات وسهلّت المواصلات...”. وأضاف: “اجتازت باخرتنا هذا البحر في أربعة أيام ولم تعرج فيها على ميناء واحدة من موانيه الكثيرة كينْبُع وجَدَة على الساحل الآسيوي، وبُور سودان وسَوَاكن ومصوّع على الأفريقي...”. ويستمر في حديثه قائلاً: “وصلنا إلى عدن ـ وهي اليوم ميناء إنجليزية ـ في المساء، وبعد التفتيش الصحي والجُمركي ومراقبة جوازات السفر سمح لنا بمغادرة الباخرة والنزول إلى البر...”، ثم حكى عن استقبال سيف الإسلام محمّد ضيوفه خير استقبال، والتوقف في ميناء الحديدة، والحديث عن العناية بزراعة البُن والتنباك والقطن باليمن، والزامل أي النشيد اليمني. وتحت عنوان “الطبقات الاجتماعية... السادة والتجار والعمال والبربر، مستشفى الحديدة”، حدثنا العظم عن “مرض أحد خدمنا فسألنا إذا كان يوجد طبيب بالبلد، فقيل لنا: نعم، يوجد طبيب إيطالي، ويوجد مستشفى للحكومة يشرف عليه هذا الطبيب..”. فروى هذه الحكاية بتفاصيلها، والإشارة إلى طبقات أهل اليمن الثلاث (الشرفاء، والوسطى، والبربر). موضحاً لكل واحدة منها: ذلك عرض لتطبيق الجزاء الشرعي على السكِّير، والمحكمة الشرعية في الحديدة، ولشيوخ من البدو، مع جولة له في الحديدة، وحديثه عن ضيوف الإمام، ومنازل الحديدة، وزيارة المسجد الكبير، والصيد البحري، ومشاهداته في المكتب الرشدي، وفي جمرك الحديدة، وفي مدرسة الصناعات، وعند آبار المياه، وختمها في رأس الكثيب. بعدها وصل نزيه العظم ليسجل سفره إلى صنعاء بعد ثلاثة أيام على وصوله إلى الحديدة، فأشار فيها إلى لقائه سيف الإسلام الملكي المرحوم محمد سيف الإسلام، ذاكراً جزءاً من سيرته ووفاته، ورحلته إلى تهامة، والحديث عن السيدات اللواتي يلبسن القبعة والأواب القصيرة، وحضوره حفلة الزواج، واستماعه إلى الزامل من إحدى فرق النشيد، مع ذكره أن الرق غير موجود في اليمن، ثم عرّج للحديث عن بيوت اليمن التي تشبه القلاع، والأساطير، وأن اليهود من أهل الذمة فيها، وكيف أن اليماني يجوع من أجل القات، ووصف أحد مجالس القات، وكيف يمضغونه، وما هي لذته؟ قطعة من جنة عدن ذكر مؤلف الرحلة عن ثورة الزرانيق على اليمن، ومدير المال، وجبل صعفان، وثورة الزرانيق واحتلال الإنجليز للضالع قعطية، وحصن المكارمة، وزيارة سوق بوعان، وأنواع البُن، والبلشفيك في اليمن، والجندي اليمني، والنوم في الأكياس، والوقوف للتعريف بأسماء الأشياء. أعقب ذلك الإشارة إلى أن صنعاء قطعة من جنة عدن فقال: “وهي ثالثة الجِنان بعد دمشق! وما كادت أرجلنا تطأ أرض صنعاء حتى أوفدوا إلى ـ المقام الشريف ـ أي إلى سراي جلالة الإمام يعلمونه بوصولنا، وقد قابلنا في آخر قاع اليهود جندي من عكفة الإمام ـ أي حرس الإمام ـ أتى موفداً من قبل المقام الشريف ليهدينا إلى الدار التي أعدت لنزولنا...”. بعد ذلك فصّل العظم لرحلته “الليلة الأولى في صنعاء”، ومصلحة البريد، ومصلحة التلغراف، وحي بئر العزب، وحانوت اليهودي والنسيج الشامي، والبنوك، والأطباء في اليمن، فضلاً عن روايته للأحجار الكريمة فيها، والأسواق المغلقة، والبرد الصنعائي،... مع ذكر معلومات وافية لزيارته ومشاهداته أثناء الرحلة للآثار الحميرية، ولسبأ ومأرب، وللعراضة، ولجغرافية اليمن، ولجولته في أسواق صنعاء، وحديثه عن الدراهم. من جهة ثانية كتب مؤلف الرحلة “فصل في المعاهدات”، وهي معاهدة الوداد والصداقة والتجارة بين اليمن وحكومات الجمهوريات السوفييتية المعروفة بمعاهدة صنعاء وغيرها مع عدد من الدول الغربية، إثرها وصف العظم للجامع الكبير، والروضة وقرية القابل، فقال عن الجامع الكبير: “خرجت من المدرسة ويممت شطر الجامع الكبير، وهو جامع قديم يصلي فيه الإمام أيام الجمعة، وهو كناية عن فسحة كبيرة حولها أربعة أروقة مفروشة بالسجاد والحُصُر، ويجلس في أحد هذه الأروقة شيخ عالم جليل طاعن في السنّ يقال له السيد إسماعيل الديمي،...”. وداعاً صنعاء ودع نزيه العظم صنعاء يوم 2 ديسمبر 1927م، حين أتاه: “بعض الجنود إلى الدار يقودون عدّة بغال وقالوا: أتينا من المقام الشريف لنسافر بمعيتكم إلى ماوية، فقلت: حسناً، حمِّلُوا هذه الأشياء والصناديق، فحملوها، وركبنا على أحد البغال وخرجنا من الدار بعد أن ودعنا بعض الأصدقاء الذين أتوا خصيصاً لوداعنا، وشعرت في ساعة الوداع بانقباض ووحشة رهيبتين في نفسي وخلتني أفارق بلدي وأهلي”. تتمة الرحلة عقب نصّ الرحلة الذي استغرق الصفحات من 27 إلى 314، جاءت “تتمة الرحلة” في الصفحات من 315 إلى 427، بدأها بقصيدة “سبأ والوجوه تَعْنُو إلى الله” للشاعر أبي الطيب محمد بدر الدين الخطيب، ومطلعها: رجف النور في غضون الكتاب ومشى في السطور ركب الصحابِ في رواق من الضياء على الليـ ـل يقود الركاب خلف الركابِ يتعالى الهباء فيه مشوباً بظِلال الأجيال تحت الترابِ هات حديث نزيه عن دار بلقيـ ـس وعن سورها الرهيب العجابِ السفر إلى مأرب كما اشتملت تتمة الرحلة الحديث عن “السفر إلى مأرب”، فقال عنها: “وفي صباح الأحد الموافق 26 يناير سنة 1936 م، و2 ذي القعدة سنة 1354 هـ نهضت قبل الفجر وأقفلت حقائبي وجلست أتناول طعام الصباح، وبينما أنا كذلك وإذا بالخادم يُعلمني أن جاويشاً ـ أي عريفاً ـ من الجيش جاء يستأذن بالدخول، فأذنت له، فعرض للدهون بالسليط والسمن، وحديث مسهب في الطريق إلى مدينة صرواح، والمرحلة الأخيرة إلى مأرب وصل نزيه العظيم إلى سد الجفنية، وعن مأرب عند المؤرخين، ومحرم بلقيس، حيث تناول في وصف هذه الزيارة إلى مأرب” على أبواب مأرب وسدها العظيم، فقال:” نام القوم طول ليلهم إلاّ أنا فلم يغمض لي جفن إلا قليلاً، فكيف أنام وأنا على باب سدّ مأرب وعلى قاب قوسين أو أدنى من مدينة بلقيس العظيمة؟ وما برحت منذ عشر سنوات احلم بهذه الزيارة وتتشوّق نفسي إليها،...”. كذلك عمل المحقق الفاضل عبدالله السريحي في تحقيقه لهذه الرحلة “من مصر إلى صنعاء... ثلاثة ملاحق خدمة لنص الرحلة تضمنت الفهارس الكشّافة لنص الرحلة متضمنة الآتي: آيات قرآنية، أشعار، أعلام، أعلام وأقوام وأديان، أماكن، حيوانات، كتب وصحف، معالم وآثار، منظمات وهيئات ومصطلحات، مواد ومعادن، نباتات، وسائل وأدوات، فضلاً عن مصادر التحقيق التي اعتمدها السريحي لانجاز هذه الرحلة الكبيرة... الكتاب: من مصر إلى صنعاء رحلة في بلاد العرب السعيدة 1927 المؤلف: نزيه مؤيد العظم تحقيق: عبدالله السريحي الناشر: المركز العربي للأدب الجغرافي ـ ارتياد الآفاق في أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©