الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

قهوة المحرِّر وفنجان الجريدة

17 نوفمبر 2006 00:37
رسول محمد رسول: قال الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلو بونتي في كتابه (المرئي واللامرئي): ((نحنُ نرى الأشياء كما هي، والعالم هو ذلك الذي نراه))· لذا ونحن نتراحل في مفازة هذه الدُّنيا الشجواء ترانا ككتَّاب نمتشقُ أقلامنا لنكتب عمَّا نرى علَّنا نضيف إلى العالم بعض ما يجود به حراك الناس فيه من معانٍ وأفكارٍ وقيمٍ وسلوكات ليصبح كل ما نكتبهُ جزءًا ملقىً على عاتق هذا العالم من حولنا كي يتقبَّله بوصفه نصاً مضافاً إلى نص العالم ذاته وليس مجرَّد كتابة فائضة تسعى إلى بسط سلطتها عليه قسراً لتصبح عبئاً على كينونته· وهكذا هي الحياة رحلة، نتوقف خلالها في محطات، كمحطات القطارات او المطارات، أما بداية رحلتي مع الكتابة فكانت في منتصف ثمانينيات القرن العشرين حيثُ بدايتي في الصحافة العراقية والعربية، كانت الجريدة الورقية وما زالت هي عيني على العالم من حولي، وهي أيضاً عين العالم على وجودي بكل ما فيه من تفاصيل حياة الكاتب أو المثقف· لا تعدو الجريدة أن تكون مقالا وكاتبا ومحرِّرا، ما يعني أن وجودها هو وجود مركَّب، لكنه أيضاً هو وجود حيوي مُتراص في عضويته؛ فنشر المقال لا يتم من دون محرِّر، ومثلما لكل مقال حكاية مع المحرِّر، كذلك لكل كاتب حكاية مع محرِّر مقاله أو مقالاته، ولعلَّ الأمر يحتمل أكثر من حكاية ثرية في كينونتها إذا كانت رحلة كاتبٍ ما قد طالت أعواما عدَّة مع محرِّر بعينه وفي جريدة معينة· مبنى الجريدة قبل أن تطأ قدماي مبنى جريدة الاتحاد في يوليو 2001 ما كانت لديَّ أدنى فكرة عن مكان الجريدة سوى أنها تقع في العاصمة أبو ظبي، فمبنى جريدة الاتحاد الاماراتية لا صورة له في حين هناك صحف تحتفي بمبناها حتى أنها تضع صورة له في إحدى صفحات الجريدة، ولذلك تحدو كتَّاب أية جريدة الرغبة العارمة بأن يتعرَّفوا إلى شكل المبنى الذي تصدر فيه الجريدة يومياً· ومع ذلك، ولأن مدينة أبو ظبي تصل إلى مركزها من كل الدروب، فإنك ستجد مبنى الجريدة يمثل الرقم (2) من مباني الإمارات للإعلام، إنه مبنىً أبيض اللون يحيط به فضاء مفتوح يبعث في نفسك الارتياح حالما تكون بين أجوائه· ذلك هو الانطباع الأول الذي صار عندي عندما دخلت المرة الأولى من دون عناء إلى مبنى الجريدة في التاريخ الذي ذكرتهُ· مرَّت شهور كنتُ أكتب خلالها في صفحات عدَّة؛ منها صفحة الثقافة وصفحة إعلام وصفحة كُتب، وكلها كانت ضمن ملحق (دنيا)· وبعد اندلاع الحرب على العراق في أبريل ،2003 كانت الحاجة أكثر من ملحة للكتابة عن الشأن العراقي من الناحية السياسية والعسكرية· في تلك الأجواء كانت بداية جديدة لي مع محرِّر الشئون السياسية خالد عمر بن ققة، المسئول عن تحرير صفحة (التقارير)، وهي الصفحة التي بدت أكثر اقتراباً من الحدث العراقي على مدى السنوات الثلاث الماضية من الناحية التحليلية، وأكثر تكريساً لدور جريدة الاتحاد في متابعة الحدث العراقي، فضلاً عن أحداث خليجية وعربية ودولية أخرى كانت وما تزال ساخنة في حراكها· طائر الجنوب خالد بن ققة، كاتب وصحافي وأكاديمي جزائري، ولد في مدينة تامرنا الجديدة ضمن ولاية الوادي في جنوب الجزائر، منذ عام 1981 صدرت له مؤلفات عدَّة في الشأن الجزائري والعربي وصل تعدادها إلى أكثر من أربعة عشر كتاباً· وله في ساحة العمل الصحافي والإعلامي تجارب ثرية جرَّبها في أكثر من حاضرة ثقافية وإعلامية عربية· ريثما كانت الحرب تدور برحاها على العراق، كانت لي بداية مع طائر الجنوب، فقد جمعتني مع بن ققة علاقة الكاتب مع المحرِّر، وعلاقة المثقف بالمثقف، كانت علاقة متبادلة إزاء همٍّ واحد هو همُّ الكتابة، وهو الهمّ الذي نتشارك به معاً، فما يميز طائر الجنوب هذا أنه ليس صحافياً مارّاً على ديار بني صحافة توهماً أو تمهُّناً من أجل رغيف خبز ما، إنما كان ولوجه إلى تلك الديار كمنعطف وجوديٍّ وكتحوِّل قدريٍّ وكتكريس تعبُّديٍّ فوجد في الكتابة سجادة السعي إلى حقيقة الأشياء في العالم الذي نعيش فيه كبشر وتلك هي إلمامة المثقف فيما يكتب· لكي ترى العالم من حولك لا بُدَّ لكَ من استنطاق حراكه، ولمّا كانت صفحات التقارير في جزئها التحليلي تتطلَّبُ منك التفكير فيما يجري من أحداث هي ساخنة أبداً في أرض الله ودموية غالباً في العراق، فإن الكتابة لا بُدَّ لها من مجالسة، وبين التقليد الصحافي والرغبة العارمة في الحوار بين محرِّر الصفحة والكاتب فيها، كانت الصباحات الظبيانية تتوالى في الطابق الثاني من مبنى الجريدة، وكان الهمَّ العراقي وكذا العربي فنجان الحوار، وكانت الأفكار قهوته· كانت المرجعية التي يفكِّر عبرها بن ققة في الشأن العراقي غير ما كنتُ أفكِّر عبرها في الشأن ذاته، كنّا على خلاف واختلاف، وكان من السهولة على أي محرِّر له مرجعية سياسية مغايرة لمرجعية كاتب ما أن تجعل المحرِّر يُقصي الكاتب، وكم يحدث هذا في تجاربنا الإعلامية والصحافية العربية بل وما أكثره! إلا أن لطائر الجنوب وجهة نظر أخرى؛ فهو يقبل بكَ مختلفاً ويحتفي باختلافك مبتهجاً ليبقي على مساحتك للنشر في الصفحة التي يحرِّرها كما يترك مساحة لما يكتب هو أو لما يكتبه الآخرون من كتّاب الصفحة ذاتها ليتحوَّل اختلافهُ المرجعي معك ومع الكتِّاب غيرك إلى باعث متجدِّد للتواصل معكَ وإياهم لتستمر صفحات التقارير في الصدور وهي ترصد العالم من حولك، وتحتفي بمن يرى العالم في تحوّلاته اليومية وبمروياته التي يخطها قلم الكاتب· مرويات العُنف والدمار في خلال أكثر من ثلاثة أعوام كانت الصباحات مع بن ققة تتوالى، وكانت أحاديثها الأكثر ثراء ربما حتى مما كنتُ أكتبهُ في صفحات الجريدة، جاء بن ققة من أقصى الوطن الجريح (الجنوب الجزائري)، وجئتُ أنا من أقصاه أيضاً (الوسط العراقي)، شهدت بلادهُ عنفاً دموياً لا يكاد يختلف عمَّا تشهده بلادي منذ أعوام فائتة من عنف دموي، كان هذا المشترك قد جعلني وإياه على مسطرة متنافذة في فهم ما يجري في بلدينا من عُنف ودمار وقتل أودى بحياة الإنسان هناك· كنّا معاً نرى الأشياء من حولنا كما هي، وربما كان يجد في مروياتي التحليلية أو الوصفية للشأن العراقي معادله الموضوعي عندما كتبَ بن ققة عن (فصول من قصة الدم في الجزائر/ القاهرة 1996)، وعن (أيام الفزع في الجزائر/ القاهرة 1999)، وغير ذلك مما كتبه عن سنوات اللاسلم الدموية في الجزائر أو ما يكتبه الآن عما يجري من عنف دموي في غير مكان بالعالم· لقد خرج طائر الجنوب من كونه محرِّرا إلى كونه كاتبا، ومن كونه صحافيا إلى كونه مثقَّفا، وكانت تلك المزيَّة إحدى فضائله التي أدركتُها لديه· في عام 2001 كنتُ قد رأيت بن ققة لأول مرة في الطابق الثالث من مبنى الاتحاد، وعشت صباحاتي معه لأكثر من ثلاث سنوات في مكتبه بالطابق الثاني، وهو اليوم في رحيل عنه إلى ما دونه من طوابق حيث غادر صفحات التقارير إلى صفحات ما يمكن أن يصدر من كتب عن إدارة النشر في (الإمارات للإعلام) حيث مكتبه بالطابق الأول من المبنى ذاته، وهناك ستكون له صباحاته الأخرى، وستكون له قهوته هناك، وبالضرورة سيكون عنده فنجان آخر· كانت رحلة مضنية بقدر ما كانت مثمرة أننا رأينا الأشياء معاً وصنعنا للعالم مروياته بمداد أقلامنا معاً·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©