الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تراجيديا الطقوس والأساطير

تراجيديا الطقوس والأساطير
31 أغسطس 2011 21:35
من نظريات التحليل النفسي إلى علم الإناسة ومناهج النقد الأدبي الحديث في مقارباتها لعالم الأساطير والتراجيديا الإغريقية والطقوس البدائية، ظل الدارسون والعلماء يحاولون تفسير نشأة المقدس والمحظورات عند الشعوب البدائية، وكان تباين نتائجها مرتبطاً بطبيعة المناهج التي انطلق منها أصحابها في تلك الدراسات والتحليلات. وعلى خلاف ما قدّمته تلك النظريات يعود رينيه جيرار في كتابه “العنف والمقدس” إلى بدايات نشوء العلاقة بين العنف والمقدس من خلال دراسة تحليلية لأهم الأعمال التراجيدية اليونانية والطقوس الإفريقية والأساطير القديمة التي شكلت أساس الصرح الثقافي والاجتماعي للمجتمعات الإنسانية. ومنذ البداية يكشف عن الخلفيات التي شكلت الأساس لظهور مفهوم الذبيحة أو ما يسميه بالحل الذبائحي عند الشعوب البدائية، التي حاولت من خلاله دفع خطر التفتت والانهيار عبر تحميل أحد أفراد الجماعة مسؤولية الشرور التي أصابتها فتضحّي به. ومن المظاهر التي تعقب تلك العملية مظهر الرعب والهلع الذي ينتشر بين الجماعة والذي لا يهدأ إلا بعد وقت تبدأ معه تلك الجماعة بالعمل على تلافي الوقوع في الخطر من خلال تحديد المحظورات والروادع التي تمنع القيام بأي آثام وشرور كانت الضحية قد قامت به، حيث تأتي محظورات السفاح والقيود الجنسية في مقدمة تلك المحظورات. ويكشف جيرار في دراسته أن قتل الضحية وحده لا يكفي لترسيخ واقع المصالحة والتوافق بين أعضاء تلك الجماعة، ذلك أن خطر تجدد العنف يظل قائماً، الأمر الذي يجعلها عند شعورها بتفجر العنف تقوم بإعادة تمثيل الخطر وزواله عبر عملية إبدال تستبدل فيه الضحية الأساسية التي تنتمي إلى الجماعة بضحية طقسية تكون غريبة عن الجماعة، سواء من الأسرى أو المنبوذين أو أصحاب العاهات بحيث يسهم ذلك في الابتعاد عن عمليات الثأر. لكن تلك الضحية تحولت فيما بعد عندما تمَّت الاستعاضة عنها بالذبيحة الحيوانية. الضحية والتطهير وإذا كانت الضحية تستعمل كوسيلة لتطهير الجماعة وتجديد وحدتها، فإن استذكارها الدوري يعتبر الطريقة الوحيدة لطرد العنف خارج الجماعة، خاصة وأن وظيفة الذبيحة تكمن في تهدئة النزاعات الداخلية والحؤول دون الصراعات المسلحة. وقد تطور هذا التكرار الطقسي ليحل محله المؤسسات بصورة تدريجية فكان لابدّ من قيام الجماعة بإخفاء الآلية الذبائحية، والتمييز بين العنف غير الشرعي والعنف المقدَّس الشرعي. ويؤكد الباحث أن الأنظمة الطقسية كأنظمة العالم اليهودي والعصور الكلاسيكية القديمة تكاد الضحية فيها أن تكون كلها حيوانية، إلا أن بعض الأنظمة الطقسية عمدت إلى إبدال الكائنات البشرية التي يتهدّدها العنف بكائنات بشرية أخرى كما كان الحال في أثينا في عصر كبار الشعراء التراجيديين في أزمنة الكوارث التي تكشف عنها نصوص التراجيديا الإغريقية. ويفرد الباحث لمسرحية أوديب لسوفوكليس بابا خاصا يعالج فيه مفهوم الضحية الفدائية من خلال دراسة شخصياتها ووقائعها حيث يرى أن أوديب هو مثال للشرّ الخالص كما ظهر في قتل الأب والسفاح الذي يقوم به، ما يجعل هذين الفعلين يكتسبان معناهما الحقيقي ضمن الأزمة الذبائحية التي تتجلى في كارثة الطاعون الجماعية التي تصيب المدينة، الأمر الذي جعل طرد أوديب وموته يحوّله إلى ضحية فدائية تجتمع فيها أشكال العنف الضارة والنافعة معا. بروز المحظورات يعيد الباحث ظهور المحظورات إلى بحث الجماعات القديمة عن طريقة للتخلص من الوقوع مرة ثانية في حالة العنف المتبادل، وذلك من خلال قراءته في الحالات التي تمرّ بها طقوس الأضحية، إذ يلي قتل الضحية حالة من الخوف والهلع، تعقبها حالة من الهدوء يأخذ فيها الجميع بالتفكير في كيفية تلافي الوقوع مرة أخرى في العنف المتبادل، من خلال خلق الروادع وتحديد المحظورات التي تحول دون القيام بأي عمل يحاكي العمل الذي ارتكبته الضحية، وفي مقدمتها أفعال السفاح التي نشأت عنها القيود الجنسية، كما حدث مع أوديب الذي قتل والده وتزوج أمه مكافأة على ذلك، دون أن يكون على معرفة بحقيقة ذلك، فكان عقاب الآلهة له على هذا العمل من خلال الانتقام منه. ويستنتج الباحث أن الفعل السفاحي هو الذي يخلع على الملك طابعه الملكي وهي ليست كذلك إلا لأنها تفرض موت المذنب وتذكّر بالذبيحة الأولية. وهنا يقدِّم نقداً صارما لنظرية فرويد حول أسطورة أوديب واستخلاصاته فيما يتعلق بعقدة أوديب والرغبة المكبوتة في السفاح الأمومي. طوطم ومحرّم يناقش الباحث تحت هذا العنوان أطروحات فرويد في كتابه الذي حمل العنوان نفسه مستعرضا في البداية النقد الذي وجهّه إليه نقاد الأدب وداروين وليفي شتراوس، ويؤكد أن هذا الكتاب يبحث في نشأة المحظورات الجنسية مبينا أن تفسير محاولة الابن قتل الأب في تلك النظرية الأوديبية يعقّد الأمور فيها بدل أن يحلّها على الرغم من إقراره بأن استنتاجات فرويد في كتابه “الطوطم والمحرم” تبقى هي الأقرب إلى فهم حقيقة التراجيديا الإغريقية. إن جيرار لا يكتفي بتقييم تلك النظرية، بل يكشف عن مكمن الخطأ فيها من خلال مناقشة الأفكار التي تطرحها، فهو لا يجد بأن الصراع بين الابن والأب في نظرية فرويد عن عقدة أوديب يرتبط بالرغبة الجنسية وحدها لأنها لا تكفي لتبرير المنافسة الشرسة التي سينتهي إليها الصراع بينهما وهو ما يجعل فرويد فيما بعد لا يؤكد تلك الفرضية . إن المحظورات كما يراها تؤدي وظيفة أساسية تتمثل في جعل اللاعنف في المجتمعات البشرية في أدنى درجاته وهو ما يشكل ضرورة لممارسة الوظائف الأساسية وجعل التربية الثقافية قادرة على صنع إنسانية الإنسان. وخلافا لما هو متوقع فإنه يشير إلى أن المحظورات في المجتمعات البدلئية كانت تفوق المحظورات في مجتمعاتنا الحديثة ما يجعله ينبّه إلى أن التحرر النسبي في مجتمعاتنا يجب ألاّ يجعلنا نشعر بالحماسة الأيديولوجية في مواجهة كبت مزعوم جعل من الجنسانية التي هي اختراع غربي في مجتمعاتنا موضوعاً دائماً، ذلك أن النشاط الجنسي في المجتمعات البدائية كان طقسياً ما يجعله ببساطة عاجزاً عن نشر العنف الداخلي وهو ما يشكل نقضاً لنظرية فرويد. الكتاب: العنف والمقدس المؤلف: رينيه جيرار ترجمة: سميرة ريشا الناشر: المنظمة العربية للترجمة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©