الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الخيال ينتج الواقع

الخيال ينتج الواقع
23 أغسطس 2012
أصدر الكاتب والباحث المغربي الدكتور عياد أبلال كتابه الجديد تحت عنوان: “الاخفاق الاجتماعي بين الجنس والدين والجريمة”. وذلك عن دار روافد للنشر والتوزيع في القاهرة، ويقع الكتاب في 245 صفحة، وهو مكون من عدد من المقالات والأبحاث والمداخلات ترصد ظاهرة الاخفاق الاجتماعي في الوطن العربي حيث يعتبر هذا الإخفاق الخلفية المرجعية لما يعيشه اليوم الوطن العربي من ظواهر اجتماعية تؤرق بال الباحث الاجتماعي، مثلما تؤرق بال المسؤولين في مختلف قطاعات الدولة على المستوى الرسمي، ومختلف هيئات وجمعيات المجتمع المدني، باختلاف وجهات النظر. هذه الأطراف تشكل في حقيقة الأمر الأرضية الخصبة للحوار الديموقراطي كمدخل أساسي للتنمية البشرية في مختلف أبعادها الاجتماعية، الثقافية والسياسية، شريطة أن يكون هذا الحوار قاعدة لمقاربة تشاركية. فإذا كانت مهمة الباحث الاجتماعي هي بسط مشمول هذه الظواهر للدراسة والتحليل، فإن نتائجه واستخلاصاته النظرية والتطبيقية تبقى رهينة مدى حيوية المجتمع المدني والإعلام في محاجبة مختلف الهيئات الرسمية على مستوى الدولة في إطار خطاب تواصلي يبتغي تفكيك هذه الظواهر وتصحيح مسار المجتمع على مستوى الأداء الوظيفي الجيد لمختلف أنساقه المشكلة للفعل الاجتماعي. مرجعية نظرية ويشكل الإخفاق الاجتماعي حسب الباحث عياد أبلال في توطئة الكتاب، “الناظم المركزي لمشمول الظواهر الاجتماعية التي تجد تجلياتها على مستوى المجتمع في حالة السلوكات الفردية منها والجماعية المنفلتة عن النموذج السلوكي المقبول اجتماعيا أو ما يسمى بالردايغم (Paradigme)، حيث تحدد درجة هذا الإخفاق درجة وطبيعة هذه السلوكات ومن ثم هذه الظواهر، فمن الظواهر المرتبكة بالجنس، الدم، إلى الإرهاب كدرجة قصوى للعنف والجريمة يتشكل هذا الكتاب الذي يعتبر في الحقيقة مجموعة من المقالات والمداخلات التي قدمت في مناسبات فكرية وثقافية، بالإضافة إلى مجموعة من الحوارات لصالح مجلات وجرائد مغربية وعربية، خاصة أمام الحاجة الملحة للطلب الاجتماعي المتزايد على ضرورة معرفة هذه الظواهر معرفة سوسيولوجية وأنثربولوجية كفيلة ببناء قوة اقتراحية على المستويين الاجتماعي والسياسي. ويعتبر الباحث عياد أبلال ومن وجهة نظر الوظيفية المجتمع، إن التوازن الاجتماعي هو الخلفية النظرية لكل تحليل سوسيولوجي يبتغي دراسة الظواهر الاجتماعية دراسة موضوعية، على اعتبار أن حالة التوازن هذه هي حالة المجتمع في صورته النموذجية، أو لنقل المثالية، باعتبارها الحالة التي تضمن وظيفيا الأمن والأمان للفرد والجماعة. من هذا المنطلق النظري حاول الباحث مقاربة مختلف الظواهر المرتبطة بالجنس/ والجنسانية على إعتبار مركزية هذه الظواهر في الحياة اليومية لكل المجتمعات العربية. ويرى الباحث أن الجريمة كشكل من أشكل العنف هي نتاج الخلل الوظيفي في أداء الأنساق المشكلة للفعل الاجتماعي، وإذا كانت الجريمة في الوطن العربي مرتبطة بشكل كبير بالفعل الاجتماعي الفردي، فإن هذا الفعل ما هو في نهاية التحليل سوى النتيجة الموضوعية للخلل الذي يصيب نسق الشخصية، والنسق الثقافي. وسواء تعلق الأمر بالعنف المرتبط بالجنس/ الجنسانية، وعلاقات الدم، أو بالحيف والإستعباد الإجتماعي مثلما هي الحال بالنسبة إلى جرائم السرقة، والعنف الأسري أو العنف في الشارع العام. نموذج روائي ويضع الباحث عياد أبلال إحدى الروايات الأكثر شهرة على صعيد العالم العربي والتي ترجمت إلى عدد كبير من لغات العالم، ونقصد هنا رواية “الخبز الحافي” لمؤلفها الكاتب المغربي المعروف محمد شكري، كنموذج لتقديم صورة المرأة وكيفية حضورها السوسيو ـ ثقافي، وبالتالي خلخلة مختلف البنيات الرمزية للمتخيل الشعبي الذي يرتبط في تشكلاته وارتباطاته بعدد من المحددات، من ارتباطاته وتعالقاته بالمحدد السوسيو ـ اقتصادي، وهذه المحددات والعناصر تحضر في الخطاب السردي كدليل ومؤشر على ارتباط النص أو الخطاب بالمجتمع وبالتالي بخصوصياته وسماته السوسيو ـ تاريخية التي تضمر كل المحددات والعوامل المشكلة لكمياءاته وظواهره وانتاجاته الفكرية والحضارية، ومن ثم تؤشر على طبيعة اشتغالاات الأديب ومدى المسافة التي تفصله عن هذا المجتمع. كما يتضح بالنتيجة للقراءة العميقة كشرط لانتاج النص الموازي للأثر الإبداعي ولمختلف استجابات القارئ للبنيات الشكلية، الجمالية والأسلوبية من جهة، ومن جهة أخرى أساسيات التقطيع والتركيب لمختلف المحددات السابقة والتي تشكل في مجموعها العالم المعطى او الواقع الخام لأن الواقع الذي يعالجه النص المراد دراسته في نهاية المطاف هو العالم المبني، أي الواقع بعد اشتغال الكاتب على المستوى التخييلي، لذلك فإن قصدية النص أحيانا قد تختلف عن قصدية الكاتب، خاصة أمام تدخل عدة عناصر لا نصية تتحكم في نهاية المطاف في دلالات وقصدية هذا النص أو ذاك، ومن جملتها لا شعور الكاتب في حد ذاته. من هذا المنطلق يصبح كل نص، كما يدلي بذلك جاك دريد حاملا في ثناياه قوى عمل هي في الوقت ذاته قوى تفكيك له. فهناك دائما امكانية لأن تجد في النص المدروس نفسه ما يساعد على استنطاقه وجعله يتفكك بنفسه، وبالتالي يصبح النقد ليس من الخارج وإنما بالإستقرار أو التموضع في البنية غير المتجانسة للنص وبالعثور على توترات او تناقضات داخلية التي تبقى شديدة الإرتباط بالخلفية الثقافية والإجتماعية للمجتمع. ولما كان الأدب شديد الارتباط بالمجتمع، بالرغم من بعده التخييلي، فقد حاول الباحث رصد الهندسة الاجتماعية للجنس كأساس نظري لتفكيك الجنسانية من خلال قراءة سوسيولوجية لرواية محمد شكري “الخبز الحافي”. ويقول المؤلف عياد أبلال انه اختار نص “الخبز الحافي” كنموذج لأنه في الأصل التجنيسي سيرة ذاتية، وجد فيه حضورا كبيرا لعدد من المقاطع السردية الدالة على المحددات الإجتماعية والثقافية والإقتصادية الكامنة وراء النظرة الدونية والاحتقارية للمرأة في المجتمع المغربي، كتجل للجنسانية، وإذا كنا نفترض ـ كما أثبتت الدراسات والقراءات النقدية ـ أن وضعية وخصوصيات الكاتب السوسيو ـ اقتصادية وانتماءه الطبقي، ووضعه الاجتماعي تحدد كما هي الحال عند كل فرد داخل المجتمع، رؤيته وتمثلاته بخصوص المرأة، كما هي الحال لنظرته تجاه العالم والأشياء، فإننا نجد أنفسنا ملزمين بالقراءة العميقة مع المؤلف، انطلاقا من خلخلة وكشف الأقنعة والبنيات غير المتجانسة، واللامقول الثاوي في مكامن ومضمرات الخطاب السردي، إذ لا يهم الخطاب المباشر والجلي بقدر ما يهم الخطاب الثاوي والمضمر. فإذا كانت صورة المرأة برأي ابلال في المتن “الشكوري” تتشكل ألوانها وملامحها انطلاقا من تقزيمها إلى جسد شبقي وكائن مخادع ومخاتل، ومسبب لتعاسة وجحيم الرجل، الذي كلما أحكم سيطرته عليها وعنفها وعذبها كلما إكتملت فحولته ورجولته وبالتالي عاش في أمان، فإن اللامقول يحمل المحددات والعوامل المؤطرة لهذه النظرة والرؤية الذكورية، ومن ثم لوضعية المرأة في المجتمع المغربي. بيد انه ومن خلال القراءة العميقة والمفككة لبنيات اللاتجانس النصي، نكتشف مع محمد شكري بإعتباره القارئ النموذجي لخطابه السردي بتعبير (إيزر) أن الهيمنة الذكورية مجرد وهم يعيشه الرجل الضعيف، والمهمش اجتماعيا والمقهور سوسيو ـ اقتصاديا، وأن جسد المرأة هو نتاج تموقعها الطبقي والاجتماعي، وأن النظرة الشبقية للمرأة وتقزيمها في المُحدد الجنسي باعتبارها موضوع اللذة الذكورية ما هو في العمق سوى تعبير مقنع عن حالات التيه والفقر والمعانات الإجتماعية التي قد يكون محمد شكري ـ وبدرجة أقل محمد زفزاف ـ قد عرفها بل وعاشها وتعايش معها بامتياز. ولعلنا نجد في الكلمة التي خص بها الناشر الطبعة السابعة من “الخبز الحافي” ما يشير إلى ذلك: “لم يتعلم محمد شكري القراءة والكتابة حتى العشرين من عمره، فكانت حداثته انجرافا في عالم البؤس؛ حيث العنف وحده قوت المبعدين اليومي، هروب من أب يكره اولاده، فقد قتل أحد أبنائه في لحظة غضب، شرود في أزقة مظلمة وخطرة بحثا عن الطعام القليل أو عن زاوية لينام فيها، واكتشاف لدنيا السارقين والمدمنين على السكر. تلك هي عناوين حقبة تفتقر إلى الخبز والحنان”. ويضيف الباحث مستنطقا عمل محمد شكري “الخبز الحافي” إذا سلمنا من وجهة نظر (فاينريش) في تحليله اللغوي النصّي بأن أوجه الترابط النحوي على مستوى الجملة ثم على مستوى النص تؤدي إلى توازي المستويات وتسهم معا في تحديد البنية الكلية المتماسكة، حيث لا ينظر إلى الجملة باعتبارها جزءا مستقلا مقيدا يمكن عزله عن بقية الأجزاء المكونة لكلية النص، بل هي جزء مكمل لان الجملة تقدم معلومة محددة تسهم مع المعلومات الأخرى في تشكيل كم من المعلومات التي تتضامن بقوة في بنية واحدة مشكلة المعنى الكلي أو المغزى فإننا سوف نعتمد في اشتغالنا التطبيقي على “الخبز الحافي” على عدد من الجمل التامة المعنى والدالة في إطار التعالق النصي مع بقية الاجزاء المكونة لكلية النص، إذ أن قراءتنا لهذه البنيات والجمل الدالة تتم وفق صيرورة جدلية بينها وبين النص في كليته. أوهام الفحولة من هذا المنطلق نصل إلى اكتشاف، وكما سبق الذكر مناطق اللامقول والخفاء داخل النص، والقراءة التي نعتمد هي محاولة تفكيك مكوناتها وإخراجها من الخفاء إلى التجلي، وذلك من خلال حضور الفهم في تفاعل ذات القارئ مع النص باعتباره عالما غامضا قابلا للاستدراك في وعينا الحركي من خلال التعرف على ما خفي في صلب التجلي. هكذا إذن سوف ننطلق من المواصفات والصور التي تتخذها المرأة في “الخبز الحافي” لنصل إلى معاناتها الحقيقية مع الرجل، ومن ثم محاولة تفكيك أوهام الفحولة والذكورة باعتبارها مرجعيات تسلط الرجل في المجتمع للوصول مع شكري في حد ذاته إلى البرهنة من خلال المعيش اليومي على ان تلك الفحولة متخيلة ولا تمت بصلة للواقع الخارج النصي كما هو داخل النص ما دام هذا الأخير يمكن تصنيفه على مستوى الشكل في إطار البنية الواقعية ـ التسجيلية لأنه بالأساس سيرة ذاتية، فالمقاطع الدالة التي سوف نأتي على تحليلها يتخللها عدد من العناصر التي يمكن تحدديها، وهي عناصر منتقاة من الواقع الاجتماعي أو من وقائع أخرى خارج نصية، ومع ذلك فإن مجرد نقل هذه العناصر من الواقع إلى داخل النص ولو انها لا تكون مائلة فيه من اجل ذاتها لا يجعلها بحكم طبيعتها عناصر تخييلية، بل إعادة إنتاجها داخل النص التخييلي هي التي تبرز الأهداف والمواقف والتجارب التي ليست بالتحديد جزءا من الواقع الذي يعاد إنتاجه، وبالتالي يحول هذا الفعل التخييلي الواقع المعاد إنتاجه إلى دليل، ومن خلاله نعثر على المسالك المؤدية إلى توترات النص ومفاصله. بالرجوع إلى النص التطبيقي نجد أن المؤلف قد جعل السارد يتقمص ضمير المتكلم لأن المسافة التي تفصل محمد شكري عن النص منعدمة اساس، لهذا فضمير المتكلم على المستوى السردي يؤكد انصهار المؤلف في السارد خاصة وان لديه القدرة على إذابة الفروق الزمنية والسردية بين السارد والشخصية والزمن جميعا، وذلك لكون محمد شكري قد عاش الواقع الاجتماعي الذي يعاد انتاجه تخييليا في النص، وبالتالي فما يعبر عنه هذا المتن السردي هو في العمق إلى حد ما، ما يمثل قصدية مؤلفه ليس كشخص ، بل كمتقمص للنحن الإجتماعي، وكمتكلم باسم الجماعة التي ينتمي إليها. كل ذلك للبرهنة على أن الصورة التي تعكسها كتاباته السردية هي تعبير عن رؤية وتمثلات هذه الجماعة التي هي الهامش المغربي، وبالنتيجة هي نتاج عوامل اجتماعية واقتصادية، تشكل على المستوى الخارج نصي المعيش اليومي وبيئة هذا المؤلف، كما تعبر بأمانة عن مخيال ولاشعور الجماعة التي ينتمي إليها. ويختم الباحث عياد أبلال بحثه بالقول، يتضح من خلال القراءة التفكيكية والتأويلية التي جعلنا منها استراتيجية ومهجا لكتابة النص الموازي لـ”الخبز الحافي”، والذي هو في العمق هدم لتجليات وتطبيقات الهيمنة الذكورية، وإسقاط لفحولة لا تمُت للطبيعة المعطاة بصلة بقدر ما هي نتاج لثقافة وظروف سوسيو ـ اقتصادية معينة، كما هو في الوقت ذاته بناء يتخذ من الإنصاف والمساواة والعدالة الاجتماعية الأساسات الصلبة، لأن الحقيقة النصية في “الخبز الحافي” هي أن العلاقة بين الرجل والمرأة قامت بصورة عامة على طمس حياة المرأة اجتماعيا وفكريا، وجعلت منها وسيلة لمتعة الرجل، ولم ترق الزوجة والمومس إلى مصاف الأنثى/ الرمز الإنساني المبدع، وظلت تدور في فلك الذكر الذي لم ير فيها إلا ما ينسجم ووهمه الفحولي. فبالرغم وكما قال الطاهر بن جلون عن محمد شكري من كونه “يكتب الأمور التي لا تقال، بحيث يلفها الكتمان، أو على الأقل لا تكتب وتنشر في الكتب، خصوصا في ميدان الأدب العربي المعاصر” فإن الإنصات لنصوصه كفيل بمعرفة نبض وتمثلات الهامش في مجتمع ذكوري بامتياز.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©