الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«خزينة» و «زوربا».. كلّيستجيب للواقع على هواه

«خزينة» و «زوربا».. كلّيستجيب للواقع على هواه
17 سبتمبر 2014 21:30
استجابت الرواية العربية وعلى عجل، كغيرها، لثورة الاتصالات، كمتغيّر حاسم من متغيرات الواقع المادي وغير المادي. وكان من الطبيعي أن تنال سوءات العجلة والانبهار من تلك الاستجابة. ومهما يكن ما عاد يمكن للمرء أن يتجاهل هذه الظاهرة التي بلغ حديثها مبلغ (الأدب الرقمي) كما تجلى في دراسات سعيد يقطين وفاطمة البريكي وزهور كرام وسواهم. من جهة ثانية، استجابت الرواية أيضاً لمتغيرات الواقع الفكري والسياسي وما شهده من حراك على أكثر من صعيد لعل أهمها الإرهاب والعنف. فما إنْ فشا الإرهاب، كعنوان ديني وسياسي للتكفير والفتك والوحشية. . . حتى استجابت الرواية العربية لهذا المتغير المزلزل من متغيرات الواقع. هنا مقاربة لروايتين من الإمارات استجابتا لتغيرات هذا الواقع في المجالين المذكورين: الأولى رواية (نداء الأماكن - خزينة) لمريم الغفلي، والثانية رواية (الحياة على طريقة زوربا) لصالحة عبيد. ----------- قبل الدخول على الروايات ونقدها، لابد من الإشارة إلى أن هناك مدونة عربية من الرواية على الصعيدين؛ وفيما يتعلق بالاستجابة لموضوعة الإرهاب أشير إلى رواية (خارطة الحب) لأهداف سويف و(يقين العطش) لإدوار الخراط، من مصر، ولروايات (بوح الرجل القادم من الظلام) لإبراهيم السعدي و(الشمعة والدهليز) للطاهر وطار و(أرخبيل الذئاب) لبشير مفتي و(سيدة المقام) لواسيني الأعرج و(قدم الحكمة) لرشيدة خوازم وسواهم من الجزائر (1). ومن جديد هذه المدوّنة الكبرى تأتي رواية مريم الغفلي (نداء الأماكن – خزينة). (2) اما بخصوص الاستجابة للثورة الاتصالية ومتغيراتها فثمة مدونة أخرى، حسبي أن أشير إلى روايات شهلا العجيلي وخليل صويلح (سوريا) ومحمد سناجلة (الأردن) وآية عبد الرحمن (مصر) ورجاء الصانع (السعودية) وصالحة عبيد (الإمارات). . . حيث نرى في هذه الروايات، كما في نظائرها المتواترة، اشتغال الإيميل والآي باد والرسائل النصيّة (S. M. S) وسواها من عناصر ثورة الاتصالات، في الكتابة الروائية، وبالتالي، حيث نرى اقتراحات متفاوتة الجدية والطموح لجمالية جديدة، مما يتعلق بهيكل الرواية، وبلغتها، على الأقل. مريم الغفلي. . نداء الأماكن يأتي الأهم من سردية هذه الرواية بصيغة الخطاب، عبر ما تكتبه سارة في دفتر مذكراتها، مخاطبة زوجها غانم الذي أدار ظهره لأسرته ولبلده ومضى إلى (الجهاد) في أفغانستان. وفي مخاطبة سارة، كما في السرود الأخرى في الرواية (أخبار- حكايات - محاورات) تنجلي متغيرات الواقع التي غيرت غانم كما غيرت سواه. فمن زمن الطفولة يحضر مروان صديق غانم الذي ظل لا يصلي حتى الثانوية، والذي كانت أمه المدرسة (أبلة فايزة) تدخن وتلبس الثياب القصيرة، لكن كل ذلك انقلب أي منقلب بعد عودة مروان من تخصصه في الكمبيوتر في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي. فمروان صار من جماعة التبليغ والدعوة، وصار يحاضر على الشباب بالفكر الصحوي، وأمه تحجبت وصارت الحاجة فايزة. وقد جمع مروان صديق الطفولة غانم بمن حدثه عن الجهاد، فبهره وأقنعه بالذهاب إلى أفغانستان لمحاربة الشيوعية، وذلك بعد عودة غانم من دراسته في الولايات المتحدة، حيث لاحظ المتغيرات الحادة في المجتمع، فالوجوه، كما ترسم الرواية، صارت أكثر عبوساً ورهقاً، واختفت منها مسحة السعادة، واكتست بظلال من الحيرة والألم والكآبة والحزن، كما اختفت الشعور المصففة والملابس القصيرة والكعوب العالية، وحلّت الجلاليب بألوانها الكئيبة، وكان دعاة جدد قد ظهروا، وبدا كأن يقظة دينية فرح بها الجميع، وبلغت إن لم تعد أم غانم تصافح ابنها! ابتدأ غانم بالانضمام إلى جماعة مروان، جماعة التبليغ والدعوة الإرشادية (الوعظية السلمية) لكن (أبو إسلام) الذي دفع به إلى الجهاد، أقنعه بالانشقاق عن جماعة مروان، والانضمام إلى جماعته هو الجهادية. وكانت جدة غانم التي تعنونت الرواية باسمها (خزينة) قد فتحت بيتها لزوجة أبوإسلام، تحاضر فيه وتستقطب نساء الحي، كما صارت خزينة توزع الأشرطة الدينية بالمجان. لكن غانم سيكتشف في أفغانستان خديعة الجهاديين، إذ كان وجدته وسواهما يتبرعون لبناء المساجد، ومنها واحد عن روح والده، و(الإخوة) الذين يدعون بناء المساجد بالجملة بالتبرعات، فإذا بهم لم يبنوا غير مسجد واحد، كما أنهم استغلوا بيانات غانم لتحويل الأموال إلى الخارج، مما جعله مطلوباً بدعم الإرهابيين. وكل ذلك سيجعل غانم يصحو من غفلته، ويرعوي عن غيّه، ليدرك أن الفهم الخاطئ للإسلام هو ما وصمه بالتخلف، وأن الفقر والأمية هما أيضاً سببان للتخلف، وأن رمينا لأخطائنا على غيرنا سبب آخر. وسيزعزع غانم تفجير برجي التجارة في نيويورك، فيطلق السؤال: ماذا استفاد المسلمون؟ بفضل ما تقدم عاد غانم من أفغانستان. ومن مدينة العين، من نبع الفطرة الصافي، كما ترسم الرواية، ليبدأ الابن الضّال رحلة التطهر من علق الماضي، سواء أتعلق الأمر بالإرهاب أم بشكوكه بسارة، والتي دفعته إلى الزواج من سواها قبل اختفائه. وقد كان أول ما باعد بين الزوجين العاشقين مواجهة سارة لغانم باعتراضها على من دعتهم (زمرة الشر)، وبحكمها أن لا طائل مما يقوم به على درب الجهاد، فكان أن تزوج ثانية، ثم اختفى. والحق أن (لائحة) الإرهاب لا تكتمل إلا على يد سارة. وهذا متغيّر اجتماعي آخر، تبدى في مشاركة المرأة في الإرهاب – الحاجة سهام التي حولت الحي إلى مجموعة دينية متشددة، مثلاً – وفي مواجهة المرأة للإرهاب أيضاً، وهنا تبرز سارة. ففيما تخاطب به غانم، في دفتر مذكراتها، تعبر عن خوفها من رغبته العارمة بتغيير كل شيء حوله، وتعد من ثمار الشيطان تلك الأفكار التي سممته بها الكتب التي دُسّتْ له، كمصل غسل دماغه. ومع غانم، تواجه سارة أصدقاءه الذين تشبع بنظرياتهم، والذين يتمسكون بالقشرة ويتركون الجوهر. وتتحدث سارة عمن تصفهم بالمغرر بهم الذين تلقفت حكاياتهم وأخبارهم، من شباب غرر بهم بدعوى مجاهدة طواحين هواء، ومن رجال انتُزعوا من بين أهلهم، وزُجّ بهم في آتون لا ناقة لهم فيه ولا جمل «باسم دين هو براء مما يحدث باسمه». كانت سارة تعتقد أننا بعيدون عن الإرهاب. وهي إذ تصدع غانم بالسؤال عما دهاه ليدوس على أهله ووطنه، وليركض وراء سراب خدعه كا خدع غيره، فإن (نظرية المؤامرة) ترشح من قولها بأن ثمة من يعمل في الخفاء، ويخدع النخبة، فينساقون خلفه كالخراف إلى المسلخ: وعلى أية حال تخلص سارة إلى أن الدين أصبح حجة وألعوبة في أيدي من لا يخافون الله، وأصبح قناعاً للتدليس والخداع. من أجل تفاعل كل هذه الأفكار وسواها مما يتصل بالإرهاب، تكون السهرة في بيت سارة، قبيل عودة غانم، وتحضرها صديقاتها، ويكون حوار النساء في الإرهاب، وهو ما قد لا يكون من المبالغة أن يوازي المرء بين ما بلغه أخيراً وبين ثورة الاتصالات، كمتغير زلزل الواقع، أي واقع تشاء، فكان أن استجابت له الرواية سريعاً، وبصخب وخطابية أو بعمق وفنيات جديدة. تعلن في السهرة جنان الفنانة التشكيلية العراقية العائدة من بغداد أنها مؤامرة كبرى تحاك ضد العرب والمسلمين. وترد هند أن المشكلة هي في ردنا دوماً برمي مشاكلنا على الآخر، فهند ضد نظرية المؤامرة. وبرأيها أن الفكر القاصر هو ما يبرر للإرهاب. وبينما ترى سارة أن جوهر الديانات الثلاث واحد، وهو الحب والسلام، تجيب هند على سؤال آخر، عما هو الإرهاب، فتتحدث عما تسميه الأصل الأيديولوجي للإرهاب، وتؤسسه في داروين كما قرأت في مقال. وعبر ما تبهظ به هند السهرة والرواية والحوارية، تشخص أصل الإرهاب في الإلحاد والداروينية والمادية، وليس في الديانات التوحيدية، وتكرر ما سبقت إليه سارة، ولكن كأساس لعلاقة المسلم بغيره من الأمم والديانات، مما وضحه القرآن الكريم والسنة النبوية: إنه المحبة والرحمة والتعايش السلمي. وتؤيد خلاصة ما تقدم ليلى التي تتمنى أن يتم التركيز على الأمن الاجتماعي والتنمية، كما لا ترى المسيحية خلود عذراً للقاتل والزاني والإرهابي. بينما تشخص غبيشة – الصديقة الأقرب لسارة، والشخصية الروائية المميزة، كسارة وخزينة الجدة – بأن ما يجري لعبة سياسية واقتصادية. لكن غبيشة وحدها من بين الأخريات تقرر أن «هذه سياسة، والنساء لا يناقشن السياسة. اذهبن إلى بيوتكن. هذه الأمور أكبر من قدرتكن على فهمها. إذا كانت هذه السهرة، كحوارية، تمثل لوناً من ألوان الاستجابة التقليدية الجمالية لرواية (نداء الأماكن – خزينة) لمتغيرات الواقع المتمثلة في الإرهاب، وفي خروج النساء على السنن القديم الذي عبرت عنه غبيشة، ففي هذه الرواية ألوان أخرى من الاستجابة غير التقليدية، كما في اعتماد ضمير المخاطب في دفتر مذكرات سارة، وفي مونولوجاتها أيضاً التي تتعلق بغانم أو بولديها أو بالجدة خزينة أو بمدينة العين. . . لكن ما هو أكبر دوراً وأهمية من ضمير المخاطب، هذا الذي لم تخل من ألقه ومن وقدته أيٌّ من روايتي مريم الغفلي السابقتين: (طوي بخيته) و(بنت المطر)، والحق أنه يسِم الكثير والمتميز من الكتابة الروائية النسائية الإماراتية، وهو ما أعنونه بالخصوصية وبالشعبي المحلي. ففي مفردات وتعبيرات (نداء الأماكن- الخزينة) الكثير مما قد يستغلق على القارئ غير الإماراتي، وربما على القارئ الإماراتي من الأجيال الصاعدة، لذلك تكثر في الرواية الهوامش الشارحة للأرى أو الدعثور أو أم دويس أو الراعبي أو السنوت أو الشلق أو السبلان. . . مما يتعلق بالطبيعة أو الكائنات أو الأدوات، عدا عن الأمثال الشعبية وعن الغناء الشعبي والشعر الشعبي. ولعل أمر (الأسماء) وحده يغني عن مزيد من التفصيل. فغبيشة التي تتمنى «ليتنا كالأسماء لا يغيرنا الزمن» تشرح أن اسم سبرة هو برودة الرمل قبل الفجر لمن ولدت في هذا الوقت، وغرير لمن ولد في غرة رمضان، وضبابة لمن ولدت في الضباب، وعوض لمن ولد بعد موت طفل، ومرحومة لمن ولدت في ليلة غزيرة المطر، وهكذا يمكن أن تقرأ في أسماء عشبة وجرادة وحمامة ونفافة و. . . . . . . واللافت في هذا السياق هو الوجد الصوفي الذي تنبض به الرواية كلما تعلق الأمر بواحة العين وجبل حفيت وما كانت عليه المنطقة، وكذلك ما آلت إليه. وهذا ما أحسب أن الرواية قد أبدعت في الترميز بخزينة الجدة وخزينة الحفيدة الطفلة، خزينة الماضي وخزينة الحاضر والمستقبل. لقد بدأت متغيرات الواقع، كما تتولى الساردة التعبير في الرواية، منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، على يد من جاؤوا من الخارج، والذين كان تغييرهم إيجابياً، وبخاصة في التعليم. وبالعرفان بالجميل. وتتابع الساردة أن أولاء قد تركوا بصمات واضحة قبل الفورة النفطية. أما غانم، فمن هواجسه أن المجتمعات لا تتغير من الداخل، فمثل هذا التغيير يحتاج إلى وقت طويل. وبالتالي، إن لم يأت التغيير من الخارج، فستظل المجتمعات متقوقعة حول نفسها. وهنا يقوم الشبه بأن تغيير المجتمع جاء مثل تغيير غانم نفسه: من الخارج. مثل هذا التشخيص لا يأخذ بجدلية الداخل والخارج، أو هو يهوّن منها على الأقل. وعلى أية حال، لا تكتمل استجابة (نداء الأماكن – خزينة) لمتغيرات الواقع، وبخاصة لأهمها وجديدها المتعنون بالإرهاب، إلا مع سارة التي تراها مرة تتابع حواراً تليفزيونياً يحرم فيه رجل دين أن يقوم أحد بتكفير آخر، فالمسألة منوطة. بحكم القاضي، ولا يجوز ترك التكفير بيد الأفراد، بل بيد المجامع الفقهية، لأنها مسألة في غاية التعقيد، وهناك من يلتقطها من حديثي السن وسفهاء الأحلام، ويتذرعون بها. ومرة ترى سارة ترفض دعوة الداعيات، لأن ما يهمها هو نور الإسلام، نور الإيمان، روح الإسلام الحقيقية، الجوهر، وليس السلوك الخارجي الذي تراه قد طغى على اللب. إن دعوة سارة هي إلى وجوب أن نعيش يومنا وعصرنا، وأن نربي الأبناء لزمان غير زماننا. قد ينادي منادٍ بصدد مخاطبة سارة لغانم، أو محاوراتها مع صديقاتها، أو مونولوجاتها، مما يتصل بالإرهاب، ما كتبه تشيخوف لصديقه سوفران: «أنت تخلط بين حل المشكلة وبين عرضها بطريقة صحيحة. هذا العرض وحده هو مهمة الفنان». والحق أن هذا الخلط بين الحل والعرض، وبالتالي بين الفنان والمصلح الاجتماعي، يطغى بنسب متفاوتة وآليات مختلفة في الاستجابة الروائية لمتغيرات الواقع الاجتماعي والسياسي. غير أن رواية (نداء الأماكن – خزينة) رجّحت كفة العرض، كما تقتضي جمالية الاستجابة الروائية بحق. ولعل خير ما أختم به هو هذا الذي قاله الكاتب الأرجنتيني أرنستو ساباتو: نحن نشاهد شخصاً للحظة واحدة، وبعدها آخر، أو نشاهد جسراً ما، أو يحدثنا الآخرون بشيء ما عن الناس الذين نعرفهم، أو عن المجهولين، كما نسمع نتفاً من أحاديث ما. . ومع كل هذه الوقائع العابرة تمتزج في وعينا ذكريات الأحداث الماضية، وخطط المستقبل، وأحلام وأفكار غير منسقة. وبالتالي – بعدما انتهى قول ساباتو – أليست هذه هي الاستجابة الروائية لواحد أو أكثر من متغيرات الواقع في درجة ما أو لون ما من درجات وألوان الجمالية، بحسب كل كاتب وكل كاتبة؟. صالحة عبيد. . الرواية الآيبادية ----------- I PAD الحياة على طريقة زوربا ابتداءً بالعنوان، تنادي رواية صالحة عبيد I PAD الحياة على طريقة زوربا 1 هذا المتغيّر الذي رجّ الواقع – أيّ واقع شئت على الكرة الأرضية ــ رجّاً وأعني: ثورة الاتصالات. ولأمرٍ ما سينكتب الـ I PAD بالحروف العربية في صفحة العنوان الداخلي للرواية. وهكذا إذن، أسرعت الرواية العربية إلى هذا المفرد من ثورة الاتصالات، كما أسرعت من قبل إلى الإيميل وإلى الـ S. M. S، وإلى الرواية التفاعلية. في رأس هذا الذي أسرعت إليه الرواية العربية يأتي الشكل الرسائلي العريق في تاريخ الفن الروائي. وقد جاءت رواية صالحة عبيد بهذا الشكل، ولكن كما يُنْعِم به الآيباد. أما كاتبة الرسائل الآيبادية في هذه الرواية، واسمها بادية، فللرسائل عندها شأن كبير، ولذلك تخاطب المرسل إليه أنها قررت أن تحوله إلى رسائل: «والرسائل في أصلها كلمات. . الرسائل ذاكرة مقولبة. . ورقية. . إلكترونية. . المهم خالدة». وقبل ذلك ستكتب بادية أن الرسائل وحدها تعصمنا من الموت. ولكن مقابل هذا النزوع إلى (الخلود) – أم على النقيض منه؟- تكتب المرسلة، أنها تنشد نسياناً مؤرخاً في رسائل، لا تعلم كم جزءاً ستبلغ، ولا كيف ستنتهي، فتدريبها الخاص على النسيان هو الرسائل اليومية أو الأسبوعية أو الشهرية، وربما حتى السنوية. والمرسلة ذات الاثنين والعشرين عاماً لا تطالب المرسل إليه بالرد، ولا حتى بالقراءة، فالرسالة حاجتها المَسْيسة هي. ولكن لنسرعْ إلى (متغيرات الواقع) هُنا، ابتداءً بما تصدّرت به الرواية من كتابة وديع سعادة تحت عنوان (تكوين)، حيث نقرأ: «الافتراض، هذا ربما، على الأرجح، ما نسميه حياتنا». والحياة الافتراضية هي إذن (ربما، على الأرجح) حياتنا، وليست الحياة (الواقعية). وليس هذا مما أنعمت به ثورة الاتصالات وحسب، بل هو (شعار) هذه الرواية الذي لن يفتأ يترجّع فيها. وفيما تنفتح به الرواية أيضاً، يأتي (شعار) أخير من شعر رياض الصالح الحسين، حيث نقرأ: «لا يفعل شيئاً سوى الكتابة. . ربما لأن الكتابة فعل حياة». وقبل أن تُسْلمنا بادية للرواية، تصف استعدادها للكتابة على الآيباد، حيث تأخذ الكلمات المبعثرة في رأسها بالاصطفاف بشكل منتظم، من أعلى نقاط التفكير حتى أخمص بقعة في الكف، أو من الكف إلى الإصبع إلى تلك الأحرف المسطحة على شاشة الآيباد: صندوق ذاكرتها القادمة. لكن المرسلة تكتب في نهاية الرسالة المؤرخة في 27/6/2012 أن الكتابة عن طريق الآيباد «مزعجة بعض الشيء». وفي خاتمة رسائل الـ S. M. S، أي في ختام الرواية نقرأ تحت عنوان (سماعة معلقة): «احتجت قلماً وورقة/أو عفواً/آيباداً وإصبعا»، فهل يؤشر ذلك إلى أن دخيلة المرسلة لم تبرأ من السلف: القلم والورقة، ولم تبرأ بعد من إزعاج كتابة الآيباد (بعض الشيء)؟ بالافتراضي ووسيلته (الآيباد)، إذن، تتعنون الاستجابة للمتغيّر في الواقع، في رواية صالحة عبيد. وبالرسائل تتعنون جمالية تلك الاستجابة. وفي تفصيل ذلك نجد أن رسالة قد تأتي في جملة، ورسالة قد تأتي بغلظة كدرس في تاريخ الفراعنة والأهرامات. وتكاد رسائل كثيرة أن تكون وصفاً لجولات سياحية لبادية في القاهرة: القلعة ودار الأوبرا والسينما وفيللا أحمد شوقي والفوال. . . ومن الرسائل ما كتبته بتحريض من قصيدة (قصيدة حب فرعونية لنزار قباني، مثلاً) ومن الرسائل ما يسرد يوميات بادية، من الاستيقاظ إلى التسكع إلى القراءة إلى السينما إلى الاتصالات الهاتفية. . في رسالة 29 يونيو 2012 – وجميع الرسائل مذيلة بتاريخها- تكتب بادية أنها شاهدت فيلم (white noise)، وفيه يستقبل البطل رسائل مبطنة من زوجته المتوفاة، عن طريق ذبذبات معينة تبثها النقاط البيضاء والسوداء المتزاحمة والعشوائية - كما في شاشة التليفزيون بلا بثّ – التي لا نعيرها انتباهاً في الغالب، فهل من رسالة ما تتلوها علينا تلك النقاط، مراراً، إلا أن تدافعها يخونها، لتسقط في خضّم العشوائية؟ تتأمل المرسلة النقاط لعلّها تظفر برسالة، لكنها لم تتوصل إلا لنواة فكرة من أجل قصة جديدة، وقد تكون هذه النواة إذن هي الرسالة التي أرسلتها تلك النقاط. وفي كل ذلك ما يومئ إلى بعد آخر للشكل الرسائلي. كما يبدو لهذا الشكل بعد ثالث أو أكثر عبر ما يتصادى من (الشأن العام) في الرسائل، ابتداءً من تاريخ أولاها (26 يونيو 2012) إلى تاريخ آخرها (13 يوليو 2012)، فضلاً عما تلا ذلك من رسائل الـ S. M. S غير المؤرخة. ففي الرسالة التي حملت هذا العنوان (ماذا لو أن أروى صالح لم تنتحر) تتحدث عن الكاتب البحريني حسن مدن الذي قال: البحرين وطن بجناحين، وترك العمل الصحفي بهدوء، وانصرف إلى الشأن العام في موقف (أصيل) كما تصف المرسلة، عقب تداعيات أزمة البحرين. وفي رسالة 3 يوليو 2012 تنتقل بادية من سيرة المعتقلات والتعذيب إلى فضيحة جوانتنامو، إلى المضحك المبكي في سيرة السجون العربية، إلى بشاعة ما يدار في العلن وفي الخفاء في سوريا. وفي ختام رسالة تالية بتاريخ الرسالة السابقة نفسه، وتحت هذا العنوان الذي يتكرر في ختام رسائل شتى: (خارج السياق)، تكتب بادية أن على الليبيين أن يحبوا بعضهم أكثر قبل الانتخاب البرلماني، فالقبلية قاتلة، «والقبلية وجه آخر للطائفية البشعة. . أليس كذلك؟». في مثل هذه الرسائل يأتي السؤال- التحدي عن (الخبر) في جمالية الاستجابة الروائية للتاريخ المباشر أو الجديد. ففي رسالة 10 يوليو 2012، تقرأ بادية خبر قتل جماعة من الملتحين لشاب في السويس لأنه رفض أن يترك يد خطيبته أثناء سيرهما في مكان عام. وتمضي الساردة من الخبر إلى مبدأ الوصاية العنيف الذي يفرضه بعضٌ على بعض. وفي رسالة 12 يوليو 2012 تعقب الساردة على خبر خطاب رئيس الجمهورية (محمد مرسي آنئذٍ) بملاحظتها البدء بتكوين هالة تبجيل غريبة، فكأنما نعود إلى حرفتنا الأساسية: صناعة الطاغية. وقد تدع الساردة للقراءة أن تمضي من (الخبر) إلى حيث تشاء، كما في خبر إعادة رئيس الجمهورية (محمد مرسي آنئذٍ) لمجلس الشعب وتجاوزه للمحكمة الدستورية. بالخوف مما بلغه، يتتوج حضور الشأن العام في الرواية، كما جاء في رسالة الـ S. M. S الثالثة عشرة، حيث تخاطب بادية المرسل إليه: «خايفة علينا كلنا. . خايفة عليك وعلى عالمي الطيب وعلى أجيالنا القادمة، وعلى نفسي بالمرتبة الأخيرة. . خايفة من سموم الحقد والكراهية». ولعل خلاصة ذلك كله هي أن الحياة (الافتراضية) واقعية جداً، سواء في هذا الذي عبقت به الرواية من أيام بادية القاهرية، أو بما عبقت به أولاً وأخيراً من الحب، أي من سيرتها كعاشقة، ومن سيرة العشق التي توسلت الوسيلة الافتراضية. في رسالة 8 يوليو2012، والتي حملت الرواية عنوانها (الحياة على طريقة زوربا) تخبر بادية أنها إماراتية من أم مصرية. وستعود في الرسالة الأخيرة (13 يوليو 2012) إلى الإمارات، ثم تتابع الرواية شكلها الرسائلي في الرسائل النصية التي تعنونت بـ (رسائل قلبية) واكتفت بالترقيم بدلاً من العنونة، بخلاف الرسائل الآيبادية السابقة. وقد تصدرت الرسائل النصية بما تسرده الساردة الأعلى من أن بادية فتاة أنتجها جيل الآي فون «لكنها تكتب وهي تحسّ بتلك الورقة المصفرة الخشنة، بينما تنتشي بما يسكب عليها من حبر» وبذا نعود إلى السؤال السابق عما في بادية من المتغيّر المعنون بثورة الاتصالات، وما فيها من سلفه: القلم والورق والحبر. لقد أمعنت الرسالة الثانية من الرسائل النصية في هجاء بادية لجيلها من أصحاب المعلومات التي تأتي في أكياس الهمبرجر، الجيل الذي تدمغه بالغباء، لأنه يختصر ستين عاماً من الصراع العربي الاسرائيلي بقوله: «قتال وأخذ ورد. . والأرض بالأصل تعود لبني اسرائيل. . يجب أن يفكروا بالتعايش». كما تهجو بادية في الرسالة السابقة مدينة دبي، فتصفها بأنها مدينة ثرثارة بامتياز، وبأنها مدينة الزحام والفكرة، وبأنها «المدينة الصغيرة التي نضجت قبل أوانها. . فحرمت الجنون والركض واللعب والمد الإنساني الطبيعي للنمو الزمني. . لتضع المساحيق التجميلية وترتدي الكعب العالي مبكراً. . من طفلة لسيدة هكذا دفعة واحدة. . وبينهما تعيش تلك الصغيرة التي أرى وجهها الأصيل تحت كل هذا الركام». مثل الومضة جاءت الرسائل النصية المحكومة بحيّزها المحدود، وكلماتها القليلة. ولذلك اتسمت الرسالة غالباً بالكثافة. ومنها ما جاء كقصيدة نثر (الرسائل رقم 6-9-11-14). وقد تابعت الرسائل النصية خطى سالفتها (الآيبادية) في الاكتفاء بضمير المخاطب. فبادية تخاطب المرسل إليه دوماً، وعبر ذلك تحدثه عن يومياتها القاهرية ثم الإماراتية، كما تسهب في الحديث عن قراءاتها- ولمحمود درويش وللطاهر بن جلّون النصيب الأكبر- وعن الموسيقى والسينما والشعر، فبادية مثقفة، وشاعرة، وكاتبة، وبما يبدو أحياناً أنه أكبر مما يمكن لابنة اثنتين وعشرين عاماً أن تكون، ولذلك ينبق أحياناً الارتياب بالسيرية، أو بطغيان ما، حتى لو كان محدوداً أو باهتاً، للساردة الأعلى على بادية. لقد تواترت في الرسائل (الآيبادية) وحدها، المتناصات الشعرية وغير الشعرية، كما كان لكل رسالة عتبتها، فتوالت الأسماء (سيد حجاب وأم كلثوم وكيركيجارد وحنا مينه ودوستويفسكي وحسن مطلك وسواهم. . ). وإذا كانت العتبات والمتناصات قد أشرعتا للغة أن تتلفح بالشعرية، فقد نالت من لغة الرواية أخطاءُ وفيرة، أضرب لها مثالاً واحداً «ضمّ بترتيب حذر عينان متوسطتان وأنفاً معتدلاً. . ووجنتان خفيفتي التورد»، والصحيح هو: (عينين متوسطتين، وجنتين). ولست أعني هنا ما تلامح من المفردات والعبارات بالعامية المصرية أو الإماراتية، بل على العكس، فالمرجّح لديّ أن هذا الحضور اللطيف للعامية قد عزَّز شعرية الرواية. وعلى الرغم من ذلك ومن سواه، مما يمكن أن يكون قد اعتور الرواية، يظل لها منجزها الجمالي المميز في استجابتها لمتغيرات الواقع.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©