بغداد ــ حمزة مصطفى:
اذا كانت شبكة الإنترنت هي إحدى العوامل التي جعلت العالم مسطحاً مثلما يرى الكاتب الأميركي توماس فريدمان في كتابه الجديد (العالم مسطح) فإن للانترنت حكاية أخرى في عراق مابعد أبريل عام ·2003 فالانترنت ربما هو النعمة الوحيدة التي هطلت على العراقيين مع سقوط النظام السابق والتي لم تتحول الى نقمة مثل نعم كثيرة كانوا يتمنونها حتى في أحلامهم مثل الديمقراطية التي كرهوها الان حتى النخاع· ففي العاصمة التاريخية التي اشتهرت بلياليها التي تعدت الالف بواحدة والتي كانت ترويها شهرزاد للملك الظالم شهريار حتى يدركها الصباح لتمتنع عن الكلام المباح، لم يعد فيها الان ماهو سري أو مسكوت عنه· ولم يعد الليل الذي كان ساحراً سواء على عهد هارون الرشيد او ابي نواس الذي أقفر شارعه العتيد على نهر دجلة حتى من مطاعم السمك المسكوف التي شملها التهجير القسري الى دول الجوار· ففي عهد الدكتاتورية كان مسموحاً بالسير في هذا الشارع لكن دون حبيبة بالنسبة للعشاق ودون كاميرا بالنسبة لهواة التصوير خشية ان تلتقط الكاميرا صورة خفية للجانب الآخر من النهر حيث تقع مكاتب القصر الجمهوري· وبغداد غادرت نهائياً حياة الليل منذ أكثر من سنتين تقريباً· فحظر التجوال مفروضاً عليها بدءاً من التاسعة ليلاً وحتى السادسة صباحاً، غير أن الأمر يتعدى مفهوم حظر التجوال ذلك ان المخاطر الحقيقية تبدأ بعد سريان هذا الحظر· ففرق الموت لا تنشط الا بعد الحظر·
وإزاء هذا الوضع فلم يعد أمام عشاق ليل بغداد سوى نسيانه تماماً مع أن التراث الغنائي العراقي حافل بالأغاني التي تتغزل بالليل وما يتركه من شجون بدءاً من أغنية (اجلبنك ياليلي اثنعش تجليبة تنام المسعدة وتكول ما ادري به)·· لكن كيف تنام ''المسعدة'' وسط ضجيج الهاونات والقذائف الصاروخية والطلقات العشوائية·· ولم يعد هناك أي شاعر مثل مظفر النواب قادراً على مخاطبة ''حمد'' بقوله: ''مرينة بيكم حمد واحنة بقطار الليل·· واسمعنه دك كهوة وشمينة ريحة هيل''· لم تعد الان سوى رائحة البارود والجثث المتعفنة في ليل بغداد الطويل· إزاء هذا كله فقد وجد العراقيون حلاً لمشكلة الليل الطويل من خلال الانترنت، حيث أصبح الآن وسيلة التزاور والتواصل الليلية بينهم· وفي الوقت الذي انتشرت فيه مقاهي الانترنت في المناطق والأحياء فإنها ومع انحسار الحركة تقلصت الى حد كبير ما عدا بعض المناطق المغلقة لهذه الجماعة أو تلك· وفي الجمود القسري للحياة أخذت تمتد الشبكة العنكبوتية في ليل بغداد حيث وجد المواطنون ضالتهم في الحديث · ولعل من المفارقات اللافتة للنظر أن غالبية مستخدمي الانترنت في ليل بغداد الطويل كثيراً ما يستغربون ما يجري من صراعات مذهبية أو طائفية·· ففي منطقة شيعية هجرها السنة يتواصل الشيعة الباقون مع المهجرين السنة في أماكنهم الجديدة سواء داخل العراق أو خارجه· ليس هذا فقط، فالجيران والأصدقاء من المذهب الآخر هم الذين يحرصون على إيصال الأخبار الطيبة لجيرانهم واصدقائهم المهجرين لجهة قيامهم بحماية بيوتهم أو ربما متابعة أعمالهم التي تركوها وتحويل مستحقاتهم المالية المترتبة على هذه الأعمال· لكن الانترنت الذي وحد العراقيين بعد أن فرقتهم السياسة قسراً لم يسطح مشاعرهم وأحاسيسهم طبقاً لنظرية فريدمان بل عمق تصورهم لعمق المأساة التي انساقوا اليها مرغمين بسبب هيمنة المليشيات وفرق الموت وتجار السياسة والحروب·
عدد اليوم
