السبت 11 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مرايا الشاعر..

مرايا الشاعر..
2 يناير 2013 20:30
صدر مؤخرا، عن دار “مسعى” للنشر في الكويت، العمل الشعري الجديد للشاعر السعودي الشاب محمد حبيبي الذي يعتبر من الأصوات الشعرية البارزة في المشهد الشعري الحداثي السعودي الحديث، وجاء الديوان “جالسا مع وحدك” في 88 صفحة من الحجم المتوسط وهو عمله الشعري الرابع بعد: “انكسرتُ وحيدا” (1996) و”أطفئ نافوس قلبي” (2003)، و”الموجدة المكيّة” (2007). نُلاحظ في هذا الديوان أن الشاعر محمد حبيبي بقي وفيا لصوته الشعريّ الذي عرفناه به من خلال ديوانه الأول “انكسرتُ وحيدا”، الذي أصدرته ضمن سلسلة شعرية جميلة دار الجديد البيروتية، بإخراجها الفاتن وإيمانها العميق بقصيدة النثر إلى ديوانه “الموجدة المكيّة” المتميزة بنفسها الصوفي وحفرها المُدهش في آبار اللغة وحقول الصور. فالشــاعر محمد حبيبي يفجـــر اللغــة داخل النص وكأن هـذه اللغة تضــيق بمعــاني الشــاعر والرسـالة التي يريــد إيصــالها إلى القــارئ من خــلال قصــائده. تحيين التراث الصوفي هذا شـاعر عارف باللغــة، محرابها، يتشـــرّب من مياهها حدَّ الســُّـكر، فاللغة تنقل هذا الشـاعر إلى سماوات عُليا ليقطف من هناك الصور الشعرية واللحظات المُفعمة بالبوح، بوح شعري يُبهر المُتلقي، لأن الشاعر محمد حبيبي ينقل التفاصيل الراكدة في الروح، والمُترسبة في الأعماق ويستنهض الجُزيئات المنسية في العقل والوجدان، ما يدفع القارئ إلى مواصلة التهام قصائد الديوان بشغف المسحور الذي يتبع السَّاحر. والمعروف عن تجربة حبيبي الشعرية أنها تستلهم التراث الشعري الصوفي، ويحيّنه ويتعامل معه بطريقة ذكية تجعل من اللغة محايثة للتجربة الشعرية. إنه يعيش هاته التجربة كما لو كان هو المُتصوف نفسه الذي يقول الشعر بموازاة الشطح الصوفي، مما يزيد اللغة والمجاز قوة وسحراً وإثارة. لنقرأ لهذا الشاعر في نصه “طُقُوسُ الْخَلْوَة”: انتعَشَتْ أعشَابٌ، جَفَّتْ مِنْ زَمَنٍ، بِحَدِيقَتِهِ، أَكْسَلُ عُصفورَيْنِ اضْطَرَّهُمَا الجَوُّ العَاصِفُ للمكْثِ، لَدَيْهِ، صَارَا، أسْرَابا .. أطْفَالُ الجيرَانِ..(ما كَانوا يَدْنونَ لأسْوَارِ حَديقَتِهِ) صَاروا يِأتُونَ بِرِفْقَتِهمْ أطفَالُ الحَارَةْ.. وكَأنَّ العَالمَ كُلّ الأشْيَاءِ: (الكُرْسيَّ ، المُتصَلِّبِ بالبَلَكُونِ، زُجَاجَاتٍ فَارِغَةٍ، أعقَابَ سَجَائِرِهِ.. تَدْرِيبَاتِ حِبَالِ الحُنْجَرَةِ الصَّوْتِيَّةْ.. وَطُقُوساً أخْرَى، قَدْ تَبْدو أغْرَبَ في الخَلْوَةِ!! رَفْعُ الفِنْجَانِ مُحَاذاةَ الفَم؛ قِيَاسُ مَسَافَةِ شَفَتَيْهِ مِنَ اللاقِطِ.. لَمَعَانُ الضَّوْءِ السَّاقِطِ فَوْقَ عَقِيقِ الخَاتَمِ، والسَّاعَةْ..) لكَأنَّ العَالمَ؛ قَدْ بَاتَ يُقَطِّرُ ـ إصْغَاءً، وَرَفيفَ فَرَاشَاتِ سكونٍ، ? ? ? لَمْ يَحْدُثْ ـ مُذْ قَرَّرَ ... أَنْ أَبْصَرَ أَنْفَاساً أَوْ صَدَراً يَتَنَابَضُ فِي الْوَرَقَةْ.. لَمْ يَعْبَأْ بِهُدوءِ الْكَوْنِ تَبَسَّمَ دَاخِلُهُ مِنْ كُلِّ طُقُوسِ الْخَلْوَةْ!! كلُّ الأشْيَاءِ: الْقَمَرُ، الْمَطَرُ، الغَابَاتُ، الأَطْفَالُ، الزَّهَرَاتُ ـ ابْتَدَأَتْ تَتَقَافَزُ... مَعَ أَنَّ سِنيناً يَكْتُبُ... مَرَّتْ، لَكَأَنَّ الأَحْرُفَ مَا انْكَتَبَتْ مِنْ قَبْلُ، لإصْبَعِ مَخْلُوقٍ؛ لَحْظَ تَفَاجُئِهِ بِحُروفِ الْجُمْلَةِ تَبْزُغُ؛ عَنْ آخِرِهَا عَيْنَاه، كَكُلِّ عُيونِ الكَوْنِ، بِدَهْشَتِهَا فَغَرَتْ!! لَحْظَةَ خَطَّ عِبَارَتَهُ، وَرَمَى بِالْقَلَمِ إلَى الأَبَدِ... الشَّا .. الشَّاعْـ .. الشَّاعِرُ.. الشَّاعِرُ صَمْتٌ يُصْغِي لِقَصِيدَةْ.. استعادة المخيلة قصائد هذا الديوان هي مرايا عملاقة يضعها الشاعر أمام القارئ، ليرى من خلالها ذاته المنكسرة، ويرى العالم برؤية شاعر حداثي، حيث يقوده منظوره الشعري ورؤيته للأشياء والعالم إلى الإطلال على العوالم المزيفة والمتشظية المتردية القيم، والمنفتحة أكثر على المادية المطلقة والفاسدة التي تُصادر تجربة الإنسان وقيمه وحياته وكينونته، غير أن هذا المنظور سرعان ما يتحول من نظرة جانبية إن لم نقل شذرية إلى تبنٍّ مركزي لدلالة النص، حيث يرى العالم انعكاساً لهذا المنظور وتلك الرؤية الفلسفية. في قصيدة “مَرَاوِح” نلاحظ أن الشاعر محمد حبيبي يحتفي بفسحة المخيلة الشعرية ويخرجها من بين أنقاض ما تبقّى من العالم المهدور، باحثة عن سبل للصلاة، لإعادة الحياة للقيم المتهاوية، كل ذلك بلغة صوفية تنهل من عطرها الأصيل وفي صفاء مائي نقى مفرداتها وثقله الدلالي. حين يقول: لا نَعْلَمُ كَمْ تُمْضِي تِلْكَ الأسْرَابُ مُحَلِّقَةً مِنْ أقْصَى الشَّرْقِ/ أعَالِي الْقِمَمِ الجَبَلِيَّةِ، لِتَحُطَّ بغَابَةِ أشْجَارِ المقْبَرَةِ الكَثَّةِ.. لا يعْلِمُ أَحَدٌ، لِمَ لا تُخْطِئُ، لَوْ في إحْدَى المَرَّاتِ طَرِيقَ الهِجْرَةْ؟! ما نَحْذِقُهُ، بالضَّبْطِ، ـ مَهَارَتَنَا.. بِتَحَاشِي أنْثَى قَدْ يُثْقِلهَا البَيْضُ.. ـ ألاَّ تأخُذَ تلكَ الأسْرَابُ الدَّائِخَةُ الفُرْصَةَ في لَقْطِ الأنْفَاسِ، لِمَلْءِ المِعَدِ الفارِغَةِ بِأَوْرَاقِ الأشْجَارْ؛ بحذَقِ لُصُوصٍ لا تعْوِزُهُم خِفَّةُ أَيْدٍ، نُخْرِجُ قَصْبَاتٍ مَلْسَاءَ، جُذَاذَاتٍ وَرَقِيَّةْ..أشْوَاكاً.. نَبْدَأُ في غَرْسِ الشَّوْكَاتِ مَكَانَ السَّاقِ المَخْلوعَةِ مِنْ جِسْمِ المَخْلوقِ، وحذرين تَكَسُّرَهَا؛ نُدْخِلُ رَأسَ الشوكةِ في رِفْقٍ؛ فِيمَا الطَّرَفُ الثَّانِي، قَدْ شَكَّ الوَرَقَةْ..كَحِزَامٍ فَضْفَاضٍ، يَلتَفُّ علَى خِصْرِ القَصَبَةْ..
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©