الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأفكار الجديدة

27 نوفمبر 2010 20:07
يلعب الإعلام ، من بين أدوار أخرى ، دوراً محفزاً في حيوية الكيانات الاجتماعية عامة . ويمكن القول إن تطور الإعلام ينعدم من اللحظة التي يتوقف فيها عن القيام بهذا الدور، سواء كان ذلك بقرار ذاتي من أصحاب المؤسسات أو نتيجة عجز عن حركة المعلومات والنشر ومتطلباتها ومؤثراتها الآنية بعيدة المدى. وحيثما تنتشر ظواهر الجمود والتخلف وعدم المقدرة على الحراك يكون الإعلام دائما المتهم الرئيسي لكونه المسؤول الأبرز عن تحريك القطاعات والعوامل الأخرى الدافعة للتجديد والإبداع. وإذا كان المسار العربي المعاصر قد “ظهر” على نطاق واسع ما عرف بتيار الانتقاء الذي يرحب بأخذ وتبني “المناسب” من الحضارات الأخرى، الغربية منها على وجه الخصوص، وترك أو تجاهل (أو محاربة) ما لا يناسب منها ، فإن المشكلة الرئيسية التي أحاطت بهذه العملية الحضارية المنقوصة هو غياب المعايير لما هو مناسب وغير مناسب بحيث إن كل تيار ثقافي أو فكري، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن الأكثر علمانية إلى الأكثر عقائدية، بات انتقائياً بامتياز كل على طريقته حتى أصبحت “الانتقائية” تحيطنا من كل حدب وصوب وفي كل مناحي الحياة، السياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية والأدبية والسلوكية وحتى الغذائية. وبغض النظر عن مبدأ الانتقاء بذاته ، فإن الإدمان عليه جعل منه ظاهرة كاسحة بدل أن تكون عملية تاريخية مساعدة مما جعل من الصعب تمييز أي عمل حقيقي أصيل، على ندرته، وحال دون العناية بالأفكار الجديدة التي من شأنها إحداث ابتكارات نوعية حتى في ذروة الحاجة وإلحاح الشكوى .وحتى في القضايا التي تعتبر من “خصوصيات الهوية أو الشخصية العربية التي لا يمكن أن يشملها الانتقاء”. واحدة من هذه القضايا وأهمها ربما: اللغة العربية، فمنذ سنوات عديدة والصراخ يعلو في كل مكان من الوطن العربي خوفا على اللغة العربية وتحذيرا من مآل محزن ينتظرها مع الأجيال الجديدة، لكن كل هذه النداءات لم تؤد حتى تاريخه إلى تطور جوهري في فلسفة تعليمها أو مناهجها بشكل يقيها من المخاطر التي تهددها. ومع ذلك فإن فكرة ثورية حقيقية طرحت مؤخرا في كتاب لم ينل نصيبه من الاهتمام على الرغم من الحساسية البالغة في هذه القضية . ففي كتابه “الثابت المتحرك “ يقدم الكاتب السعودي سعود الحركان في 128 صفحة فقط ما يسميه أطروحة “ الأصول الأم “ لتعليم اللغة العربية عبر ما يسميه “التجربة الحسية” المتعلقة بالسمع “بحيث لا يُنظر إلى المعلومة على أنها شيء مجرد”، بل ظل أو صورة معكوسة لتجارب حسية، ومن خلال ذلك يتم التعامل مع بناء المهارات اللغوية ككائن معاش وليس مجرد تعلم مهارات الإعراب، ويصبح النحو جزءاً بسيطاً من مكون ثقافي ولغوي أوسع يشمل أطروحات أخرى منها الفكرة وأدواتها، والروابط، والوسائط بما يفك “أسرنا من الضيق الوجودي” الناتج عن حصر الثوابت في زمن “تهافت “المتحركات” في عصر العولمة”. ما يطرحه الحركان نابع من تعايشه وتواصله الدؤوب مع ثقافات مختلفة ومتعددة حول العالم لكونه “رحالة”، وهو على الرغم من مؤلفاته العديدة، وكما كتب عنه، غير مهتم بعلمي النحو والصرف بقدر اهتمامه بالتربية وتطوير القدرات اللغوية، كما سبق ودرس الفيزياء والرياضيات. ومن شأن طرحه الثوري هذا المساهمة في تقديم مخرج لمعضلة تاريخية وعصرية مستعصية وملحة، وهو إن لم ينجح في إنقاذ تعليم العربية وتسهيلها وتوسيع انتشارها فإنه يستحق إثارة نقاش واسع بقدر سعة انتشار العربية وبقدر المخاطر التي يتحدث عنها علماؤها ونحويوها. إلا أن إعلامنا العربي، وبعد مضي نحو عام على صدور هذا الكتاب لم يمنح هذا الطرح الاهتمام الذي يتناسب وجرأته وخطورته ولم ينجح في جعله قضية قابلة للبحث على الأقل ليقدم من خلال هذا المثل دليلاَ جديداً على تجاهله الأفكار الجديدة التي لا يمكن أن تتحول إلى أفكار أصيلة عظيمة إلا بعد جدل وإثارة ونقاش. وبذا يكاد إعلامنا يصبح شريكا في التواطؤ ضد التجديد والمستقبل ونصيرا لثقافة إرهاق الثابت ومنع المتحول والمتغير. د.الياس البراج barragdr@hotmail.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©