الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لو كان الشعر رجلاً.. لكان المتنبي

لو كان الشعر رجلاً.. لكان المتنبي
2 يناير 2013 20:28
الدكتور عارف الكنعاني كان ولا يزال مثيراً للجدل، محيراً للعقول، شاغل الناس على مر العصور، حامل لواء الشعر.. كلماته محفورة في ذاكرة الشعر وعلى جدار الخلود. هو أبو الطيب أحمد بن الحسين بن مرة بن عبدالجبار الجعفي الكندي الكوفي.. وكندة التي ينتسب إليها هي حيّ من أحياء الكوفة وليست قبيلة كندة. لم يشر المتنبي في شعره أو نثره إلى أبيه وجده، ولكنه ذكر جدته والتي كان يدعوها أمه.. وتؤكد المراجع التاريخية أنها همدانية ومن خيرة نساء الكوفة. يقول أبوالطيب عنها: ولو لَمْ تكــوني بنـت أكـرم والدٍ لكان أباكِ الضخـم كونكِ لي أمّا ولعلّ شاعرنا كان يخجل من مهنة أبيه الذي كان يعرف بعبدان السقاء. ولكن عندما سأله المحسَّنُ عن نسبه، قال: ? أنا رجل أخبط القبائل وأطوي البوادي وحدي. ? أما لك نسب تنتسب إليه؟. ? وما حاجتي إلى النسب؟. ? كل شاعر ينتسب إلى قبيلة من قبائل العرب ويفخر بنسبه. ? أنا أفخر بنفسي.. ثم إن الانتساب قد يجر العواقب. ? أية عواقب يا أبا الطيب؟ ? إذا انتسبت إلى قبيلة لم آمن أن يأخذني بعض العرب بطائلة بينه وبين القبيلة التي أنتسب إليها.. وما دمت غير منتسب إلى أحد فأنا أسلم على جميعهم .. وجميعهم يخافون لساني. ? ولكن يا أبا الطيب القبيلة تشرف شاعرها.. لا بقومـي شـرفتُ بَلْ شــرفوا بي وبنفســي فخــرتُ لا بِجُـدودي ولقد تعرض أبو الطيب إلى السب والشتم بسبب كون أبيه سقاء، فقال أحد الشعراء الذين هجوه: أي فضلٍ لشاعرٍ يطلبُ الفض ـلَ من الناسِ بكرةً وعشيّا عاش حيناً يبيع في الكوفة الما ء وحـيناً يبيـعُ ماءَ المحـيّا نبوغ استثنائي ولد أبو الطيب المتنبي حسب مراجع السير في محلة كندة بالكوفة سنة 303 هجرية. تميّز منذ الطفولة بالذكاء وقوة الحفظ وحبه للعلم والأدب وملازمة الوراقين الذين تعلَّم من قراءة ما لديهم من مخطوطات .. ويروى أنه كان عند أحد الورّاقين فجاء أحدهم بمخطوطة ليبيعها لذلك الوراق.. فأخذ أبو الطيب الكتاب المخطوط وأخذ يتفحصه. ? ماذا تفعل يا رجل؟ ? أقرأه وأحفظه. ? بهذه السرعة؟ ? نعم بهذه السرعة. ? لن تستطيع حفظ كل هذه الصفحات حتى بعد سنة. ? وإن كنت قد حفظته خلال دقائق. ? إن فعلت.. والله لأعطيكه، وقد فعل. ومن المؤكد أن المستوى الذي وصل إليه المتنبي في شعره وفي لغته لم يكن وليد ملازمة الورّاقين أو مصاحبة البدو في الصحراء، بل إن ذلك يرجع أيضاً لبعض العلماء الكبار مثل السكري ونفطويه وأبي بكر محمد بن دريد وأبي القاسم عمر بن سيف البغدادي وأبي عمران موسى. ورغم أن المتنبي عاش في العراق ثمانية عشر عاماً إلا أنه لم يذكر العراق في شعره، معتبراً أن وطن الإنسان هو المكان الذي حل فيه ولقيَ خيراً وصادق أهلاً وأصحاباً كرموه واهتموا به. ويبدو أن الكوفة وحتى بغداد ضاقت بآماله وطموحاته.. فرحل إلى الشام وأقام فيها في أواخر الحكم العباسي .. وكانت الشام مقسمة بين الإخشيد وابن رائق وسيف الدولة. ألصقت بشاعرنا العظيم أبي الطيب تهمة ادعاء النبوة.. وقيل إنه سمّي بالمتنبي في بداية مسيرته الشعرية لإعلان أنه نبي مرسل، وذلك في بادية السماوة، حيث بايعه خلق كثير من سكان تلك البادية.. ولكن تلك حكايات غير ثابتة وغير مؤكدة ينفيها العقل والمنطق وسيرة الرجل العفيف المؤمن بربه والمسلم بعقيدته. ولعلّ بعض ما قاله من الشعر هو السبب الذي جعل الناس يطلقون عليه اسم المتنبي كقوله: أنـا في أمّــة تداركهــا اللــه غريـبٌ كصـالحٍ في ثمـودِ أو قوله: ما مقامي بأرضِ نخلةَ إلاّ كمقام المسيحِ بين اليَهودِ بعد أن تمكن المتنبي من الشعر.. ومن اللغة.. بدأ مسيرته التي وظّف فيها موهبته الشعرية لتحقيق تلك الطموحات. كان الشعراء في مختلف العصور يتكسبون في شعرهم بمدح السلاطين والأمراء وكبار القوم.. فيكافئهم الممدوحون ويعيشون على تلك المكافآت. ورغم أن المكافآت التي حصل عليها المتنبي من شعره كانت كبيرة إلا أنه كان ينتظر مكافآت من نوع آخر. كان ينتظر أن يكون والياً على مكان حاكماً متحكماً.. وهذا ما جعله يرحل إلى مصر ليمدح كافور الإخشيدي طمعاً أن يقطعه كافور ضيعة أو إمارة، وذلك بعد أن يئس من سيف الدولة الحمداني وإمكانية الحصول منه على ولاية يحكمها. كان لدى أبي الطيب المتنبي ثقة بنفسه وصلت إلى درجة الغرور والتعالي على الناس.. ولم يجد حرجاً أن يظهر ذلك التعالي والاحتقار للناس حين قال وفي مجلس سيف الدولة نفسه: سيعلمُ الجمعُ ممن ضمّ مجلسنا بأنّني خيرُ من تسعى به قدمُ شعر وسياسة شهد عصر الشاعر أبي الطيب المتنبي وضعاً سياسياً معقداً في ظل ضعف الدولة العباسية ونشوء الإمارات والدول. وقد نشأت في المنطقة العربية على عهد المتنبي أربع دول: الدولة الأولى؛ دولة الحمدانيين بالموصل وحلب (317 هـ - 394 هـ). والدولة الثانية؛ دولة بني مرداس. والثالثة؛ دولة بني المسيب. والرابعة؛ دولة بني مريد. ولقد اتجه أبو الطيب المتنبي إلى دولة الحمدانيين وأميرها سيف الدولة الحمداني. كان سيف الدولة رجل سيف وقلم.. حيث قارع الروم دفاعاً عن الأرض العربية وذوداً عن بني دينه وعروبته.. وحقق العديد من الانتصارات. وكان في الوقت نفسه مقصد العلماء والأدباء والشعراء حتى قيل: «لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من شيوخ الأدب وفحول الشعر». اللقاء الأول الذي جمع أبا الطيب بسيف الدولة الحمداني كان في أنطاكية وفي قصر واليها أبي العشائر بن حمدان المعين من قبل سيف الدولة. كانت زيارة سيف الدولة لوالي أنطاكية خلال وجود أبي الطيب الذي قام بمدح أبي العشائر.. وكان أبو العشائر يعرف مدى اهتمام الأمير بالشعر والشعراء.. فطلب من المتنبي أن يقوم بمدح سيف الدولة. ? ولكنني لا أعرفه. ? سأقدمك إليه يا أبا الطيب.. وعندما تصافحه لا بدّ من مدحه بواحدة من قصائدك العصماء. ? اسمع يا أبا العشائر .. ما قمت بمدحك إلاّ بعد أن قامت صداقة حميمة بيننا. ولا يمكنني أن أمدح أحداً لأنه أمير أو والٍ. لا بد من أن يكون صديقي أولاً. ? سيكون صديقك يا أبا الطيب.. اعتمد عليّ. ? حسناً.. ولكن لي شروط .. من دونها لا أستطيع أن أمدحه. ? وما هي شروطك؟ ? لن أُقَبِّل الأرض بين يديه. ? لا تفعل. ? لن ألقي قصيدتي وأنا واقف كعادة الشعراء. ? ألقها وأنت جالس إلى جانبه. ? لا بدّ من الحصول على موافقته حتى لا يحدث ما لا أحب ولا يحب. وبالفعل وافق سيف الدولة على شروط المتنبي.. وكان ذلك ما تميز به المتنبي على الشعراء جميعاً. وقامت صداقة حقيقية بين الأمير والشاعر.. حيث كان سيف الدولة سمح النفس كريم الخلق فاتخذ من المتنبي صديقاً وصاحباً، وقامت بينهما علاقات محبة واحترام متبادل جعلت المتنبي يبدع في مدح سيف الدولة ويخلد الحرب والمعارك التي خاضها دفاعاً عن الوطن وذوداً عن الأرض والعرض. وأغدق سيف الدولة على الشاعر.. فكان يعطيه ثلاثة آلاف دينار في السنة.. وكان المتنبيّ ينظم ثلاث قصائد في العام مما جعل الأمير الشاعر أبا فراس يقول لسيف الدولة: - إن هذا المتشدق كثير الإدلال عليك وأنت تعطيه كل سنة ثلاثة آلاف دينار على ثلاث قصائد، بينما يمكنك أن تغدق مائتي دينار فقط على عشرين شاعراً يأتون بما هو خير من شعره. وقد يكون أبو فراس محقاً في وصف المتنبي بالمتشدق.. ولكنه بالتأكيد غير محق في مقارنة أبي الطيب بعشرين شاعراً؛ فأبو الطيب قمة يصعب الوصول إليها.. حتى هو نفسه الشاعر الأمير ما كان ليصل إلى تلك القمة التي تربع فوقها أبو الطيب المتنبي. والقصيدة التي اخترناها لهذا الشاعر لها حكاية. فقد كان سيف الدولة إذا تأخر عليه أبو الطيب بالمديح شق عليه ذلك وأحضر شعراء آخرين ليمدحوه نكاية وإغاظة لأبي الطيب.. وكان أبو الطيب يصمت بترفع عن ذلك فيزداد سيف الدولة حنقاً عليه، وما كان منه أخيراً إلا أن ألقى تلك القصيدة الميمية المعروفة والتي فيها من العتاب لسيف الدولة أكثر ما فيها من المديح: واحرّ قلباهُ مِمّن قلبهُ شبمُ ومَنْ بجسمي وَحالي عندَهُ سَقَمُ مالي أكَتِّمُ حبّاً قد برى جسدي وتدّعي حبَّ سيفِ الدولةِ الأممُ إنْ كانَ يَجمُعنا حبٌّ لِغُرَّتِهِ فليتَ أنّا بقدرِ الحُبِّ نَقتسمُ قد زرتُهُ وسيوفُ الهندِ مُغمدةٌ وقد نظرتُ إليهِ والسيوفُ دَمُ فكانَ أحسنَ خلقِ اللهِ كلِّهمِ وكان أحسنَ ما في الأحسنِ الشيمُ فوتُ العَدوِّ الذي يممتَهُ ظفرٌ في طيّه أسَفٌ في طيّهِ نِعمُ قد نابَ عنكَ شديدُ الخوفِ واصطنعتْ لك المهابةُ ما لا تصنعُ البَهَمُ ألزمتَ نفسكَ شيئاً ليس يلزمها أن لا يواريهِمُ أرضٌ ولا عَلِمُ أكلما رمت جيشاً فانثنى هرباً تصرفَتْ بكَ في آثارهِ الهِمَمُ عليكَ هزمُهُمُ في كل مُعتركٍ وما عليكَ بهم عارٌ إذا انهزموا أما ترى ظفراً حلواً سوى ظفرٍ تصافَحَتْ فيه بيضُ الهندِ واللّمَمُ يا أعدلَ الناس إلا في معاملتي فيكَ الخصامُ وأنتَ الخَصمُ والحكمُ أعينُها نظراتٍ منكَ صادقةً أن تحسبَ الشحمُ فيمن شحمُهُ وَرَمُ وما انتفاع أخي الدنيا بناظرهِ إذا استَوَتْ عندَهُ الأنوارُ والظلمُ أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعَتْ كلماتي مَنْ بهِ صَمَمُ أنامُ مِلءَ جفوني عن شواردها ويسهرُ الخلق جراها ويختصِمُوا وجاهلٌ مدّهُ في جَهْلِهِ ضَحِكي حتى أتتهُ يدٌ فراسةٌ وَفمُ إذا نظرتَ نيوبَ الليثِ بَارزةً فلا تظنّن أنّ الليثَ يَبْتسِمُ الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيفُ والرمحُ والقرطاس والقلمُ يا من يَعزّ علينا أن نُفارِقَهمْ وجداننا كل شيء بَعدكمْ عَدمُ إن كانَ سرّكُم ما قالَ حاسدُنا فما لِجُرحٍ إذا أرضاكمُ ألَمُ وبيننا لو رعيتُم ذاكَ معرفةٌ إن المَعارف في أهلِ النهى ذِممُ كَمْ تطلبونَ لنا عيباً فيُعجزكُمْ ويكرهُ الله ما تأتونَ والكَرمُ ما أبعدَ العيبَ والنقصان عن شِرفي أنا الثريّا وذانِ الشيبُ والهرمُ إذا ترحّلتَ عن قومٍ وقد قَدِروا أن لا تفارقهم فالراحلونَ همُ شرُّ البلادِ مكانٌ لا صديقَ بهِ وشرُّ ما يَكْسِبُ الإنسانُ ما يَصمُ شرح المفردات: الشبم: البارد. براه: أنحله وأضناه. يممته: قصدته. الأسف: الحزن. البُهم: الأبطال. رمت: طلبت. اللّمم: جمع لمة وهي الشعر إذا ألمّ بالمنكب. مدّه: أمهله. فراسة: مفترسة. يصم: يعيب. المراجع والمصادر: -1 شرح ديوان المتنبي، عبدالرحمن البرقوقي. -2 ذكرى المتنبي، الدكتور عبدالوهاب عزام. -3 لسان العرب، ابن منظور.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©