الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اعترافات محرر الأخبار

اعترافات محرر الأخبار
30 أغسطس 2013 20:31
عملت لسنوات قليلة في مجلة أسبوعية، وكان للمجلة سياسة متشددة إزاء البيانات الصحفية التي تصلنا من المؤسسات والشركات، إذ كنا ننشر مضمونها ونطرح جانباً زخارف الاستراتيجية ومنمنمات الاستدامة. وكنا نميز بين افتتاح مشروع عظيم كالمترو وتخصيص «كاونتر» للسيدات أو توزيع «لقيمات» على العملاء عند مدخل الدائرة بمناسبة العيد الوطني، فالمترو يستحق أن يظهر على الغلاف، بينما ذلك «الكاونتر» البني الغامق لا يستحق أن يُنشر خبره، إلا إذا وقُعت عليه معاهدة السلام مثلاً. أما «اللقيمات» أو لقمة القاضي، فالقارئ يهمه أن يأكلها لا أن يستمع إلى صوت استغاثتها «تششش»، وهي تُقلى أمام المارة. لكن الأقدار ساقتني للعمل محرراً للأخبار في إدارة إعلامية بمؤسسة حكومية بعد أن أُغلقت أبواب المجلة، فأصبحت بين ليلة وضحاها أُعدّ البيانات الصحفية عن المؤسسة التي أعمل بها بدلاً من تلقيها ورميها في سلة المهملات أو اختصارها في سطر واحد. أخذت معي مقص البهرجة الإعلامية وشرحت لمسؤولي المباشر وجهة نظري في طريقة إعداد أخبار المؤسسة، وفي انتقاء المشاريع والمبادرات التي تستحق الكتابة عنها، وقلت له إن الطريقة المعتادة تضحك على القارئ، فحين تضع مؤسسة حكومية ورق محارم في دورات المياه المخصصة للعملاء، فإن هذه المبادرة العظيمة لا تستحق أن تُذكر، وإن كان لا بد من الاحتفاء بها، فيكفي كتابة سطر واحد فقط. القارئ قد يهمه معرفة قضية «الكلينكس»، لكن لا يهمه أن يعرف أن هذه «المبادرة» تأتي في إطار كذا وكذا، وأنها استجابة لكذا وكذا، وأنها واحدة من المشروعات العديدة التي طرحتها المؤسسة في مجال كذا وكذا، ولا حاجة أبداً لوضع عبارات طويلة عريضة على لسان المدير العام في شأن ذلك الورق الأبيض. وحين يلاحظ القارئ أن أخبارنا تتراوح بين قلي «اللقيمات» وإقامة بطولة «كيرم» في رمضان، فإن صرير قلم المدير وهو يضع إمضاءه على اتفاقية عالمية سيضيع وسط أصوات القلي وضربات الطاولة، وسيفقد الجمهور ثقته في مؤسستنا، مثلما يفطن المشاهد إلى أن المسلسل فارغ المحتوى حين يسير الممثل فيه عشرون خطوة إلى مكان الهاتف الذي يرن، بينما فـي المسلسـل الناجح يصل إليه في نصف خطوة، فلا وقت لتضييعه في أصوات المشي على البلاط. خرجت من عنده وأنا متفائل بإحداث نقلة نوعية، فبعد خبر وخبرين بالطريقة الجديدة، ستبادر كل المؤسسات بإعداد أخبارها بالطريقة نفسها، وستعتاد الصحف هذا المستوى، وستختفي أخبار «اللقيمات» و»الكاونترات»، وسيكون طول الخبر متسقاً مع أهمية ما يُفصح عنه. لا أذكر عن أي شيء كان الخبر الأول الذي كُلفت بصياغته، لكنه كان شيئاً لا قيمة حقيقية له، فكتبت ما أملى عليه ضميري كما يقولون، وما تعلمته في المجلة الأسبوعية، ثم علمتُ بأن الإدارة صاحبة المبادرة اتصلت بزميل آخر وطلبت منه إعداد خبر «مثل الناس». وكان مصير الخبر الثاني مثل مصير الأول، وهكذا مع الخبر الثالث إلى أن استدعاني أحد المديرين وأخذ يقرأ بملل خبر كتبته يخص إدارته، وقال وهو يلقي الورقة جانباً: ابني يستطيع أن يكتب بشكل أفضل! يا رجل! نصف صفحة فقط؟! كان الخبر عن إلقاء القبض على شخص يحمل مواد ممنوعة، والتزمتُ في صياغته بما ورد في محضر البلاغ الذي وصلني منهم، لكن المدير كان يريد أن أضع سيناريو للأحداث من رأسي، فأذكر حالة الرجل قبل القبض عليه، وأذكر بالتفصيل طريقة الإيقاع به بعد أن لُوحظ عليه علامات الارتباك، وأمارات القلق، وأشير إلى الحسّ الأمني الخارق لموظفي مؤسستنا. وطلب مني أن أذكّر القارئ بأنها ليست المرة الأولى التي نلقي القبض فيها على المجرمين، وأن أذكّّر هذا المسكين المسمى (قارئ) بأن مؤسستنا لا تتوانى عن ملاحقة ضعاف النفوس، وأن أذكّره بأننا لا ندّخر جهداً في تدريب موظفينا على الطريقة المثلى في التعامل مع هذه الحالات، وأن أذكّره بأننا نعزز دورهم بأحدث الأجهزة ووفقاً لأفضل الممارسات، وأن أذكّره بأنه سبق أن حصلنا على جوائز وشهادات دولية في هذا المجال، وأن كل هذا يأتي في إطار رؤية الدائرة، وقيمها المؤسسية، ومسؤوليتها المجتمعية، وشهادة الآيزو والبي إم بي والإكس واي زد. بعد جر وسحب استطعت تعبئة الورقة، لكنه لم يقتنع، وشكاني إلى مسؤولي المباشر الذي اعتقد أنني عنيد غبي يريد أن تنزل مؤسسة كاملة على رأيه، وأنه لم يكن يتوقع أنني فعلاً سأختصر أخبار المؤسسة في بضع سطور، وخرجت من عنده غاضباً، فهو إعلامي ويفترض فيه أنه تفهّم وجهة نظري، على عكس البقية الذين لا يفتحون الصحف إلا حين تنشر صورهم فيها. جلست إلى مكتبي أحدق النظر في شاشة الكمبيوتر، وانتبهت إلى أن التاريخ يشير إلى يوم 28، فقلت في نفسي: المهم هو الراتب، خصوصاً أن اسمي لن ينشر مع الخبر الذي سأكتبه بالطريقة «التطويلية» و»التطبيلية». لكن كانت المشكلة هي أنني لا أعرف كيف يمكن كتابة خبر عن لا شيء، خصوصاً أنني لم أكن أقرأ أخبار المؤسسات من الأساس، أو أبحث عن مضمون أخبارها ولا أتوقف عند الإطارات والاستراتيجيات. لم يكن أمامي إلا العم «جوجل»، فكتبت في خانة البحث عبارة «في إطار»، فظهرت لي عشرات النتائج لأخبار منشورة في الصحف تبدأ بالجملة العريقة: في إطار. ثم كتبت «وأوضح»، فحصلت على توضيحات كثيرة، ثم كتبت «ومن جانبه قال»، فوقعت على كنز من العبارات التي قالها هؤلاء الأشخاص من جانبهم، ثم كتبت «وتأتي هذه المبادرة»، و»أشار»، و»أكّد»، و»بدوره»، و»تناول»، و»استعرض». أعددت خبراً نموذجياً يتضمن كل تلك الأشياء، وأصبح بين يدي مفاتيح الكلام الذي يمكن قراءته من اليمين أو الشمال من دون أن يتغير المعنى، وصرت أفتح ملف «البروفة» كلما طلبوا مني إعداد خبر، وأملأ الفراغات ما بين «في إطار» و»يشار»، مستعرضاً ما قاله الجميع «من جانبهم». أحمد أميري me@ahmedamiri.ae
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©