الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«ربيع براغ».. وعودة الذكريات!

15 سبتمبر 2014 23:18
مايكل كارول كاتب أميركي بينما تواصل القوات الروسية إبراز تواجدها في أوكرانيا، أفكر في الطالب التشيكي «جان بالاك» الذي أحرق نفسه في ميدان «وينسيسلاس» قبل نحو خمسة وأربعين عاماً، بعد أشهر قليلة من قضاء القوات السوفييتية على «ربيع براغ» في عام 1968. وقد كان القرن العشرون صعباً على التشيكيين بأسرهم، إذ دخلوه كجزء من إمبراطورية «النمسا- المجر»، وخسروا آلاف الأرواح من الأبرياء أثناء الحرب العالمية الأولى. ومهّد الرئيس الأميركي «وودرو ويلسون» ودول الحلفاء المنتصرة الطريق سوياً أمام ظهور دولة «تشيكوسلوفاكيا» الجديدة، التي ظلت عشرين عاماً كنظام ديمقراطي في فترة ما بين الحربين العالميتين، وكانت هي الديمقراطية الأخيرة في أوروبا الشرقية. ثم جاء الزعيم النازي «أدولف هتلر» في عام 1938، وقدم له الإنجليز والفرنسيون جزءاً من تلك الدولة يعرف باسم «سوديتنلاند»، أملاً في تفادي نشوب حرب عالمية ثانية، ولكن ذلك لم يؤجل الحرب سوى لعام واحد فقط، وفي عام 1939، ابتلع هتلر بقية تلك الدولة نفسها. وبعدما هزم الحلفاء النازيين في عام 1945، تنسمت تشيكوسلوفاكيا نسيم الديمقراطية مرة أخرى لفترة قصيرة استمرت حتى عام 1948. وبالطبع كان بعض التشيك والسلوفاك يأملون في تحقق عدالة اقتصادية ضمن النظام الشيوعي. وربما أن ذلك النظام بالفعل أتاح الفرصة لأبناء الفلاحين وعمال المناجم في الجامعات وأماكن أخرى لم تكن ترحب بهم قبل ذلك. ولكن خللاً ما قد حدث لاحقاً، وأصبحت تشيكوسلوفاكيا مكاناً يصعب العيش والتنفس فيه بحرية. وفي عام 1968، أيّد زعيم الحزب الشيوعي التشيكي «ألكساندر دوبشيك»، حركة الإصلاح الشعبي التي عُرفت آنذاك باسم «ربيع براغ». وكان من المفترض أن تقدم تلك الحركة «الاشتراكية بوجه إنساني»، غير أن ذلك «الربيع» انتهى في أغسطس من العام نفسه، عندما تحركت دبابات الدول الموقعة على معاهدة «وارسو»، التي تضمنت روسيا وألبانيا وبلغاريا وألمانيا الشرقية وبولندا رومانيا والمجر إضافة إلى تشيكوسلوفاكيا نفسها. وتنص المعاهدة على ضرورة التعاون المشترك بين دول الحلف دون التدخل في أي من الشؤون الداخلية الخاصة بها، واحترام سيادتها واستقلالها، غير أن ذلك البند قد خرق أثناء «ربيع براغ»، إذ تدخلت الدول الموقعة لقمع الثورة، وكانت الحجة في التدخل هي أنها قد دعيت إلى ذلك، وبالتالي ادعت أن البند المذكور في المعاهدة لم يخرق رسمياً، بهذا المعنى. وبحلول يناير عام 1969، كان الطالب «جان بالاك» قد ضاق ذرعاً بالرقابة والقمع، والاضطهاد من جانب الروس، وشيطنة رفاقه التشيكيين. ما حدا به إلى إضرام النار في نفسه بميدان «وينسيسلاس» احتجاجاً على النظام القائم، وقد لقي حتفه بعد أيام قليلة. وقد أصبح ضريحه في مدينة براغ مزاراً لبضعة أعوام. ولكن من الواضح أن الشرطة ضاقت ذرعاً ولم تستطع تحمل ذلك المزار، ومن ثم نبشت رفاته في عام 1973، وأحرقته وأرسلت رماده إلى والدته في مسقط رأسه. وفي الذكرى العشرين لوفاته، اندلعت سلسلة من المظاهرات أطلق عليها اسم «أسبوع بالاك». وقد كان الهدف المعلن هو تكريم «شهيد التشيك»، ولكن الهدف الآخر هو الاحتجاج على النظام الشيوعي. وتزايدت المظاهرات، وردت الشرطة بقسوة، وضربت المتظاهرين، ونفذت عمليات اعتقال جماعية، تضمنت كاتب مسرحيات منشقاً يدعى «فاكلاف هافل». وكانت «الثورة المخملية» نهاية للحكومة الشيوعية التشيكية، التي استقالت في يناير عام 1990، وتم انتخاب «هافل» رئيساً جديداً للبلاد. وأعيد رماد «بالاك» إلى براغ، ووضع خارج المتحف الوطني، وأطلق اسمه على الميدان المحيط. وبعد أعوام قليلة، مع اقتراب نهاية القرن الذي شهد حربين عالميتين واحتلالين لتشيكوسلوفاكيا، انقسمت تلك الدولة بصورة سلمية إلى جمهوريتي التشيك وسلوفاكيا. ولم يكن «بالاك» هو الشخص الأول أو الوحيد الذي ينتحر، مضحياً بنفسه اعتراضاً على ما رآه شراً؛ فقبل سنوات قليلة من انتحاره في عام 1965، أحرق «نورمان موريسون» في ولاية بنسلفانيا نفسه حيّاً أمام مكتب وزير الدفاع «روبرت ماكنامارا» احتجاجاً على حرب فيتنام. ومثل «بالاك»، لم يذع صيت «موريسون» في الولايات المتحدة، ولكن كثيرين يتذكرونه في أماكن أخرى. وتفوق هذه الأعمال حدود إدراكي وخبراتي وحتى العالم المألوف من حولي. ولكن يمكنني أن أستدعي هنا ذكرى «بالاك» وشغفه وأهدافه، حتى وإن لم أستطع فهمه بشكل كامل. بيد أنه لا يمكنني أن أؤيد أي شخص يقتفي أثره، إذ لا أضمن أن يتغير أي شيء إلى الأفضل، أو حتى أن يتذكره أحد. بيد أن «بالاك» يختلف بصورة جذرية عن المفجرين الانتحاريين الذين يتصدرون عناوين الصحف ويقضّون مضاجعنا. فهدفهم هو التضحية بأنفسهم بينما يقتلون معهم ما يستطيعون من أبرياء بطريقة مرعبة مأساوية جلية للعيان، بينما كان هدف «بالاك» هو التضحية بنفسه وحده لهدف كان يعتقد أنه مفيد. ومع أن «جان بالاك» كان جزءاً من تاريخ القرن العشرين الأليم، إلا أن هذا القرن الجديد، يشهد هو أيضاً تحرك الدبابات الروسية من جديد! يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي. تي. إنترناشيونال»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©