الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عن تاريخ تكبيل الكلمة

عن تاريخ تكبيل الكلمة
28 أغسطس 2013 19:47
هو نوع نادر من الكتب التي تثير الغيرة بحق، سواء لجهة موضوعه أو طريقة تأليفه أو رصانته البحثية والعلمية. هو نوع من تلك الكتب التي تثير التأمل، وتجعل المرء يقارن ويقارب، وهي التي تدفع به إلى أن يجترج أفكارا أخرى أكثر اتصالاً به وبتجربته على صعيدي القراءة والعيش في عصره وتقلبات هذا العصر. كتاب نادر إلى حدّ أن من الصعب على المرء إذا قرأه أن لا يتحدث عنه. “الكتب الممنوعة”، للإيطالي ماريو إنفليزي وبترجمة لافتة أنجزتها الأكاديمية المصرية وفاء البيه وصدر العام 2011 عن هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة ـ مشروع كلمة للترجمة، ينتمي إلى هذا النوع من الكتب. كتاب ينتسب إلى حقل تاريخي، لكنه في العمق كتاب في حقل إنتاج الأفكار وتاريخ صراع الإرادات بين هذه الأفكار تحديدا. ينتسب الكتاب حصراً إلى الثقافة الغربية، لكنه أيضاً يثير الكثير من التأملات في موضوعه عربياً وفي الفترة الراهنة مثلما في العصر الحديث، إلى حدّ أن المرء يسأل نفسه ما إنْ يطوي آخر صفحات الكتاب: هل حقاً نحن نعيش في عصرنا الراهن؟ ومتى ستصبح لدينا المقدرة على التأثير فيه والتأثر به مثلما تفعل الأمم الأخرى والثقافات المجاورة والبعيدة؟ وعليه، فإن جملة الأفكار الواردة تالياً قد تأثر البعض منها بالأطروحة العميقة لهذا الكتاب وجانب منها قد انبنى عليه والجزء الأقل هو أفكار وتساؤلات بأثر من الحال العربية الراهنة التي لا أحد منا بمنجاة من الآثار التي تتركها عليه فردياً وجمعياً. ثمة حقيقة ما، ولا محيد عنها. فما من أمة من الأمم قد خلت في تاريخها الثقافي والمعرفي والعام من أمر إحراق الكتب والتعرّض لمثقفيها إلى حدّ التنكيل بهم بدءا من الحرمان من العيش السوي والمنع من إعلان الأفكار على الملأ أو المجاهرة بها بوصفها حقائق جديدة مرورا بالاعتداء على الجسد البشري المحض والحطّ من الكرامة الشخصية والتغييب والنفي والسجن والإبعاد وسوى ذلك وصولاً إلى القتل وتقطيع الأوصال والتمثيل بالجثث. لا يرقى تاريخ هذه الحقيقة إلى ذلك الزمن الذي اختُرعت فيه الطباعة، بمعناها الحديث، حيث انتشرت الكتب فشاعت مستويات متعددة من التعليم وأصبحت القراءة والكتابة أمرا شائعا، حتى أن الأفكار الجديدة والمختلفة واللافتة لانتباه العامة والخاصة من الناس قد باتت شائعة ومن السهل الوصول إليها. يرقى زمن هذه الحقيقة إلى ما هو مكتوب؛ إلى الوقت الذي خطّت فيه يد الإنسان شيئاً مكتوباً على رقاع من الورق أو على الرُقُم الطينية؛ أي منذ أنْ ظهرت البذرة الأولى لفكرة الكتاب ونشأت فكرة المكتبة فاشتهرت مدن وحواضر بوجود مكتبات عامة فيها ويُصار إلى ذكرها، الآن، في التاريخ على أنها منارات إلى أن اقترن وجود حضارة ما بوجودها.وإذا أخذ المرء تاريخ الكتاب على محمل شخصي أو، بقَدْر أكبر من المغالاة، على محمل الشرعة العالمية لحقوق الإنسان التي ظهرت في التاريخ البشري قرابة منتصف القرن الماضي فقط، فإن هذا التاريخ سيكون هو ذاته تاريخ انتهاك حقوق الكتاب والمكتبتات والأفكار والمثقفين أيضا، دون مبالغة في القول أو إفراط في التأويل حوادث تاريخية فما حدث لأحمد بن حنبل أو ابن رشد، على سبيل المثال لا الحصر، ليس من العسير أن يجد المرء ما هو أكثر خِزْيا منه في التاريخ الثقافي لدى الغرب مثلاً أيضا، الذي بلغ الأمر فيه إلى حدّ إحراق البشر أو قتلهم المعنوي النهائي بإجبارهم على التخلي عن أفكارهم الجديدة أو النافرة، حتى لو كانت مجرد حقائق علمية، في مقابل الحفاظ على حيواتهم الشخصية أو حيوات أفراد أسرهم الصغيرة والكبيرة، فهم أصحاب المخطوطات وصانعو الكتب التي سوف تتسرب إلى الناس؛ إنهم الخطر الذي يتهدد سلطة المعرفة الراسخة والقارّة بالتقويض. أيضا فما حدث لمكتبة الإسكندرية على أيدي جنود الفتح العربي الإسلامي الذي كان يقوده عمرو بن العاص في عهد عمر بن الخطّاب أواخر القرن السادس للميلاد، كان مسبوقا قبل ذلك بستة قرون تقريبا عندما دخلت جيوش يوليوس قيصر الرومانية إلى أرض مصر في إحدى غزواته ضد شقيق كليوبترا فأحرق الجنود آلافا وآلافاً من اللفائف من ورق البردى. وسيجد ما هو أكثر كارثية من ذلك، على مستوى الثقافة الإنسانية، في حريق غرناطة الشهير بعد ثمانية قرون من حادثة عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص، إثر سقوطها في أيدي إيزابيل وفيرناند أو عودة السلطة في شبه الجزيرة الأيبيرية إلى أصحابها الأصليين الاسبان، عندما امتدت يد الجهل والتخلّف والتعصّب الدينيين إلى المعرفة والعلم فأحرقت الملايين من المخطوطات الناطقة باللغة العربية انتقاما من الحضور العربي والإسلامي هناك، هذا الحضور الذي لم يكن للغرب سبيل للفكاك منه والنجاة من آثاره إلا باعتباره جزءا من التاريخ الثقافي الخاص بهذا الغرب وعدم المقدرة على تجاوزه إلا بعد أن اعتبروه جزءا من تاريخهم الخاص، إلى حدّ أن أحد المؤرخين الإسبان المتخصصين بالتاريخ والثقافة العربيين في إسبانيا قد شبّه ما حدث في الأندلس من تأثيرات متفاوتة ومختلفة ومتباينة على الصعيد الثقافي المُحرّك لردّ فعل عليه يتمثل هذا الرد في كل ما حدث تالياً في العالم الجديد أو ما بات يُعرف الآن بأميركا اللاتينية فتعرضت ثقافات تلك الشعوب الأصلية لما تعرضت له من محو وإبادة. والحال أنه بعد هذا النوع من الاجتهادات التاريخية بدأت تظهر اجتهادات استشراقية مُنصفة وغير كارهة للعرب وفقاً لاعتبارات دينية محضة بسبب أنهم عرب يدينون بالإسلام. بل وظهرت كتب عديدة لمثقفين غربيين تتحدث عن دور هذا الحضور للثقافة العربية والإسلامية في الأندلس وامتداداتها الحضارية في الغرب ككل من وجهة نظر مستقلة تماما وأقرب إلى الحياد منها إلى الاعتبارات العامة أو الأخذ بالأفكار المسبقة بوصفها مسلمات، فضلاً عن أن البعض من هذه الكتب موجود باللغة العربية ويطرح أفكاراً جديدة من طراز الاجتهادات التي يقدّمها المثقف الأوروبي اللامع والناقد الأدبي تزفيتان تودوروف. إلا أن هذا شأن آخر، وليس ببعيد كثيراً عن فكرة تحريم المخطوطات العربية والإسلامية أولاً ثم حريق غرناطة الشهير. هذا الحريق ربما لم يكن هو الأخير الذي طال المكتبات لكنه يظل الأكثر تداولاً في التاريخ الثقافي عند حضور فكرة منع تداول المخطوطات أو المصائر التي كان يواجهها المثقفون في العالم عموما والغرب تحديداً في ما يتصل بدأبهم على نشر الأفكار الجديدة بدءا من اكتشاف الكتابة حتى ذلك العهد عندما بدأ اختراع الطباعة في أوروبا يُؤتي أُكله. ولقد مثّل ذلك الاختراع علامة فارقة في التاريخ البشري رغم أن فكرة منع الكتب وحظر تداولها لأسباب دينية ـ أفرزت أسبابا أخرى واعتبارات تبرر ذلك وتتعلق بالسياسة والجنس ـ ما تزال سائدة حتى هذه اللحظة وفي كل الثقافات والحضارات والمجتمعات البشرية من دون استثناء، كما سبق ذكره. مع ذلك سيظّل اختراع الطباعة وتطوره التقني وتبلوره في صناعة تخص الإعلام والنشر وإعادة تشكيل رأي عام ما حول أمر محدد أو قضية من القضايا نقطة افتراق كبرى بين “ذهنية التحريم”، بتوصيف صادق جلال العظم، والعقل الإنساني المنفتح باتجاه تاريخه الثقافي والعام الخاصين به مثلما باتجاه المستقبل، الأمر الذي ما زال يمسّ الأمم كلها من دون استثناء ويبدو أنه سيبقى كذلك. اعتقال «العقلانية» في ذلك اليوم لم يكن يعلم المؤلف الشاب الذي لم يبلغ بعد الثلاثين من عمره والمُقبل إلى روما بناء على دعوة ما أيّ مصير سيواجه. كان ذلك الشاب قد خرج من سلالة الأفكار والمثقفين الغربيين الذين ترجموا ابن رشد إلى اللاتينية؛ هذه الترجمة التي كانت مزيجا من العقلانية الرشدية العربية والإسلامية من جهة ومن العقلانية الأرسطية التي لم تكن الثقافة الغربية تعرفها إلا بحسب ابن رشد وترجمته لمؤلفات ومحاورات أرسطو الإغريقي. لقد وصل إلى روما بعد أن ذاع صيته بسبب كتاب ألّفه تحت تأثير تلك الأجواء الثقافية التي كانت ما تزال نخبوية تماما آنذاك. اعتقل الشاب ـ وكان يُدعى جوردانو بيورنو ـ ما إن دخل إلى المدينة ثم حوكم بناء على قرب أفكاره من الأفلاطونية المحدثة وفلسفة الطبيعة، وانتهت حياته مأساوية في محرقة كامبو دي فيوري في السابع عشر من فبراير من العام 1600 ميلادية. وفي الثقافة الغربية هناك العديد من النماذج على هذا الصعيد، حتى إن محاكمات من طراز المحاكمات الشهيرة لكوبر نيكوس بعد حظر كتبه ولجاليليو صاحب العبارة المدويّة: “ولكنها تدور” ليست استثناء أبداً بل هناك ما هو أشد فظاعة ولؤما في سياق الاعتداء على الحياة الخاصة للمثقفين وعلى عقولهم وأفكارهم وكتبهم، وتحديدا ما إن بدأ تاريخ الطباعة واستيقظ الحظر للكتب مباشرة بتحفيز من مخاوف دينية أو بالأحرى بتحفيز من مخاوف رجال الدين على مواقعهم الاجتماعيةـ الاقتصادية، فهم محتكرو الكنيسة وتأويل نصّها المقدس وهم المخولون وحدهم بحسب هذا النص بمحاكمة الاختلاف عن ما يعتقدونه الصراط المستقيم. بدأ تاريخ الطباعة وصناعة النشر وظلّ على صراع دائم مع ثوابت الدين والسياسة والجنس إلى هذا اليوم والأرجح أنه سيستمر ما دامت هناك حاجة سياسية لاستثمار الدين أو الجنس أو الاثنين معا في مواجهة الأفكار عندما تكون جديدة وعلى قيد أن تتحول إلى حقائق علمية وترسخ بوصفها اكتشافات. اختراع الطباعة تُرى كيف ستبدو اليوم عبارة مثل هذه: “لقد ألهم الله جوتنبيرج باختراع الطباعة من أجل نشر أفكار مارتن لوثر كنج”؟. لقد ارتطبت الطباعة مع نشأتها بانتشار التعليم على نحو لم يكن مسبوقا من قبل، كما كان تحريم تداول الكتب وحظرها هو الوجه الآخر الأشد ظلامية، ذلك أن الطباعة قد ارتبطت أيضا بالإصلاح بشقيه: السياسي والديني، ما دفع بمؤسستي الدين والدولة إلى ممارسة التنكيل بالكتب والمؤلفين على حدّ سواء. ولعل أحد أوجه هذا النوع من الممارسات، أو أكثرها حقارة، هي إعادة الصياغة التي كانت تتعرض لها الأعمال الأدبية إلى درجة تشويهها وقتلها، حتى أن أحد رقباء محكمة تفتيش في كنيسة روما قد أُطلق عليه لقب: “قاتل بوكاتشيو” لأنه قام بتزوير الصياغة الأصلية لواحد من أوائل وأشهر الأعمال الروائية في الثقافة الغربية الذي هو “الديكاميرون” وهي مجموعة من الحكايات والقصص التي يتناوب على قولها ساردون عديدون حول الحياة السرية للرهبنة في الأديرة. لقد أدخلت محاكم التفتيش الكنسية إلى الأوساط الثقافية الأوروبية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر فكرة “الرقابة” المسبقة على الأفكار إلى دواخل الأفراد أنفسهم؛ أي إلى ذواتهم أثناء ممارساتهم لإنتاج الأفكار على نحو فردي وذلك من جرّاء تراكمات سلوكها القمعي والفظ تجاه كتب كانت تنادي بالإصلاح أو بإعادة علاقة الفرد بالكنيسة أو بالأعمال الأدبية التي كانت تتفتح هنا وهناك في أنحاء متفرقة من أوروبا. كما طال ذلك الأوساط العلمية والأكاديمية التي كانت تخضع لرقابات صارمة. وقد حدث ذلك مقترنا بالخوف من التنكيل، حيث كان قرار الكنيسة مرتبط مباشرة بالممارسة العنيفة للدولة. أيضا، من الصحيح أن العديد من أنواع الحظر كانت موجودة بأشكال مختلفة ومتفاوتة في “عصر المخطوط”، لكن فكرة “قوائم الكتب المحظورة” من التداول على نطاق واسع قد ظهرت في الفترة التالية واستمرت من بدء عصر الكتاب حتى تمّ إلغاء آخر القوائم العام 1966 من قبل الفاتيكان دون تقديم تفسير حقيقي أو مقنع خارج ما كانت تقوله منذ العصور الوسطى. فالكنيسة قد أُصيبت بالرعب حقا من انتشار أشكال مختلفة من التعليم الذي أصبح في متناول الناس بفضل اختراع الطباعة. لقد بلغ الأمر حدّا من المغالاة والتطرف لدى هذه الكنيسة أن باتت تفرض على “المؤمنين” الذين يمارسون “الاعتراف” الكنسي أن يعترفوا للكاهن الخاص بتلقي هذا النوع من الممارسة الدينية بعناوين الكتب التي قرأوها أو يقرأونها وإذا كان من بينها أي كتاب ينتمي لقائمة المنع فإنه يُحاكم، ما أدّى إلى أن يُقسم الكثير من هؤلاء الرعايا بالكفّ عن فكرة القراءة ذاتها. فلوبير والمفتي لكنْ، فكرة التحريم إذن هي ليست حكرا على ثقافة بعينها أو بأمة دون غيرها، أو بواحد من العصور. عربيا، فإن من المعروف أن نابلبون بغزوته الشهيرة لـ”المحروسة” هو الذي قد أدخل هذا “الشيطان” إلى المنطقة العربية، فزلزل السائد تعليميا وثقافيا، غير أن هذا الأمر كان مسبوقاً بحادثة في الصدد نفسه لا تخلو من الدلالة والطرافة معا وترقى إلى العام 1765 الذي هو تاريخ توقيع المثقف التنويري والكاتب المسرحي والروائي الفرنسي غوستاف فلوبير لمقالته الذائعة عن الموضوع. وحول هذه المقالة ذات الصلة، فمن الشائع أن الرجل أراد التهكم على الإجراءات التي تقوم بها سلطات الدولة والكنيسة في منع انتشار التعليم وآلة الطباعة وتغذية تطور صناعة النشر في بلاده فرنسا وكذلك من تواطؤ بعض المثقفين الفرنسيين آنذاك مع تلك الإجراءات. فكانت ذريعة فلوبير لذلك تتمثل في موقف مفتي الديار العثمانية يوسف شيريني من إدخال آلة الطباعة إلى بلاده أواخر القرن الثامن عشر، فيعدد فلوبير أسباب ذلك، ويقصد سلطة الدولة والكنيسة في أوروبا في الوقت نفسه، ومن بين هذه الأسباب أن سهولة النشر والطباعة سوف تعمل على التقليل من مستوى الأمية والجهل وترفع من مستوى الأساليب والأدوات العلمية في مقاومة الأوبئة وخاصة الطاعون ـ لطالما تمّ تشبيه انتشار الطاعون بانتشار الأمية والتخلف في ثقافة عصر التنوير العربي ومقولات مثقفيه العرب الذين أقاموا لبعض الوقت في فرنسا ـ مثلما أن ذلك سيساهم في نشر أفكار المثقفين والفلاسفة ما يعني أن مستوى الوعي الاجتماعي العام لن يكون في مصلحة رجل الدولة أو رجل الدين. نسبيا، تتوافق نظرة فلوبير مع الأسباب التي حدت بالمفتي العثماني لحظر استيراد آلة الطباعة الحديثة مع واقع الأمر بالفعل، وربما يكون المفتي ذاته قد تأثر إلى هذا الحدّ أو ذاك بما كان يجري في أوروبا اللصيقة بتركيا العثمانية ليقول أسبابا في فتواه تشبه تلك الأسباب التي اتخذتها السلطات الكنسية المناهضة لانتشار الطباعة في أوروبا. إذ أن جوهر الموقف من الكتاب وتجربة انتشاره في المنطقة العربية تاريخيا يرتبط ببعدين أساسيين هما: الدين والسياسة بالدرجة الأولى، أما الجنس فهو ذريعة السطوة المستمرة لذلك البعدين في ممارستهما الرقابة المستمرة على المجتمع، في حين كانت الثقافية العربية، بوصفها حقلاً لإنتاج الأفكار وتجاوزها، هي الخاسر الأكبر. راهنا ما من “دار رقابة” عربية أو “ديوان رقابة” عربي إلا وفيها قائمة من الكتب الممنوعة، سرية كانت أم علنية وتحمل الآلاف من أسماء المثقفين والعناوين. غير أن بقاء تاريخ حظر الكتاب وممارسة الاغتيال الممنهج للأفكار، في الثقافة العربية إجمالا ومنذ نشوئه في الفترة السابقة على انتشار التعليم وصناعة النشر في المنطقة العربية، في منأى عن البحث والتقصي بأدوات علمية أكاديمية رصينة هو الذي يحول دون الوصول إلى نتائج علمية راسخة بصدد الآثار السلبية والإيجابية ـ إنّ وجدت ـ التي تركها على الثقافة العربية، إذ أن من سمات هذا التاريخ أنه بلا أرشيف تقريبا باستثناءات نادرة تتمثل في محاكمات شهيرة لبعض الكتب من القرن الماضي، ما يعني أنه، في نهاية الأمر، بلا تاريخ رواية عنه تسنده وتكشف عن طبيعة التجاذبات السياسية وغير السياسية فيه.. هذا كله أدى إلى أن يكون تاريخا مهملا بل وجديرا بالشفقة لأنه تاريخ بلا تراكم. أيضاً ارتبط تاريخ منع الكتاب الحديث في المنطقة العربية باجتهادات فكرية، تلامس الدين الإسلامي هنا أو هناك وبهذا القَدْر أو ذاك وعلى نحو إشكالي أيضا، دون أن يرتبط هذا المنع بمنهجية فكرية رصينة خارج مثلث: السياسة والدين والجنس. يجعل ذلك من الصعب جدا النظر إلى هذا التاريخ بأنه تاريخ صراع أفكار وصراع إرادات حاله في ذلك حال أي حقل تاريخي آخر، والنتيجة الكارثية لذلك هو ممارسة قتل “الحوار المتبادل” في الثقافة العربية الحديثة والراهنة... أليست أي ثقافة يغيب عنها الحوار هي ثقافة راكدة، إن لم نقل مائتة؟ أليست هي أيضا ثقافة خوف وتربص على مستوى السلوك اليومي واتهام ورغبة في التنكيل والإطاحة بالآخر؟ ألست هي ثقافة الأفكار الجاهزة والمعلبة المستوردة والمتوطنة؟ أليست هي ثقافة غياب الإرادة أيضا؟ حقا، وطيلة السنوات الستين السابقة، أسهمت الممارسة العربية لحظر الكتب في سبيل الإعلاء السياسي والثقافي من شأن طرف على حساب أطراف أخرى مختلفة في الرأي والاجتهاد في وصولنا إلى ما وصلنا عربا عاربة وأخرى مستعربة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©