الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اختراع الشرق

اختراع الشرق
17 سبتمبر 2014 21:33
على مدى القرون الأربعة الماضية، شكل الشرق مركز جذب حقيقي للكتاب والفنانين والرحالة الغربيين، وقد ظهر بداية أثر الشرق وتأثيره واضحا على الفنانين الأوربيين الذين يمكن القول إنهم كانوا طليعة المستشرقين. هذا التأثير برز جليا عند مؤسس المدرسة الانطباعية مونيه خلال رحلته إلى تونس، وعند أوجين دولاكروا والكثير من الفنانين الآخرين، لاسيما الفنانين الفرنسيين الذين يأتون في طليعة هؤلاء المستشرقين. عوامل عديدة لعبت دورها في تعزيز ظاهرة الاستشراق الغربي منها: ترجمة ألف ليلة وليلة إلى الفرنسية على يد أنطوان غالاند، وحملة نابليون بونابرت على مصر عام 1779 التي استقدم معها مجموعة من الكتاب والفنانين، وكتب الرحلة ورحلات الحج إلى بيت المقدس. لقد لعبت هذه العوامل دورها في تشكيل المخيال الغربي عن الشرق، بوصفه أرض السحر والبدائية والشهوات المتفجرة والنساء الشهوانيات والغرائب. هذا التأثير بدا جليا في الأعمال الأولى التي ظهرت في القرنين السابع عشر والثامن عشر عن الشرق، إذ كانت تلك الأعمال في الغالب متخيلة، وتعكس في مضمونها قراءات هؤلاء الكتاب والفنانين لكتابات الرحَّالة الأوائل عن عالم الشرق، والحكايات والأخبار التي كانت تروى لهم عنه. فالحركة الرومانسية في الغرب، رغم ظهورها كحركة معارضة للاستبداد والمركزية السياسية والثقافية للغرب، لم تجد في الشرق سوى الطبيعة البكر والماضي الأصيل والفطري، الذي يمكن من خلاله استعادة صورة الحياة القديمة، والتاريخ الذي عاشه الأنبياء. وثمة عامل آخر لعب دوراً كبيراً في تعزيز ظاهرة الاستشراق هو حاجة الغرب إلى الآخر المختلف، لكي يعي ذاته، وهو ما ساهم في جعل الاستشراق ينطوي على تلك الثنائية المتقابلة شرق بدائي متخلف، وغرب مدني ومتحضر. هذه الثنائية لعبت دوراً خطيراً في تكريس الصورة النمطية للشرق، ومقولة استحالة الالتقاء بين الشرق والغرب، نتيجة هذه الفجوة الحضارية والثقافية القائمة بين العالمين. البعد التاريخي للاستشراق يمكن القول إن الاستشراق لم يكن مجرد استنساخ لنفس المخيال الغربي في تصوير الشرق عبر مراحل تاريخه المختلفة، لكن هذا التطور الذي شهده في مراحل لاحقة، لم يكن عميقاً ومؤثراً في القواعد الأساسية التي قامت عليها الرؤية الاستشراقية. من هنا يمكن اعتبار هذا التطور الذي شهده الاستشراق في القرن التاسع عشر مجرد تبدل نسبي بعد الاقتراب أكثر من عالم الشرق، ومحاولة فهم واقعه الحقيقي وثقافته وحياة الناس فيه. المفارقة في دراسة الاستشراق أنه بينما ركزت تلك الدراسات على الأعمال المكتوبة، من أدب رحلات وشعر ومذكرات ودراسات إنسانية، فإن الاهتمام بدراسة الاستشراق في مجال الفن التشكيلي، ظل محدودا، على الرغم من أنه كان امتداداً طبيعياً من حيث مضمونه، وتاريخه والمراحل التي مر بها للاستشراق الآخر. بعض الدارسين يفسرون غياب هذا الاهتمام بصعوبة الوصول إلى تلك الأعمال الفنية، التي توزعت على القصور والمتاحف العالمية، وبيوت الفن، ما أدى إلى عدم استجلاء صورة الاستشراق الغربي في هذا المجال، والبحث في مضمونه وظواهره. جغرافيا الاستشراق شكلت كل من مصر وسوريا ولبنان والأراضي المقدسة في فلسطين وسواحل شمال إفريقيا وإسطنبول المجال الجغرافي لرحلات المستشرقين، وفي مرحلة لاحقة أصبحت الجزيرة العربية والعراق هدفاً لهؤلاء المستشرقين ورحلاتهم الاستكشافية، التي كانت في الغالب لأغراض سياسية وتجارية، لاسيما في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، عندما بدأت المطامع الغربية بالسيطرة على الشرق تتزايد. من هنا يظهر الدور الخطير الذي لعبه الاستشراق في خدمة نزعات السيطرة والتوسع الكونيالية للغرب الصاعد في تلك الحقبة. لذلك كانت دراسة إدوارد سعيد للاستشراق في كتابه الذي حمل العنوان نفسه محاولة رائدة لفضح هذا الدور، من خلال الكشف عن عمليات تمثيل الشرق في كتابات هؤلاء المستشرقين على اختلاف توجهاتهم. أما المسألة الأخرى التي كشف عنها الاستشراق فتتمثل في الخلفية العرقية والثقافية المتعالية التي حملها معهم هؤلاء المستشرقين وحاولوا أن يشكلوا معرفتهم عن الشرق من خلالها، ما جعل تلك الكتابات تعكس تلك الصورة النمطية، وتعيد بناءها بأشكال وصور مختلفة، بعضها مضمر وخفي وبعضها الآخر واضح ومباشر. هذا الشعور بالتميز والاختلاف جعل الاستشراق يعبر في جانب كبير منه عن الرغبة في السيطرة والتملك. لذلك احتل الجنس جانباً كبيراً من هذا التمثيل الاستشراقي للشرق، سواء من خلال الصورة التي تبدى فيها بأنه أرض الشهوات والجنس، أو عبر صورة نسائه الشهوانيات، كما تبدت في صورة الحمامات التركية، التي اعتبرت المكان الأمثل لتجسيد العري الناضح بالشهوة البدائية المتفلتة من عقالها. وهذه البدائية أو الفطرية التي شكلت محور تمثيل الشرق في كتابات المستشرقين وأعمالهم الفنية، اتخذت ذريعة استعمارية لنشر الحداثة والتطور والحضارة في عالم الشرق المتخلف والجاهل الذي يعاني من الطغيان، وهو ما يفسر الدور الخطير الذي لعبه الاستشراق على هذا المستوى، كما يؤكد على ذلك إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق الذي أثار الكثير من الجدل في الثقافة الغربية حول موضوع الاستشراق ونقده. وجه آخر للاستشراق إن نقد الجوانب السلبية للاستشراق، والغايات التي انطوت عليها عملية تمثيله للشرق وفضح أهدافها ومراميها، يجب أن لا ينسينا الجوانب الإيجابية الأخرى التي قام بها هذا الاستشراق. قد يبدو هذا الكلام محاولة لإضفاء نوع من القيمة على هذا الدور، لكن الدارس الموضوعي وغير المتحيز سوف يرى أن المستشرقين الغربيين هم أول من درسوا التراث ولفتوا انتباهنا إلى أهميته بغض النظر عن أطروحاتهم وطبيعة قراءتهم لهذا التراث. كما أنهم أول من عمل على حفظ التراث والبحث عنه وتجميعه. وكلنا يعرف اليوم أن المئات من أهم المخطوطات العربية، التي كان قسماً مهماً منها مجهولا موجودة في المكتبات الغربية، وأن الدارس أو الباحث في قضايا هذا التراث لابد أن يذهب إلى تلك المكتبات لكي يتمكن من مطالعتها لاستكمال بحثه. هذا الوجه الآخر للاستشراق لا يلغي الجوانب السلبية الأساسية التي قام عليها الاستشراق. والمفارقة التي برزت في اهتمام المستشرقين هي تركيز جل اهتمامهم على الماضي والتراث العربي والإسلامي القديم، دون الالتفات إلى الأدب والفكر العربي الجديدين، لأن ذلك سوف يجرد صورة الشرق في مخيالهم من الطابع التقليدي، الذي طالما عملوا على ألا يروا الشرق إلا من خلاله. التحيز العنصري يميز المفكر المصري أنور عبد الملك بين نوعين من الاستشراق، هما: الاستشراق التقليدي الذي لعب دوراً أساسياً فيه المستشرقون الأكاديميون ورجال الأعمال والعسكريون والموظفون الاستعماريون ورجال المغامرة، والاستشراق الجديد، لكن الشرق ظل موضوعا أصيلا في أعمال هؤلاء المستشرقين جميعا، بصفته عالما سلبيا وغير فاعل، وُهِب طبيعة خضوع تاريخية، ما يجعله غير قادر على امتلاك أي سيادة على نفسه، وبذلك يتم تبرير الظاهرة الاستعمارية وشرعنتها. ويذهب عبد الملك في تحليله لطبيعة الاستشراق إلى أن الرؤية التي قام عليها، تميزت بالطابع العرقي العنصري، لكونها وضعت تلك الصفات التي وسمت عالم الشرق بها خارج سياقها التاريخي، وجعلت منها صفات جوهرية ثابتة في شخصية الرجل الشرقي، في حين أنها عملت بالمقابل ومنذ عهد الإغريق على جعل الأوروبي الشخصية المعيارية التي يقاس عليه الناس في كل مكان. ويشير الدكتور محمد شرف الدين في كتابه الإسلام والاستشراق في العصر الرومانسي ( ترجمة سرى محمد خريس) إلى صفة الطغيان التي تَمَثل الشرق بها عند هؤلاء الشعراء، لكنه يعزوها إلى المعرفة المبهة بالإسلام من قبلهم، حيث بدا الإسلام لهم رمزا للاستبداد كان يقوم بتوفير نموذج بديل لأنظمة الفساد المشبوهة لهم في أوروبا. أما الباحث الباكستاني المولد والبريطاني الجنسية ضياء ساردار (ترجمة فخري صالح) في كتابه الاستشراق فإنه لا يلح على اختلاط الرغبة الحقيقية في المعرفة عند هؤلاء المستشرقين عن هذا الآخر المختلف، بالأيديولوجيات والتحيزات العرقية والثقافية والغايات الكونيالية وخدمة الإمبراطورية، كما ينقل عن تحليلات إدوارد سعيد للاستشراق. إن أهمية سعيد في كتاباته عن الاستشراق لا تكمن فقط في عمقها وقدرتها على كشف الصورة الاستعارية التي قدمها للشرق وحسب، بل فيما أثاره من جدل وحوارات واسعة داخل الثقافة الغربية نفسها حيال الاستشراق، وكذلك فيما دفع باتجاهه لجهة تعزيز دراسات الاستشراق ونقده بوصفه حقلا خصبا للبحث والتحليل والدرس. ويحلل الباحث التركي في كتابه الهام الاستشراق جنسيا (ترجمة ممدوح عدوان) أبعاد استراتيجيات جنسنة الشرق كفضاء مكان غيري في الخطاب الاستشراقي الغربي، وذلك انطلاقا من كون فضاءات الآخر التي يسكن فيها الآخرون والتي تمنحهم صفة الغيرية قد تم بناؤها عبر وسيلة الخطاب الجنساني. ويضيف أنه قد تم تحويل هذه الجنسانية في الخطاب الاستشراقي إلى ثابت تاريخي، يمكن استخدامه للتمييز بين الشرق والغرب والشمال والجنوب والذات والآخر وهنا وهناك.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©