السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الضيف الغامر الوافر

الضيف الغامر الوافر
23 أغسطس 2012
أنهى شهر رمضان المبارك ضيافته على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. خلع على عباد الله، قيمه الغامرة الوافرة، ما ظهر منها في السلوك وما قرّ في الوجدان. كان حضوره في أفئدة الناس مقاما وسكنا، خير دليل على ما يزرعه الإيمان في الصدور، ويحث عليه في الطاعات والواجبات. عمرت خلال الشهر الكريم المجالس الرمضانية، التي كانت رحابا من أجل التعبد، والمذاكرة في شؤون الناس وأحوالهم، وتزجية النفوس بما يطمئنها. وهو حال المسلمين منذ أن كانوا. وقد حفظ لنا لسان العرب، تراثا هائلا من أدب المجالس الرمضانية. وفي هذا الاستذكار نستعيد قصائد شعراء مسلمين يعربون عن حب الشهر وتقدير قيمته، وآخرين يبعثون التهاني والتبريكات بالمناسبة، ومنها ما كتبه معاصرون عن رمضان المبارك وعاداته أمثال طه حسين وكامل الشناوي ويحيى حقي، فضلا عما قاله شاعران من الأتراك عن رمضان. فها هو البحتري الشاعر العباسي المعروف يقول عن بدء رمضان: قم نبادر بها الصيام فقد أقمر ذاك الهلال من شعبان وابن حمديس الصقلي الشاعر الاندلسي المعروف يقول عن الهلال: قلت والناس يرقبون هلالا يشبه الصب من نحافه جسمه من يكن صائما فذا رمضان خط بالنور للورى أول اسمه ولهبة الله بن الرشيد جعفر بن سناء الملك في التهنئة بقدوم شهر رمضان من قصيدة طويلة: تَهَنَّ بهذا الصوم يا خير صـائر إلى كل ما يهوى ويا خير صائم ومن صام عن كل الفواحش عمره فأهون شيءٍ هجره للمطاعـم وأيضا يقول عمارة اليمني: وهنئت من شهر الصيام بزائر مناه لو أن الشهر عندك أشهر وما العيد إلا أنت فانظر هلاله فما هو إلا في عدوك خنجـر ولم يتوقف الشعراء طيلة العصور عند التهنئة بالشهر المبارك بل كتبوه حبا وفضائلا وترغيبا، فها هو الصاحب بن عباد يقول: قد تعدَّوا على الصيام وقالوا حرم العبد فيه حسن العوائد كذبوا في الصيام للمرء مهما كان مستيقظًا أتم الفوائــد موقف بالنهار غير مريـب واجتماع بالليل عند المساجد وحين يمتزج الفقه الاسلامي بالشعر يكتب الشعراء عن الأحكام والفضائل وشعورهم بأكثر من طريقة، فها هو الشاعر أبو بكر عطية الأندلسي يقول: إذا لم يكن في السمع مني تصامم وفي مقلتي غض، وفي منطقي صمت فحظي إذن من صومي الجوع والظما وإن قلت: إني صمت يوما فما صمت ويغرد أحمد شوقي في العصر الحديث: يا مديم الصوم في الشهر الكريم صم عن الغيبة يوما والنمـيم وفي النثر الأدبي الإبداعي كتب طه حسين عميد الأدب العربي يقول: فإذا دنا الغروب وخفقت القلوب وأصغت الأذان لاستماع الآذان.. وطاشت نكهة الطعام بالعقول والأحلام.. فترى أشداقا تنقلب وأحداقا تتقلب بين أطباق مصفوفة وأكواب مرصوفة.. تملك على الرجل قلبه وتسحر لبه بما ملئت من فاكهة وأترعت من شراب.. الآن يشق السمع دوي المدفع، فتنظر إلى الظماء وقد وردوا الماء.. وإلى الجياع طافوا بالقصاع.. تجد أفواهاً تلتقم وحلوقا تلتهم.. وألوانا تبيد وبطونا تستزيد.. ولا تزال الصحائف ترفع وتوضع والأيدي تذهب وتعود.. وتدعو الأجواف قدني.. قدني.. وتصيح البطون قطني.. قطني.. ومع تعــدد أصناف الطعام على مائدة الفطور في رمضان.. فإن الفـول المدمس هو الصنف الأهم والأكثر ابتعاثا للشهية...”. ويحكي كامل الشناوي عن طقوس رمضان فيقول: “وتباري الأعيان في إحياء سهراتهم بأحسن المقرئين، فهنا مقرئ يرتل القرآن بالسبعة، وهنا آخر يتلوه ورشا، وهناك ثالث يختم السهرة بقصد المولد الشريف، والأهلون يقضون الليل طوافا بهذه السهرات الممتعة، حيث يظلهم وتدفئ شفاهم رشفات القهوة والقرفة والشاي، ولم يكد رمضان يقيم أسبوعا في القرية الناعمة الباسمة، حتي وفد عليها شيخ وقور فأنزله العمدة منزل جود وكرم، وخصص له جناحا في المضيفة ولما حان موعد الإفطار قدم له الطعام حافلا بالأطايب واللذائذ، فصدف عنه وأبي أن يتناول منه شيئاً، وطلب تمراً ولبنا فجيء له بالتمر واللبن”. ويكتب الروائي الراحل يحيى حقي في غرائب الصائمين وتناقض بعضهم، فيقول: “في ليلة الرؤية، وهلالها ليس كبقية الأهلّة، يظهر خطفًا لا ليضيء، بل ليومِئَ ثم يغيب، لا أُخْلِيه من ميل للدلال والمعابثة، شَأْنَ كُلِّ مَزْهُوٍّ بجماله برغم جلاله، يتجه ذهني بود وحنان إلي صديق، أمثاله من حولي كثيرون، وأقول في سري: تباركت يا شهر الصيام، ما أقوى سحرك! وما أكبر حزبك! تمر على هذا الصديق مواقيت الصلوات الخمس، فلا يعرف له يومُه ركوعًا وسجودًا، الماء عنده للاستحمام لا للوضوء، وساعته ماشية إفرنجي لا عربي، إنه مُضْرِبٌ عن الصلاة، حتي يوم الجمعة. حَذَارِ أن تظن أنه رجلٌ كافِرٌ، أو أنه رجُلٌ سافِلٌ، بالعكس، هو رجل طيب جدًا، بل إنه يقول لك بلهجة الواثق: (بيني وبين الله عمار، الدين عندي ألا أؤذي أحدًا بفعل أو قول)! ما أعجب التحول الذي يطرأ عليه حين يَهِلُّ الهلال، كأن إيمانَهُ على موعد مع رِعْشَةٍ خفية تشمل قلبَهُ وتهيج كل أشواقه. أَتَأَمَّلُهُ فأحسبه رجلا آخر، ليس هذا صديقي الذي أعرف. فصديقي يصوم رمضان كل عام منذ أن كان في سن الثامنة، لا يخجل من إغفال الصلاة، ولكنه يخجل كُلَّ الخجل من إغفال الصيام!”. وسنقرأ عن رمضان الشهر ورمضان الصوم في أعمال أدبية كثيرة حديثة مثل ما يكتبه أو يصفه نجيب محفوظ في بعض رواياته عن ليالي رمضان أو توفيق الحكيم في كتابه “عودة الروح” أو يحيى حقي وغيرهم. كما لم يتوقف الشعراء في كل مكان عن الكتابة لهذا الشعر وعنه، بل وبلغات أخرى، حيث يمتد مفهوم هذا الركن الاسلامي نحو كل البشر من المسلمين، فيكتب الشاعر التركي قاني المتوفى في منتصف القرن التاسع عشر: “أيها التركي، قم وجئني بمسبحتي وسجَّادتي، فقد جاء شهر رمضان، نحِّ كل ما ينبغي للطرب عن مجلسنا. وأحضر المصحف حتى أقرأ ثلاث سور أو سورتين، واسأل الله المغفرة والرحمة للوالدين”. وهناك الشاعر التركي ثابيت الذي عاش أوائل القرن الثامن عشر كما يروي صلاح حسن رشيد : “واعتزل الزاهد وقبع في خلوته، وليس له ما يوسوس في سريرته، فلقد حُبس الشيطان، وسيظل حبيساً إلى آخر شهر رمضان”. هذه المشاعر الصادقة وما يتخللها من عمق أو رأي أو ظرافة أو حكايات تروى، بقيت في وجدان الأجيال التي تشترك في هذا الشعور الجمعي مع ضيفها الدائم شهر رمضان الكريم الذي يحمل في طقوسه المودة والرحمة وحسن الأيمان، والعكوف على أداء الفروض والواجبات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©