السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

امتطاء الحصان الخشبي

امتطاء الحصان الخشبي
23 أغسطس 2012
صدر قبل أيام كتاب جديد يحمل عنوان “شعرية العمر” للقاص البصري الراحل محمود عبد الوهاب، ويأتي الكتاب بعد موته بفترة طويلة، خلافا لرغبته في أن يصدر هذا الكتاب في حياته، والكتاب الذي صدر عن دار المدى يتضمن مجموعة مقالات نشر معظمها في جريدة المدى العراقية. يتضمن شعرية العمر خبرة سنوات طويلة في القراءة والكتابة الإبداعية ومنغصات الحياة وأفراحها عاشها الكاتب طيلة اثنتين وثمانين عاما، معظمها في مدينته البصرة كمواطن أبدي، خارج إغراءات السكن في مدن عربية أو عراقية، مواطن تسكن روحه أصداء أوجاع الآخرين من عامة الناس، ويؤرق جوانحه هذا التخلف الدائم المتخندق في وطنه. عذابات الذات من بديهيات حياة القاص الراحل محمود عبد الوهاب ولعه الكبير في سرد الطرائف التي تحول أحزان الحياة ومنغصاتها إلى فكاهة ومرح مر يثير الأسئلة، ويستخف بالأهوال والمنغصات اليومية، وكأنه بذلك يدرأ عن نفسه وأصدقائه وتلاميذه قوة صدمات الحياة وجبروتها ولا معقوليتها، لكنه لم يستثمر ذلك قط في كتاباته القصصية، التي جاءت جادة في تفاصيلها وفي افقها الدلالي، كما انه استخدم سردا رشيقا، حافلا بالصور والأحاسيس الإنسانية العميقة، وبهذا المعنى أصبح من أساسيات كتابه “شعرية العمر” انه تجاوز لعثرات الواقع المعيش ومنغصاته الكثيرة، باتجاه نزوع أصيل يمجد بهجة الحياة، ويسبغ عليها فيضا من الإحساسات والأفراح التي يستقيها من تجربته الخاصة في الكتابة وتجربة مجايليه جيل الخمسينات الذين أسهموا في تعبيد طريق الحداثة في الكتابة الأدبية في العراق، بما يسميها الالتماعات الشجاعة، حين يأنس المرء بلحظته دائما، ولا يأسف على ما فات، وسيقتحم ما سيأتي به الغد من دون خشية. لقد عاش الراحل أيامه الأخيرة في مدينة البصرة بمشقة بالغة، تتحكم فيها متطلبات الحياة: من سكن، لا تتوفر فيه ابسط أشكال الراحة، موزعا بين بيوت أصدقائه وتلاميذه، الذين احتضنوه وحاولوا التخفيف من صعوبات حياته وهو في عمر حرج، ولكنه كان وهو في هذه الحال يكتب شعرية العمر، متجاوزا كل المرارات والمصاعب التي يعيشها يوميا، ومتجاوزا كل الخروقات اللاإنسانية التي تحيط بحياة مواطني بلده: الطائفية المقيتة والقتل المجاني اليومي، والفساد المستشري في كل مكان... باتجاه تأصيل جذوة الحياة وشرارتها المتوهجة أبدا، مستثمرا أحلام الكتابة بديلا عن الحياة القاسية ومنغصاتها اليومية وقد كتب عن ذلك في “أحلام مغدورة”: “في تلك السنوات ـ منتصف الخمسينات ـ كانت أحلامنا تتقد، تلاحقنا حقيقة الواقع أيضا، غير أن مساحة أحلامنا، كانت تتسع حتى لم تبق للواقع سوى هامش ضئيل، كنا أغنياء حلما، نبصر ما حولنا بعيني ما نقرأ...”، وهذا ما كان يحمله حتى آخر شهقة. لقد كان الحلم في الكتابة بديلا عن الحياة وبديلا عن الأمل الذي ضاع وسط ضجيج الادعاءات الفارغة، وأصوات الحروب المدمرة، والخراب الرهيب الذي حل بالأمكنة الأليفة حتى بدت شواخص عارية عن أزمانها، غريبة عن ذاكرة الذين عاشوا تحت افيائها وظلالها. قوس قزح للصورة الفوتوغرافية في حياة الراحل محمود عبد الوهاب وسيرته في الكتابة دور مهم فهو يشير إلى أن سطوتها عليه “تكمن في لغتها المرئية: الواقع وزمنه المتحقق داخلها، سطوتها أيضا تأتي من زمنها الكامن الذي يحفر في ذاكرة الرائي لها”، ثم يصف توالي اللحظات في الصورة حين ينشطر الزمن في الصورة والذاكرة إلى “حاضر يمضي وماض يبقى” ليؤكد أن الصورة تستهويه وتحزنه أحيانا فما أن يلتقط احدنا صورته حتى يستحيل زمن الحاضر عند التقاطها زمنا ماضيا يقربه من نهاية النفق. والقاص يستثمر الصورة تقنية قصصية في قصته الشهيرة “سيرة” التي تبنى على صورة فوتوغرافية لأصدقاء “تنتهي مصائرهم نهايات محزنة، وهو لم يكتف بقصة سيرة بل كتب بعدها رواية اسميتها “سيرة بحجم الكف” آمل أن تنشر قريبا، تعتمد الرواية على صورة فوتوغرافية أيضا للأشخاص والأشياء، يلعب زمن الصورة في الرواية دورا أساسيا. الشاهد الأخير يتضمن كتاب “شعرية العمر” التماعات في ذاكرة المبدع الراحل عن الجيل المؤسس للحداثة الأدبية في العراق في الشعر والقصة بشكل خاص: السياب والبريكان وسعدي يوسف في الشعر وعبد الملك نوري، فؤاد التكرلي، مهدي عيسى الصقر ومحمود عبد الوهاب ومحمد روزنامجي وغيرهم، وتحت عنوان “الغجرية التي أحزنتنا ذلك المساء” يسرد حكاية الغجرية التي سألها السياب ذات يوم مداعبا أن “تكشف بالحجر الذي تفرشه على الأرض ستر مصائرنا” ثم يقول: “وقد أحزنتنا حينما قالت لبدر: تموت صغيرا في أرض غريبة، ولمهدي أراك تحت نجم آخر، ولي ستعيش حياتك بلا رفيقة درب، ولسعدي ستتقاذفك البلاد الغريبة، وتنبأت للبريكان بمصير فاجع”، وفي نهاية مقاله يتساءل “غالبا ما أتوق إلى لقاء تلك الغجرية اسألها: هل بالإمكان أن يرجع الزمن حقيقة وتعود هي إلى تغيير مواضع أحجارها اللئيمة التي فرشتها على الأرض ذلك المساء، هل بالإمكان؟”. لكنه إذ لم يجد جوابا، فهو يسترسل في إسباغ الأوصاف النبيلة على أفراد جيله واصفا الشاعر محمود البريكان في إحدى زياراته له “جلس متنحيا في طرف المقعد، يداه مسبلتان على فخذيه، متنحيا تماما كما لو انه هو الضيف، أتذكر كيف كان يكور إطراف دشداشته بين ساقيه كل لحظة، وكيف كانت ساقاها المتصلبتان تمتدان، وقدماه تتسلان إلى نعليه”. ويكتب عن عبد الملك نوري وهو يستقبل صباحاته كل يوم حاملا حفنة من الرز ويقف “مثل أي شجرة ثابتة لا تتحرك، يقف عبد الملك وتأتي الحمائم بمناقيرها الوردية تلتقط حبات الرز وتلامس كف عبد الملك وهو ببهجته تلك قال: “اشعر كأنما الحمائم تداعبني ثم أليس من وظيفة الكاتب ان يسعد الآخرين”. مردان وسارتر وتحت عنوان “مقاهي حسين مردان” يذكر أن الشاعر طلب من أصدقائه التبرع ببعض المال لاستضافة الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر الذي كان في زيارة إلى مصر نهاية الستينات من القرن الماضي “فليس من اللياقة ـ في منطق حسين مردان طبعا ـ ألا يدعى سارتر إلى بغداد وفيها عدد من إقرانه، وأبرزهم حسين مردان. يا لطرافة الخيال”، لكن القاص الراحل يمسح هذه الطرفة الساخرة بتقييم جاد للشاعر: “كان حسين مردان في الخمسينات حتى رحيله جزءا عضويا من البنية الثقافية والمشهد الإبداعي في العراق، لا يمكن تجاوزه حينما يكتب التاريخ الثقافي لتلك الحقبة”. يضم كتاب “شعرية العمر” إضافة إلى ذلك مجموعة كبيرة من المقالات التي تستعرض خلاصة تجربته في كتابة القصة والرواية وتؤكد سعة ثقافته واطلاعه المتنوع في قراءة التراث العربي والتراث العالمي الذي يجعل من القاص محمود عبد الوهاب، ظاهرة ثقافية وموسوعة أدبية محكمة. إن كتاب “شعرية العمر” تكثيف لمباهج الحياة وتكليل لـ”التماعاتها” ما بين صغار “نمتطي قصبة لا نتخيلها حصانا، انما نراها حصانا حقا” وبين شيخ يكون سعيدا حتى بهذا العمر وهو يحمل قناعة تقول “لا تندم على ما فات، وتغامر بما سيأتي به الغد، أنت إذا ابن الدهشة والحلم وجامع السعادات”. فيها يأنس الكاتب بلحظته دائماً ويسرد مباهج لا يطالها الأسف على ما فات، مع اقتحام ما سيأتي من دون خشية. بعيدا عن التفجع والعويل وإكثار الشكوى من محبطات الحياة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©