الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الفلسفة بديل الأم

الفلسفة بديل الأم
28 أغسطس 2013 20:08
احتفلت فرنسا عام 2013 بمرور 100 عام على ميلاد الفيلسوف الكبير بول ريكور، والذي رحل عن العالم عام 2005. وبهذه المناسبة أقيمت في فرنسا، وفي العديد من البلدان الأوروبية الأخرى، وحتى في الولايات المتحدة التي يحظى فيها بتقدير كبير، ندوات وتظاهرات فكرية وفلسفية في أرقى الجامعات لاستعراض مسيرته المديدة، وتقديم قراءات جديدة لمجمل أعماله الفلسفية وتحديد الدور الذي لعبه في مجال تطوير الفلسفة خلال القرن العشرين، إذ إنه كان محيطاً بالعديد من المجالات مثل علم النفس، والوجودية، والظاهراتية أو الفينيمونولوجيا، والفلسفة التحليلية، واللسانيّات، والنظريات التاريخية، وبالأدب بالخصوص. كما أنه تشبّع منذ بداية مسيرته بأعمال عظماء الفلاسفة من أمثال أرسطو، وكارل ياسبرس، وهوسرل، وسبينوزا، وكيركوغارد، وهايدغر، وهابرماس، وليفي شتراوس وغيرهم. وكان معاصراً للعديد من الذين لعبوا أدواراً مهمة وأساسية في إثراء الفكر الفلسفي في فرنسا من أمثال جان بول سارتر، وإمانويل مونييه، وجيل دولوز، وميشال فوكو، وكوستورياديس، وبورديو. وكان بول ريكور المولود في السابع والعشرين من شهر فبراير 1913 في الثانية من عمره لما فقد والديه، فتكفّل جداه بتربيته. وفي ما بعد سيقول في حوار أجري معه في التسعينات من القرن الماضي مفسّرا ندرة الحديث عن والدته: “في الحقيقة لم أعرف أمي. كما أن جدّي اللذين ربّيانني لم يكونا يعرفان عنها الشيء الكثير. وأفترض أنهما لم يكونا يرغبان في زواجها من والدي (...) ما أستطيع قوله بشأنها هو أنها كانت تنتسب الى عائلة كثيرة الأفراد تدعى عائلة “فافر”. وقد عثرت على وثائق تتعلق بها، وقمت بأبحاث اعتمادا عليها غير أني لم أعثر على أيّ أحد ذكر لي أنه كان يعرف والدتي. وقد سمعت كلمة “أمي” عندما خاطبت زووجتي أمها، أو عندما خاطب أبنائي أمّهم، أي زوجتي. أمّا بالنسبة لي فإن كلمة “أمي” لم يكن لها وجود في حياتي”. ومنذ الطفولة وجد بول ريكور في القراءة ما أنساه حزن اليتم ووحشته. وهكذا راح يلتهم الكتب القديمة والحديثة محاولا من خلالها البحث عن معنى لحياته وللوجود من حوله. وخلافا لزملائه الصغار الذين غالبا ما كانوا يظهرون ضيقا بشأنها، أحب المدرسة وتعلّق بها تعلّقا شديدا، معتبراً إياها فضاءه الروحيّ، ومكنّا لأساتذته تقديرا كبيرا. وفي ما بعد سيقول في نفس الحوار المشار اليه سابقا: “كانت عائلتي تعيش في عالم منغلق. وأنا كنت دائما وحيدا. أما المدرسة فقد كانت بالنسبة لي الفضاء الواسع المفتوح على العالم الر حب.. وكنت أندهش حين أسمع أطفالا يتذمّرون من المدرسة والسبب هو أنني كنت فيها مثل سمكة في الماء”. وباكرا، أقبل بول ريكور على قراءة أعمال كبار الأدباء من الفرنسيّين، وغير الفرنسييّن. وبعد حصوله على شهادة التبريز في الفلسفة عام 1935 التحق بول ريكور بهيئة تحرير مجلّة “فكر” التي كان يرأس تحريرها الفيلسوف امانويل مونييه صاحب مذهب “الشخصانيّة”.. وعندما اندلعت الحرب أسره الألمان ليمضي مدة أسره التي استمرت أربعة أعوام في معسكر الضبّاط. وعن تجربة الأسر يقول: “في كلّ المعسكرات التي أقمت فيها، وجميعها مخصّصة للضبّاط، لم يحدث ما يمكن أن يعدّ خرقا للمعاهدات الدولية مثل معاهدة لاهاي أو جينيف. ما حدث فقط هو نوع من التضييق علينا بسبب فرار البعض منا. أمّا بالنسبة لظروف اعتقالنا فيمكن القول إنها كانت معقولة. وكنا نحصل على نفس الأغذية التي يحصل عليها عامة الناس في زمن الحرب. وفي الزنزانة كنّا مجموعة من المثقفين بينهم يهوديّان هما الكاتب روجيه إكور والفيلسوف إمانويل ليفيناس”. وفي المعتقل، قام بول ريكور بترجمة أحد كتب هوسرل، مؤسّس الظّاهراتيّة. كما قرأ مجمل أعمال كارل ياسبرس الذي سيخصص له عام 1947 كتابا حمل عنوان: “كارل ياسبرس وفلسفة الوجود”. أمّا هايدغر فلم يفتنه كثيرا مثلما هو الحال بالنسبة لسارتر والعديد من الفلاسفة الفرنسيين الآخرين. وعنه يقول: “فلسفة هايدغر تركّز كثيرا على مسألة الوجود، والأونطولوجيا (علم الكائن). لذلك فإن كلّ ما هو متعلّق بالاختيارات الأخلاقيّة والسياسية غائب تماما. إنها أنطولوجيا لم تكن قادرة على إنتاج أستيتيقا لذا لم يكن لها خطّ دفاعيّ داخليّ. من هنا نفهم مساندته للنازية”. في الخمسينات من القرن الماضي عمل بول ريكور أستاذاً للفلسفة في جامعة “السربون”.. وفي هذه الفترة ارتبط بعلاقة وثيقة بكلّ من مارلو بونتي الذي كان آنذاك خصما لدودا لسارتر. كما عمّق علاقته بمجلة “فكر” وبصاحبها إمانويل مونييه. في الآن نفسه شرع في إصدار العديد من المؤلّفات الفلسفية التي بوّأته مكانة في المشهد الفلسفي الغربي. وعند اندلاع الثورة الطلاّبيّة في ربيع 1968، استقال بول ريكور من منصبه كأستاذ في قسم الفلسفة في جامعة “السربون” ليؤسّس جامعة “نانتير”. لكن عندما خسر كرسيّ “الكوليج دو فرانس” أمام ميشال فوكو، ترك فرنسا ليدرّس الفلسفة في أرقى الجامعات الأمريكيّة. وفي الثمانينات من القرن الماضي، أصدر مؤلفه الفلسفي الأساسي: “الزمن والسّرد” في ثلاثة مجلّدات وفيه يطرح رؤيته للعديد من القضايا الفلسفية ألأساسيّة المتصلة بالأساطير، والأديان، والأدب، والعلوم الإنسانية، والعلوم الصحيحة. كما يتحدث فيه عن من يسمّيهم بـ”معلّمو الشكّ”. ويعني بهم ماركس، ونيتشه، وفرويد. ومثل فوكو الذي حاول أن يقدّم تفسيرا فلسفيّا لشخصيّة الكاتب، وجيل دولوز الذي اهتمّ بفنّ الرواية في كتابه “بروست والدّلالات”، ودريدا الذي سعى لفهم الكتابة من وجهة نظره كفيلسوف، أولى بول ريكور اهتماما كبيرا بالأدب في مؤلّفه المذكور، وفي العديد من مؤلّفاته الأخرى. . وقد أولى بول ريكور عناية خاصّة بثلاثة أعمال روائيّة شهيرة، وعنها كتب دراسات مهمّة، طرح من خلالها العديد من القضايا المتّصلة بالعلاقة بين الأدب، والفلسفة. وهذه الأعمال هي: “السّيّدة دالّاوي” لفيرجينا وولف، و”الجبل السّحريّ” لتوماس مان، و”البحث عن الزّمن الضّائع” لمارسيل بروست. وفي السّنوات الأخيرة من حياته انكبّ على كتابة ملاحظات، وخواطر مستوحاة من قراءاته لـ”أوليسيس” جيمس جويس، ومسرحيّات شكسبير ولأشعار آنّا أخماتوفا الروسيّة التي اكتشفها عند زيارته لمدينة سنات بطرسبورغ في ربيع عام 2003.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©