الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة

على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة
8 فبراير 2017 19:10
الحياة أغنية يتزاحم على شدوها الشعراء والأدباء والأمّهات أيضاً، وربّما يمتلكها الشباب فقط بما هو عنفوان الحياة..لكن أيّ أرض تحضن ما يستحقّ الحياة؟ وأيّ شكل من الحياة نحن جديرون به في أرض لا بلاد لها؟ وهل ثمّة من يستحقّ الحياة ومن لا يستحقّها؟ ثمّة الحياة، وثمّة أيضاً مجرّد الحياة، وثمّة من هم دون خطّ الحياة، لا شيء يفصلهم عن الموت غير قيد الحياة نفسها. وثمّة أيضاً الحياة الحقيقية، والحياة الزائفة، والحياة الجميلة والحياة البائسة.. وثمّة الحياة العارية للعراة الحفاة الذين يجوبون الأرض بحثاً عن أرض تحضنهم، ويسكنون الملاجئ لأنّ الأرض قد ضاقت بهم.. هل ثمّة إذن من يستحق الحياة ومن لا يستحقّها؟ أم أنّ الحياة حقّ لكلّ الذين على قيد الحياة؟ وماذا عن معنى الحياة: وعن «رائحة الخبز»، وعن«أوّل الحبّ»، وعن رقصة العشب بين أتون الحجر؟ ماذا عن «الأمّهات يقفن على خيط ناي»، وعن «خوف الغزاة من الذكريات»؟ من يحبّ الحياة، عليه ألاّ يكفّ عن تحرير الحياة حيثما يقع اعتقالها. لكن يبدو أنّ الكتابة عن الحياة لا ترتبط فقط بموضوعة الأرض، والغزاة، كما كتب شاعرنا الكبير محمود درويش، بل بموضوعة لا تزال في بلادنا حكرا على السجلّ السياسيّ والحقوقي والمدني بعامّة، هي موضوعة الشباب، بما هم الفئة المجتمعية الأقرب إلى الحياة، إلى عنفوان الحياة. فمسألة الشباب ليست مسألة خاصّة بوزارات التشغيل أو الدول التي لم يعد بوسعها في بعض أوطاننا غير إحصاء عدد المعطّلين عن العمل، أو تسفيرهم لتشغيلهم في خطة قتلة، بل من العاجل أن ننتبه إلى ضرورة التفكير بالشباب على نحو أكثر جدّية وأكثر عمقاً، هؤلاء طاقة الحياة ومستقبلها، وهؤلاء أيضا طرق محفوفة بالمخاطر.. كيف المرور إذن من أغاني الحياة إلى التفكير بعنفوان الحياة؟ هذا ما نقرؤه ضمن عنوان جديد للفيلسوف الفرنسي المعاصر ألان باديو تحت عنوان الحياة الحقيقيّة ( باريس 2016)، وهو كتاب جمع بين مفهوم الحياة وقضيّة الشباب اليوم في ضرب من التخريج الفلسفي البديع. وهذا الكتاب مسكون بإحراج عميق: كيف الكتابة عن الحياة حينما يكون الكاتب على أبواب الموت؟ وكيف التفكير في الشباب بعقل شيخ بلغ من العمر عتيّا؟ معنى أن تكون شاباً! من أجل توجيه الشباب نحو «الحياة الحقيقيّة» ينطلق باديو من السؤال الكبير: ما معنى أن تكون شابّا اليوم؟ هذا السؤال يبحث في المعنى لكنّه أيضا محرج باللامعنى. فليس من البديهيّ أن يكون ثمّة معنى لأن يكون المرء شابّا اليوم. لأنّه ربّما سيكون ضمن لائحة البطّالين، أو الإرهابيين، أو المنحرفين..أو الغاضبين بعامّة من انحسار حظوظ الشباب في المساهمة في بناء الحاضر. وعبارة اليوم تقلقنا جدّا ههنا: لأنّها توجّه المعنى وجهة عاصفة على نحو ما. فربّما لا يكون اليوم المقصود يوما سعيدا تماما: هذا اليوم هو يوم عصر العولمة وقيم السوق وسلطة رأس المال، هو عصر يباع فيه كلّ شيء حتّى الشباب نفسه. والمقصود ههنا هو شباب الحياة أي كلّ ما يحدث في عمليات التجميل، والشفط والقضاء على التجاعيد، والنفخ والتنحيف، وتحويل مفهوم الشباب إلى مفهوم طبّي مغاير. فالشباب لم يعد حكرا على الشباب، بل صار ممكنا بالنسبة للشيوخ أيضا. والسؤال بالنسبة إلى الفيلسوف سيكون حينئذ ما يلي: كيف لشيخ في عمر باديو الذي بلغ الثمانين، -ومن يعش ثمانين حولا لا أبالك يسأم،- أن ينشغل بمعنى أن يكون المرء شابّا اليوم؟ إنّه يقلّب السؤال في المسافة التي على العقل أن يعبرها بين المعنى واللامعنى، محاولا القبض على «خيط ناي» لعزف أغنية جديدة تناسب أسماع الشباب. أي الشباب الذي لا أحد من الكهول قد أتقن الإنصات إلى صوته. وهو صوت قد تحوّل في بعض أوطاننا إلى سخط قاتل حيث يتمّ استثمار ذاك السخط في أجندات القتل الإرهابي المعولم. إنّ مهمّة الفيلسوف هي اذن الإنصات إلى الأصوات التي لا صدى لها في نفوس الساسة ولا في خرائطهم ولا في سياسات المستقبل الذي هو مستقبلهم. وهو ما يقوم به ألان باديو في كتابه المذكور، الذي يعتبر بمثابة التنبيه على ضرورة تغيير وجهة عقولنا نحو مناطق الخطر في ساحة الحياة، أي حيث ينمو عنفوان الحياة نفسه. استعادة سقراط يصرّح باديو منذ البداية بأنّه «يتوجّه إلى الشباب بخصوص ما يمكن للحياة أن تمنحهم». لكن أيّ شكل من الحياة ينبغي على الفيلسوف أن يعلّمها للشباب؟ يعيدنا باديو إلى سقراط، فهو يستعيد حكمة اليونان من أجل مقاومة توحّش العالم الامبريالي المعاصر.. لكن ماذا يقول الأب سقراط في خصوص أبنائه الشباب الذين قضى حياة كاملة يجوب شوارع أثينا من أجل اللقاء بهم وتعليمهم معنى الفضيلة والشجاعة والخير والجمال والحبّ؟. يتعلّق الأمر بتهمة سقراط المعروفة التي سمّمه من أجلها سكّان أثينا القديمة رغم كلّ القيم الجميلة التي كان يعلّمها لشبابها: إنّها تهمة إفساد الشباب. لكن ما معنى إفساد الشباب في ذلك الوقت؟ إنّ الأمر يتعلّق بالتمييز بين السفسطة، والفلسفة. أي بين باعة الخطاب الذين يسمسرون بالحقيقة في حين أنّهم لا يخبرون الناس الاّ عن الأكاذيب، والفيلسوف أي معلّم الأخلاق الفاضلة الحقيقة. ومن ثمّة وجب التمييز بين من يتاجر في الحقّ لقاء أجر ماليّ، وهو السفسطائي، ومن يعلّم الشباب كيف يتوجّهون نحو «الحياة الحقيقيّة» أي الفيلسوف. وهنا تبدأ العلاقة بين الشباب والحياة، لأنّ سقراط اكتشف هذه العبارة وهو بصدد محاورة الشابيّن «غلوكون وأديمونت». والمثير ههنا تحديدا هو أنّ ألان باديو قد أجرى ترجمة طريفة لهذا النصّ، أدخل فيها تحويرا غير مسبوق، لا على معنى النصّ أو بنيته، إنّما على تسمية الشابّ الثاني، أي أديمونت، من وضعية اسم ذكر إلى وضعيّة اسم لأنثى هي «أمانتا». وذلك، لأنّ التوجّه اليوم بنصّ فلسفي إلى شباب اليوم يقتضي من الفيلسوف تغيير خطّة عقله: فمقولة الشباب اليوم لا تشمل الذكور فحسب بل تشمل الإناث أيضا. فلا أحد بوسعه اليوم التفكير أو الكتابة بعقلية ذكوريّة، أي دون اعتبار لكلّ المكاسب التي حقّقتها المرأة من أجل أن تكون مساوية للرجال في مجتمعاتنا المعاصرة. والجدير بالذكر أيضا أنّ عبارة «الحياة الحقيقيّة» قد ولدت في هذا الكتاب لباديو، على لسان الأنثى «أمانتا» لكن في شكل من «الهمس». ربّ همس هو شكل تدخّل المرأة في الفكر من أجل منح الرجال مفهوم «الحياة الحقيقيّة». لكن، لن نتوقّف كثيرا عند هذه الإشارة اللطيفة من الفيلسوف إلى حضور المرأة الخفيف، بل ما يهمّنا هو السؤال التالي: ما هي الحياة الحقيقية التي يجدر بالشباب اليوم، إناثا وذكورا، أن يتوجّهوا نحوها؟ نزع القداسة عن العالم علينا أن نضع في حسباننا بدءاً أنّ «الشباب على عتبة عالم جديد». لكن ما شكل هذا العالم ؟ إنّه عالم يتميّز بأنّه قد خرج من العالم القديم القائم على سلطة العادات والتقاليد والسلّم الاجتماعي التراتبي. وهو بخروجه قد ألقى بالشباب في نوع «من المياه المتجمّدة لمنطق الحساب الأناني» لنظام رأسمالي لا يهمّه غير نموّ رأس المال. ما حدث هو ضرب من «نزع القداسة عن العالم»، جعلت الإنسانية تسقط فيما يسمّيه باديو «أزمة هائلة صلب المنظومة الرمزيّة للإنسانيّة». ولقد أنتجت هذه الأزمة طريقين متناقضين: الأوّل يقوم على «المدح اللامتناهي للرأسمالية ولحريّاتها الفارغة» القائمة على قيم السوق والسلع، وهو ما يطلق عليه باديو مفهوم «الرغبة في الغرب»، أمّا الطريق الثانية فهي طريق العودة إلى المنظومة الرمزية التقليدية التي تتجلّى في النزعات المتطرّفة من قبيل الإسلامويّة، والطائفية بأنواعها المسيحية واليهوديّة، والحركات العرقية والقوميّة وكلّ أشكال العدمية الهدّامة الأخرى التي سقط فيها الشباب في ديارنا أيضا. كيف توجيه الشباب نحو شكل مغاير من الحياة الذي يلتقون فيه بالمنظومة الرمزيّة المناسبة لطموحاتهم وطاقاتهم وعنفوانهم؟ يقترح باديو طريقا ثالثة مختلفة عن الرغبة المسعورة في محاكاة الغرب، وعن العودة العمياء إلى الأصول، حيث «تؤدّي العودة إلى الأصول إلى البربرية في كل مكان» (العبارة لنيتشه)؟ هذا الطريق يجد رايته صلب مفهوم طريف يشير إليه باديو بعبارة «الترميز المساواتيّ»، وهو مفهوم يقوم على الأفكار التالية: 1 - ضرورة انتباه الشباب إلى العلامات التي تشير عليهم «بإمكانية حدوث شيء آخر غير ما هو بصدد الحدوث». وهذا يعني أنّه ثمّة دوما ما نحن قادرون على القيام به، لكن ثمّة أيضا ما لم نعرف بعدُ أنّا قادرون على إنجازه، وهذا هو الأهمّ لأنّه هو شرط إمكان قدرتنا على اختراع شبكة رموز جديدة. إنّ تصالح الشباب مع العالم رهين قدرتهم على الترميز الخلاّق لشكل جديد من الحياة. 2 - لكن متى نكتشف أنّ لنا قدرة إضافية على اختراع علاقة رمزية جديدة مع الحياة؟ حينما نلتقي بأمر لم نكن نتوقّعه. حينما «يحبّ المرء فعلا»، يكتشف أنّه قادر على ما لم يكن يتوقّعه من نفسه. فالحبّ ههنا مثال نموذجي بامتياز، من أجل إيقاظ ما في نفوسنا وأجسادنا ومشاعرنا وأحلامنا من قدرات على الترميز والفعل والحياة الخلاّقة. إنّ شبابنا ينقصه اكتشاف قدرته على الحبّ، قدرة عوّضتها أشكال مؤقّتة ومزيّفة من اللقاء بالجنس الآخر. ثمّة حبّ رأسمالي قائم على تحويل المشاعر إلى سلعة أيضا. وتلك هي مظاهر الحياة المزيّفة. 3 - «أنّا قادرون على فعل شيء آخر دوما»، هذا أمر نلتقي به أيضا حينما نساهم في إنجاز فكرة جديدة لشكل الحياة المشتركة، حينما تولد فينا مصادفة مهارة فنّية تحت تأثير لقاء برواية جميلة، أو بقصيدة رائعة، أو بأغنية عظيمة..حينما تغرينا فكرة علمية غير مسبوقة..تلك هي أوجه السير على طريق الحياة الحقيقية التي يقترحها الفيلسوف ألان باديو وقد قلّب صروف الدهر تقليبا. وصفوة القول عنده أنّه ثمّة دوما قدرة ما على البداية من جديد، وذاك هو معنى الشباب. لكن هذه القدرة توجد خارج ما يحدث تحت راية الخرائط الحزينة، خرائط صناعة الموت وفلاحة الخراب، وخارج نجوم الماضي الآفلة عنّا أيضا، والتي لم تعد تنتمي إلى سمائنا الاّ في شكل ضرب من الاستعارة الجميلة. «فعجّت بقلبي دماء الشباب وضجّت بصدري رياح أخر.. هو الكون حيّ يحبّ الحياة ويحتقر الميت مهما كبر... أبارك في الناس أهل الطموح ومن يستلذّ ركوب الخطر» أبو القاسم الشابّي ................................................. * جامعة تونس
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©