الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فلسطين المحتلة... ترفض احتلالها!

23 أغسطس 2012
لم يخطر ببالي أنني سأذهب إلى فلسطين المحتلة لأول مرة في حياتي لتوقيع كتابي «حياة غير آمنة». على مدى ثمانية أيام من هذا الشهر، وبدعوة من «مركز علاج وتأهيل ضحايا التعذيب»، تعرفت على فلسطين الجميلة والجريحة التي لا زالت المكان الذي يتمسك فيه الفلسطينيون العرب بحقوقهم. سأكتشف في فلسطين شعباً يواجه تهديداً مكثفاً في ظل احتلال يتمتع بقدرات كبيرة ودهاء مدروس. دخول فلسطين عبر جسر الملك حسين من الجانب الأردني يضع كل زائر في مواجهة مع السيطرة الإسرائيلية المباشرة على جميع مداخل الضفة الغربية ومناطق السلطة الفلسطينية. فالمسؤولون عن المعبر الحدودي في الجانب الفلسطيني هم من الجيش والأمن الإسرائيليين. مع دخول فلسطين شعرت بفرحة ممزوجة بانقباض وحزن، فها أنا أقف على أرض فلسطين المحتلة التي قاتلتْ لأجلها أجيالٌ عربية متتالية، شعرت لوهلة وبمجرد عبور الحاجز الإسرائيلي بفقدان حريتي. وكيفما تجولت في السيارة وسيراً على الأقدام في مناطق الضفة الغربية المحتلة، لم يغب عن ناظري الاستيطان بتعبيراته الفجة وبانتشاره المتوحش على رؤوس الجبال والمرتفعات الفلسطينية. لقد شيدت إسرائيل مدناً استيطانية لمحاصرة البلدات الفلسطينية، ووصل عدد المستوطنين في الضفة الغربية ومحيط القدس إلى 650 ألف مستوطن. هذا المشهد الممتد على مدى النظر وحول المنعطفات ووراءها، يؤكد أن الاحتلال الإسرائيلي قد دمّر آفاق الدولة الفلسطينية التي شكلت أساس اتفاق أوسلو عام 1994، كما أنه دمر فرص المبادرة العربية للسلام التي تنص على دولة فلسطينية وعودة الأراضي المحتلة عام 1967. لقد ابتلع الحوت الإسرائيلي الأرض والضحايا في الوقت نفسه، لكنه لم ينجح في فصل علاقة الضحايا بأرضهم ولم ينجح في وأد سعيهم إلى الحرية وانتزاع الحقوق. تقوم الضفة الغربية على حوالي ستة آلاف كيلومتر مربع، أي ما يعادل 60 في المئة من مساحة لبنان. لكن الاحتلال نجح في تقطيع أوصال الضفة التي يقطنها مليونان ونصف مليون فلسطيني، إذ قسمها إلى مناطق تخضع للسلطة الفلسطينية (المدن الرئيسة) ومناطق القرى التي تخضع للسلطة الفلسطينية إدارياً لكنها تخضع لإسرائيل أمنياً، ومناطق وهي أكثر من 60 في المئة من الضفة الغربية تخضع لإسرائيل أمنياً وإداريا. لقد اقتطعت إسرائيل لنفسها 60 في المئة من الضفة الغربية بهدف تنشيط بناء المباني والمراكز السكنية اليهودية الضخمة. وأحاطت إسرائيل كل مدن وقرى الضفة الغربية بجدار وأسلاك شائكة محولةً إياها إلى سجن كبير. وحتى الآن أنشأت إسرائيل في الضفة الغربية واقعين منفصلين واحداً للعرب وآخر لليهود. أنشأت طرقاً سريعة لليهود وطرقاً أخرى للعرب، طرق اليهود مترابطة وطرق العرب معظمها جانبي ويمثل طرقاً التفافية طويلة. ولضمان انتشار الاستيطان منعت إسرائيل التمدد السكاني العربي في المدن والقرى الفلسطينية، فقتلت اقتصاد نابلس، كما خنقت اقتصاد الضفة عن بكرة أبيه. وفي مدينة الخليل، مثلا، حالة مرعبة من حالات الاستيطان؛ فالسوق التجاري الكبير وسط المدينة تم إفراغه من قبل إسرائيل عبر إغلاق شارع الشهداء وتسليمه بالكامل للمستوطنين، ومنع الجيش الإسرائيلي العرب من استخدام الشارع الذي يقع أمام منازلهم، وأبقى لهم ممراً صغيراً لسير المشاة بينما سمح للمستوطنين باستخدام الشارع الفسيح لسياراتهم ومشاتهم. وعندما تسير في سوق الخليل القديم تصيبك الدهشة حين تعلم أن المستوطنين يقطنون فوق السوق ويشرفون عليه من الأعلى. المتاجر في السوق تتعرض يومياً لرمي قاذورات وفضلات وحجارة من الأعلى من قبل المستوطنين. وقد دفع هذا الوضع بالعرب لوضع ساتر من القماش يمتد مغطياً معظم ممرات السوق الضيقة. ولم يسلم الحرم الإبراهيمي في الخليل من الاستيطان، فقد استولت إسرائيل على نصفه وسلمته للمستوطنين. أما القدس فوضعها أشد خطورة من بقية المناطق، إذ يحيطها نحو 300 ألف مستوطن، وإسرائيل تستخدم كل الوسائل الممكنة لتفريغ المدينة من العرب ولعزلها وتجفيف تجارتها ومراكزها الثقافية. لقد عزلت إسرائيل القدس عن بقية الضفة الغربية وجرى تهميش سكانها في مناطق سكنهم ومنعوا من التمدد والبناء. لكن هذا لا يعني أنه لا يوجد إعمار في الضفة الغربية، فالبناء يتم بصورة مكثفة (المنزل تلو الآخر) ما يحول مدناً وقرى فلسطينية إلى مناطق خالية من أية مساحة. المنع من الامتداد يحول المناطق الفلسطينية إلى مناطق مكتظة لا متنفس لها. وفي رام الله امتداد جديد، لكن، هناك مناطق لا تستطيع رام الله أن تمتد إليها بخاصة تلك التي تقترب من المستوطنات الواقعة قرب المدينة. وفي كل مقابلة مع أمهات شهداء وسجناء اكتشفت أن إسرائيل مارست تصفية شاملة للكادر الفلسطيني الذي قاد وصنع الانتفاضة الثانية بين عامي 2000 و2005. التصفية تمت من خلال الإعدامات الميدانية والاغتيالات والقتال، وعبر الأحكام المؤبدة والطويلة. الثمن الذي دفعه الفلسطينيون للانتفاضة الثانية كان أكبر من أي خيال، وهو ما يجعلهم الآن في حالة إعادة حسابات ولملمة جراح وإبراز قيادات جديدة وبحث عن طرق مبتكرة للمقاومة. وتواجه السلطة الفلسطينية التي تشكلت منذ عام 1994 مأزقاً كبيراً حيال الاستيطان والحصار والوضع الاقتصادي الصعب وتقليص دور المدن وتحديد البناء. بمعنى أن السلطة هي الأخرى تحت الاحتلال ووفقاً لأبومازن الذي التقيته في رام الله: الأفق أصبح مسدوداً. الفلسطينيون يتذكرون تاريخهم كسلسلة لا تنتهي من الثورات والخسائر والنكبات. لهذا تزداد الأسئلة هذه الأيام وتقل الإجابات حول ما العمل. لكن من خلال صمودهم وتحديهم لسلطات الاحتلال، يتمرد الفلسطينيون على المصير المرسوم لهم. ومن خلال الصراع الحقوقي والشعبي المدني والسياسي، ستتطور المسألة الفلسطينية. د. شفيق الغبرا كاتب كويتي ينشر بترتيب مع «مشروع منبر الحرية»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©