الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نار السياسة وحرارة الشعر

نار السياسة وحرارة الشعر
29 أغسطس 2013 12:10
كلما فكرت بإغلاق ملف شعراء الأندلس، تسطع أمام عيني أسماء لشعراء لا يقلون عطاءً ولا إبداعاً عن الذين تناولت سيرتهم وشعرهم في هذه السلسلة، لأجد نفسي مطالباً بعدم إغفال هذه الأسماء والتحدث عنها وعن عطاءاتها. ابن حزم الأندلسي واحد من هؤلاء، بل من أهم شعراء وفقهاء وعلماء الأندلس. ? من هو هذا الشاعر العالم الفقيه؟ ?? إنه أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري. ولد ابن حزم في قرطبة وإليها انتسب فيما بعد، وذلك في عام 384 هجرية الموافق لعام 995 ميلادية، وتوفي في عام 456 هجرية الموافق 1063 ميلادية وبذلك يكون قد عاش ثمانية وستين عاماً. ورغم اختلاف المؤرخين حول أصوله القومية، وطرح تساؤلات كثيرة حول نسبه وتاريخ عائلته، إلا أن عائلة هذا الشاعر المفكر الفيلسوف كانت من أهم العائلات التي ساهمت في صنع تاريخ الأندلس العربي. وسواء كانت تلك الأصول فارسية، كما ذكرت بعض المراجع أو إسبانية، كما ذكرت مراجع أخرى، أو عربية كما أكدت كثير من المراجع، فإن ابن حزم في النهاية كان شاعراً عربياً وفيلسوفاً وفقيهاً، ظلت الكتب التي بذل عمره ليؤلفها شاهداً حياً على عظمة ورقي ذلك العطاء الذي قدمه ابن حزم للحضارة العربية ومنذ نعومة أظفاره كرَّس ابن حزم حياته لبناء فكره والتسلح بثقافة عصره والعلم الذي وصل إليه جيله، فأخذ المنطق عن محمد بن الحسن القرطبي، وأخذ الحديث عن يحيى بن مسعود، وأخذ الفقه الشافعي عن شيوخ قرطبة، ونشأ شافعي المذهب، ثم انتقل إلى المذهب الظاهري حتى عرف بابن حزم الظاهري. وكان ابن حزم بالإضافة إلى ما تقدم أموي الهوى، فما كاد الحكم الأموي يتخلخل ويتلاشى في الأندلس حتى قام ينافح عن بني أمية وألف كتابه “طوق الحمامة” متأثراً بالفتنة التي حدثت في قرطبة التي اضطر إلى الهجرة منها والاستقرار بمدينة المرية، حيث منها بدأ يعمل لإعادة الخلافة إلى الأمويين، متعرضاً للاضطهاد والأذى من أولئك المعادين للحكم الأموي في الأندلس، معانياً النفي والتشريد عن وطنه قرطبة يكاد يذوب من الحنين شوقاً للعودة إليها وإعادة أيامه الجميلة فيها. ولكن جهوده باءت بالفشل وتلاشت آماله بعد أن تأكد زوال الحكم الأموي وبدأت مرحلة جديدة في تاريخ الأندلس، فلم يكن أمامه من خيار إلا العودة لما كان فيه من انشغال بالتأليف وتفرغ للعمل، فتمكن ذلك المبدع الرائع من إثراء المكتبة العربية بعشرات المراجع التي بقيت حتى الآن مجمع المثقفين والمبدعين العرب بعد وفاته.ولأن ابن حزم انتمى بفكره إلى بني أمية ودافع عنهم ولم يدخر جهداً في سبيل نصرتهم، ولأنه كان عظيم العطاء رائع الإنتاج، فقد عاش حياة ملأى بالمحن والشدائد والخطوب.. فاجتمع عليه حاسدوه وألبوا الحكام الذين جاؤوا بعد بني أمية ضده.. فأحرقوا مؤلفاته علانية وأمام العامة في إشبيلية، ومع ذلك فإن قسماً كبيراً من تلك المؤلفات وصل إلينا ليضعنا في صورة ذلك الشاعر المبدع والمفكر العميق والفقيه المتمكن، ومن هذه الكتب على سبيل المثال لا الحصر: طوق الحمامة، رسائل ابن حزم، الناسخ والمنسوخ، جمهرة أنساب العرب، الأحكام في أصول الأحكام، حجة الوداع، الإملاء في شرح الموطأ. بالإضافة طبعاً إلى ديوان شعره والذي هو أكثر ما يهمنا في هذه العجالة. فمن خلال الشعر تتوضح أفكار ابن حزم وفلسفته ونظرته إلى الكون. وبالاطلاع على شعر ابن حزم الأندلسي، نجد أن ذلك العالم الفقيه، كان شاعراً رقيقاً. لم ينسلخ عن الانفتاح الاجتماعي الذي كانت تعيش فيه الأندلس في أيامه، فهو لا يمكن أن ينظم الشعر إلا إذا شعر بالحب وعاش فيه، فالشعر والحب توأمان.. وفي ذلك يقول ابن حزم: جرى الحبُّ مني مجرى النفسْ وأعطيت عيني عنان الفرسْ وليس سيدٌ لم يزل نافراً وربما جاد لي في الخلسْ فقتله طالباً راحة فزاد جفاناً بقلبي اليبسْ وكان فؤادي كنبت هشيمٍ يبسٍ رمى فيه رامٍ قبسْ ويا جوهر الصين سحقاً فقد غنيت بياقونة الأندلسْ ويبلغ ابن حزم في رقته ما يجعله يخاف على حبيبته أن تذوب من لمسة كفّه، لما فيه من حرارة الحب ولوعة الشوق يقول ابن حزم: أغار عليك من إدراك طرفي وأشفق أن يذيبك لمس كفّي فأمتنع اللقاء حذار هذا وأعتمد التلاقي حين أغفي فروحي.. إن أنم بك ذو انفرادٍ من الأعضاء مستتٍر ومخفي ووصل الروح ألطف فيك وقعاً من الجسم المواصل ألف ضعف كان ابن حزم مطلعاً على تراث العرب الشعري وحافظاً لقصائد شعراء الجاهلية والإسلام وندرك مدى تأثره بشاعر عربي قديم من شعراء المعلقات هو طرفة بن العبد من خلال قصيدة له يضع فيها لكل صدر من أبياته، عجزاً في أبيات طرفة.. يقول ابن حزم: تذكرت وداً للحبيب كأنه (1) لخولة أطلالٌ ببرقة ثهمد (2) وعهدي بعهدٍ كان لي منه ثابتٌ يلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد إلى أن أطال الناس عذلي وأكثروا يقولون لا تهلك أسى وتَجلَّد ولقد عزف ابن حزم في شعره على جميع الأوتار وخاض في معظم بحور الشعر، من الطويل إلى البسيط إلى الكامل إلى المتقارب إلى الخفيف إلى الوافر إلى المديد إلى الرمل، فلكل بحر إيقاعاته وموسيقاه وكان ابن حزم بحاراً خبيراً تجري الرياح بما تشتهي سفنه. لنسمعه وهو يغني: وجهٌ تخر له الأنوار ساجدةً والوجه تمَّ فلم ينقص ولم يزدِ دفء وشمس الضحى بالجدي نازلةٌ وبارد ناعمٌ والشمس في الأسد يومٌ لفارق عمري لست أكرهه أصلاً وإن شت شمل الروح عن جسدي ففيه عانقت من أهوى بلا جزع وكان من قبله إن سيلَ (3) لم يَجُدِ أليس من عجب دمعي وعبرتها يوم الوصال ليوم البين ذو حسدِ بل إن الحب لدى ابن حزم يصل إلى درجة المرض الذي يحتاج فيه المحب إلى طبيب ليعالجه، ولم يقصر ابن حزم في علاج نفسه بل ذهب فعلاً إلى الطبيب ودار هذا الحوار بينه وبين طبيبه: يقول لي الطبيب بغير علمٍ تداوَ فأنت يا هذا عليلُ ودائي ليس يدريه سِوائي وربٌ قادرٌ ملِكٌ جليلُ أأكتُمُهُ ويكشفه شهيق يلازمني وإطراق طويلُ فقلت له أَبنْ (4) عنَّي قليلاً فلا والله تعرف ما تقولُ فقالَ أرى نحولاً زاد جداً وعلتك التي تشكو ذبولُ فقلت له الذُّبُولُ تعلُّ منهُ (5) الجوارحُ وهي حمى تستحيلُ وما أشكو لعمرُ الله حمى وإن الحرَّ في جسمي قليلُ فقال أرى التفاتاً وارتقاباً وأفكاراً وصمتاً لا يزولُ وأحسب أنها السوداء فانظر لنفسك إنها عرض ثقيل فقلت له كلامك ذا محالٌ فما للدمع من عيني يسيلُ فأطرقَ باهتاً مما رآهُ ألا في مثل ذا بهت النبيلُ نصل الآن إلى قصيدة ابن حزم التي يلخص بها تجربته في الحياة ويستخرج من خلالها فلسفته ونظرته العميقة.. يقول ابن حزم: بلغت من لذة الدنيا ذرى أربي (6) في لذة العيش والسلطان والنشب فأذهبت دول الأيام منزلتي وزاد فقديَ للذات في كربي وكان مالي لهذا كلّه تبعاً بل صار عوناً لأعدائي على طلبي لكن رجعت وقد جدّ الزمان إلى كنزٍ من العلم والأخلاق والأدب فاعجز الدهر أن يودي بواحدةٍ منها واقصر عني واهي السببِ هذا بلا كلفةً مني ولا حرسٍ ولا عديدٍ ولا إنفاق مكتسب وكم أخِ لي مصفٍ غير مضطربٍ لأن ما فيه آخى غير مضطرب وكل من كان في دنيايَ يصحبني ناديته حين خانتني فلم يجبِ كلام من جرّب الأمرين وانفتحت له المذاهبُ من جدٍ ومن لعب أنا ابن من دبّر الدنيا بخاتمه عشرين عاما وعشرٌ بعد لم يربِ (7) وإن منزلتي في العلم منزلةٌ في الملك حظٌ كحظ الصادق النسبِ ما زلت اذخره دهري وانفقُه كفعله في اللجين المحض والذهبِ لو استطعت منحت الناس كلَّهمُ ما قد تجمع في حفظي وفي كسبي وكيف أستر فعلي رتبتي أبداً ومن يخلِّدُ ذكري آخر الحقبِ ومن يكثّر لي أهلي ويجعلني صديق من شئتُ من عُجمٍ ومن عربِ أنيس روحي إذا ما الدهر أوحشني ونور عقلي وجالي غُمَّةِ النكبِ سائل بأي علوم العالمين تجد عندي ينابيع ذاك العلم من كُتبِ فقد حصلت على الآمال أجمعها وخاب من في سوى ذا كان ذا تعب معاني الألفاظ: 1 - كلمات ابن حزم 2 - كلمات طرفة بن العبد 3 - سيل: سئل، وخففت الهمزة وقلبت ياء، مثل شيئاً تقال شيّا 4 - أبن: ابتعد 5 - تعل: تشرب 6 - الأرب: الحاجة 7 - لم يُرب: لم يزد المراجع والمصادر: 1 - موقع قصة الإسلام: إشراف د. راغب السرجاني 2 - ديوان ابن حزم: جمع وتحقيق صبحي رشاد عبدالحكيم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©