الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المجدوب.. صوفي يقارع السلطان بالزجل

المجدوب.. صوفي يقارع السلطان بالزجل
17 سبتمبر 2014 21:30
* انتقد الحكّام فهمشوه وعتّموا على سيرته لكن رباعيّاته جعلته يتربّع على قلوب الناس * شعره مكرّس للإصلاح والتنوير وانتقاد السلبيات في الممارستين السياسية والمجتمعية * رفع من شأن المرأة في رباعياته واستحضرها في صورة واقعية تلمّ بجميع أحوالها ------- ترتكز الدراسات التي تقارب التصوف في غالبيتها على الجانب الفلسفي وتهمل الأدوار الطلائعية التي قام بها المتصوفة سواء منها الديني أو السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، لأن "الصوفي ابن وقته" ولا يعيش منفصلا عن واقعه. وقد انخرط المتصوفة في قضايا مجتمعاتهم، وفي المغرب، مثلاً، قام المتصوفة بهذه الأدوار كلّها على أحسن وجه، لأن القوى الروحية المتمثلة في التصوف حاولت إعادة التوازن للمجتمع المغربي، كما كانوا واسطة بين الحاكم والمحكوم، وشكلوا قوة تنظيمية ضد الغزو الأجنبي. -------- المتصوف المغربي سيدي عبد الرحمان المجدوب الذي يعد حسب الإمام الشعراني من كبار أولياء عصره، صاحب الأحوال العجيبة والكرامات الغريبة، عاش في مغرب القرن السادس عشر. كان زاهداً، تقياً وسائحاً في ربوع المغرب، وهو إلى جانب علمه ومعرفته وكراماته وزهده، كان شاعراً شعبياً عظيماً، نظَم رباعيات زجلية جاءت قراءة صادقة للواقع المغربي آنذاك فزادت من شهرته وشعبيته فكثر مريدوه وأتباعه. ورباعيات المجدوب التي جرت على لسانه كسلسبيل عذب، يطبعها الكمال والجمال الأدبيين لسلاسة لغتها الزجلية البسيطة والموزونة والغنية بالصور البلاغية والتشبيهات التي أضفت عليها رونقاً وجمالًا، فسهل حفظها وتداولها بين العامة والخاصة وانتشرت على نطاق واسع ولا زالت تحتفظ بها الذاكرة الشعبية ويتم تداولها إلى اليوم في المغرب العربي، لأنها ما تزال صالحة لهذا الزمان، وتعد تراثا مغربياً وعربياً وعالمياً، ولعبد الرحمان المجدوب ديوان مطبوع عنوانه: "ديوان سيدي عبد الرحمان المجدوب" جمعت فيه أشعاره، كما تضمنت بعض كتب مأثور الكلام حكمه وأمثاله، لكن واقع الحال يؤكد أن الكثير من أشعاره طالها الضياع لأن شخص مثله تجري الحكمة على لسانه دون توقف لا بد أن يكون قد ترك تراثاً هائلًا من الشعر، ويبدو أن النزر اليسير هو الذي وصلنا. ساح سيدي عبد الرحمان المجدوب في ربوع المغرب، ووقف على الأوضاع السائدة التي عبر عنها من خلال رباعياته الزجلية والتي ضمنها حكمه وأمثاله ودفاعه عن المظلومين والحث على مكارم الأخلاق، وانتقاد القائمين على أمور البلاد والعباد بلغة زجلية في عصر كان للكلمة المروية تأثير أكبر من الكلمة المكتوبة، وللغة العامية أثر أكبر من اللغة العربية الفصحى، فهل كان سيدي عبد الرحمان المجدوب مرآة لعصره وهل استطاع أن يقوم بدوره التصحيحي للواقع المعاش على أحسن وجه؟ ذلك ما سنحاول الوقوف عليه من خلال تناول أمثلة من رباعياته وسنركز على ما يتعلق منها بالوضع الاجتماعي والسياسي وبالمرأة؟ دعوة إلى الإصلاح اختار سيدي عبد الرحمان المجدوب جانب الشعب ليوجهه ويهذبه ويرقى بذوقه ويعرفه بحقوقه وواجباته وينتقد بالمقابل السلطة الحاكمة، وليقرب مواقفه من هذا الشعب اختار نظم شعره باللغة العامية، وكان ذلك اختياراً مقصوداً فرغم كونه متصوفاً وعالماً تلقى تعليمه على يد علماء كبار في مدينتي مكناس وفاس، وكان في إمكانه نظم شعره باللغة العربية الفصحى، لكن بما أنه يتوجه برسالته إلى الشعب الذي يعيش التخلف والأمية مال للعامية ليستطيع نشر رسالته التربوية والأخلاقية على نطاق واسع. وبما أنه فضل السياحة في ربوع المغرب على الاستقرار في زاوية ليقصده المريدون، فقد تمكن من الاحتكاك بالناس والوقوف على أحوالهم، خاصة وأنه جاء في عصر كان فيه المغرب يمر بمنعرجات خطيرة تمثلت في ضعف الدولة الوطاسية وبداية قيام الدولة السعدية واحتلال البرتغال لعدة ثغور مغربية. ومنطوقه الزجلي مرتبط بمعاينة الواقع الاجتماعي، فيبدو الدور التربوي والتنويري واضحاً في شعره حيث حاول نشر الوعي بالحقوق والواجبات، والحث على مكارم الأخلاق، وقد عرف الواقع الاجتماعي في عصره تدهوراً خطيراً فانتشر الظلم والجهل والتخلف وتراجعت القيم، فتحدث عن الفوارق الطبقية والفقر بقوله: لمصبط ما درى بالحافي والزاهي يضحك على الهموم اللي على القطيفة دافي والعاري كيف ايجيه النوم الشاشية تطيع الراس الوجه تضويه لحسانة المكسي يقعد مع الناس العريان نوضوه من حدانا ثم يعود ليزرع الأمل والعزيمة في النفوس: لا تخمم في ضيق الحال شوف أرض الله ما اوسعها الشدة تهزم الأرذال أما الرجال لا تقطعها ويوصي بالصبر أيضاً: أرقد على الشوك عريان وأضحك للّي جفاني أصبر على تعوس الأيام حتى يأتي زماني وفي موقف آخر يحث على العمل والاجتهاد وعدم الركون للخمول والكسل بحجة البرد أو الحر: الشر ما يظلم حد غير من جبدو لراسو في الشتاء يقول البرد وفي الصيف يغلبه نعاسه لقد راكم سيدي عبد الرحمان المجدوب في رباعياته تجاربه التي خبرها في سياحاته واطلاعه على الواقع المعيش للشعب المغربي، وقد وحمّل الحكام مسؤولية هذه الفوضى السائدة وتدهور الأوضاع فلم يسلموا من نقده اللاذع. نقد الأوضاع السياسية كانت الدولة المغربية في عصر عبد الرحمان المجدوب تمور بمشاكل سياسية واقتصادية كبيرة، فعرف عهده فساد الحكام وصراعاتهم وتعسفهم في حق الشعب، كما عرفت الأوضاع السياسية السائدة تجاوزات ومزالق خطيرة مكنت البرتغال من احتلال بعض الثغور المغربية، فعبر من خلال رباعياته عن مواقفه وانتقاداته لهذه السلطة دون الخوف من لومة لائم، لأنه لم يكن مجاملا أو متطلعاً لمال أو جاه، أو متسلقاً أو طالباً لقرب أحد وقربه إلى الخالق أغناه عن التقرب إلى أي مخلوق. ويعد موقفه السياسي فريداً لأن المتصوفة في التاريخ المغربي كانوا على وئام مع السلطة وداعمين لها في غالب الأحيان. وربما لذلك ضُرب حول سيرته وشعره سياجاً من الصمت والتعتيم من قبل السلطة الحاكمة، كما هو حال كل الذين يجهرون بالحق في كل زمان ومكان، فضاع الكثير من شعره، ولم نقف على تفاصيل بعض محطات حياته، لقد طاله التهميش أيضاً حتى من قبل دارسي عصره ولم يكتب عنه الكثيرون باستثناء البعض ومنهم تلميذه المخلص الشيخ أبو المحاسن الذي ألف عنه كتابا بعنوان "ابتهاج القلوب" والذي لا يزال مخطوطاً ينتظر تعطف الدارسين المحدثين لينفضوا الغبار عنه. وسيدي عبد الرحمان المجدوب في انتقاده للأوضاع السياسية وللساسة كان يحاول كأي مصلح التوسط بين الحاكم والمحكوم، ومما قاله في حديثه عن غدر الزمان وتغير الأحوال ووصول الرعاة إلى سدة الحكم بدل السلاطين قوله: يا الزمان يا الغدار يا كاسرني من دراعي طيّحت من كان سلطان وركّبت من كان راعي ثم يتكلم عن قمع الحريات في عهده، وانتفاء الحق في التعبير، ومن فعل سيكسر رأسه إشارة إلى العقاب الذي يطال كل من يجهر بالحق: راح ذاك الزمان وناسو وجا ذا الزمان بفاسو وكل من يتكلم بالحق كسرو لو راسو ونجده في موقف آخر يدعو لطاعة كبير القوم وهذا لا يحيل على تناقض في مواقفه، لأن كبار القوم لا يقصد بهم الحكام فقط، ربما يقصد نفسه أو متصوفة آخرين، لأن في عصره كان للمتصوفة دور خطير في قيادة الناس لمواجهة المستعمر البرتغالي الذي احتل العديد من الثغور المغربية: سافر تعرف الناس وكبير القوم طيعو كبير الكرش والراس بنص فلس بيعو وأيضاً يستنكر اختلاط الحابل بالنابل وتدهور الأوضاع ويحمل المسؤولية للحكام غير المؤهلين لتحمل المسؤولية: تخلطت ولا ابغات تصفا ولعب خزها فوق ماها رياس على غير مرتبة هما اسباب اخلاها إن الوضع السياسي المتدهور في مغرب القرن السادس عشر جعل سيدي عبد الرحمان المجدوب لا يظل خارج التجربة كصوفي موجه ومصلح وداع للجهاد ومنتقد للوضع السائد، فساهم في محاولة إعادة الأمور إلى نصابها من خلال الجهر بالحق وانتقاد الساسة في رباعياته. المرأة والحب لم يكرس المجذوب حياته للتوجيه والإرشاد وانتقاد الأوضاع، وإنما ترك فسحة في حياته للحب والمرأة، فكيف استحضرها في رباعياته؟ هل كأغلب المتصوفة الذين استحضروها كحلم ومتخيل، أو كحقيقة ملموسة؟ تنكشف المرأة في الكتابات الصوفية كذات نورانية، والشوق والحنين والافتتان من الأمور التي شدت المتصوف إلى إليها حيث تم استحضارها من خلال الخيال الخلاق كحلم وتم الافتتان بها في غيابها، لكن سيدي عبد الرحمان المجدوب تزوج وأنجب الأولاد وخبر المرأة عن قرب وحفلت رباعياته بالكلام عن الحب والمرأة ومن أمثلة ذلك: يا قلبي نكويك بالنار وإذا ابريت انزيدك يا قلبي خلفت لي العار وتريد من لا يريدك حبيبك حبوّ اكثر والشر اللي بينكم تخفيه إذا حبك حبوّ اكثر وإذا تركك لا تسال عليه كيد النساء كيدين و من كيدهم يا حزوني راكبة على ظهر السبع و تقول الحداء ياكلوني حديث النساء يونس و يعلم الفهامة يديروا شركة مع الريح و يحلقوا لك بلا ماء سوق النساء سوق مطيار يا الداخل رد بالك ايورّيو لك من الربح قنطار وياخذو لك راس مالك من خلال الأمثلة يبدو أن سيدي عبد الرحمان المجدوب رفع من شأن المرأة في رباعياته، بخلاف بعض الدارسين الذين يرون بأنه حط من شأنها، لقد استحضرها في واقعيتها، وفي جمالها ودلالها ودهائها وهجرها وصدها وذكائها وكمالها ونواقصها أيضاً، وجعلها دائماً في موقف المنتصر على الرجل وفي تحذيره للرجال منها تأكيد على قوتها وليس على التنقيص منها، فأكد بذلك قيمتها الاعتبارية في المجتمع وحاجة الرجل الأبدية إليها مهما كان وضعه، فهو المتصوف الزاهد في الدنيا ولم يستغن عنها. جاءت رباعيات سيدي عبد الرحمان المجدوب لتعبر عن قدرته على الجمع بين الكمال الأخلاقي والقدرة على مقاربة ما يمور به الواقع من مشاكل اجتماعية وسياسية واقتصادية، الشيء الذي يؤكد إسهام المتصوفة في عصره في الحياة العامة، وتعد هذه الرباعيات جزءاً من التراث المغربي والعربي والعالمي، والحفاظ عليه حفاظ على الذاكرة المغربية من الضياع، كما أضحى من واجب الدارسين في العصر الراهن النبش عميقاً في سيرة وشعر هذا المتصوف لرد الاعتبار له لأنه لم ينصفه عصره عقابا له على مواقفه الجريئة وقول كلمة الحق. دفن سيدي عبد الرحمان المجدوب بمدينة مكناس ولا يزال قبره هناك قبلة للزوار.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©