الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

زوجتي.. راقصة!!

زوجتي.. راقصة!!
18 سبتمبر 2014 22:35
كنت أتوق إلى الانتهاء من دراستي الثانوية. ليس فقط للالتحاق بالجامعة. ولكن أيضا للخروج من شرنقة القرية الصغيرة المحدودة التي نشأت فيها وعشت فيها حياتي الماضية كلها على مدار ثمانية عشر عاما، ولذلك كانت فرحتي فرحتين وسعادتي مضاعفة وأنا أحمل أوراق نجاحي لأتقدم بها إلى الجامعة في إحدى المدن الكبرى العتيقة، لا أنكر أنني كنت بالفعل مثل القروي الساذج الذي بهرته أضواء المدينة، وهذا لا يعني أنني أريد أن أتخلص من الماضي، ولكن أتوق الى التغيير والحداثة، أبحث عن الجديد في الدنيا، وفي نفس الوقت لا أتخلى عن المبادئ والقيم والعادات والتقاليد التي تربيت عليها، فهي السياج المنيع والسور الواقي من الانهيار، أو الخروج عن المألوف من الأدب. حيز ضيق حياتي السابقة كانت في حيز ضيق، كل من حولنا أو معظمهم من أقاربنا، حركتنا محدودة، بين البيوت والحقول، هناك الماء والخضرة، وأحيانا نجد الوجه الحسن، أشجار وزراعات وجداول ماء، تحتاج إلى شعراء ليصفوا جمالها، ولكن لأن الجمال يمكن الاعتياد عليه، فقد اعتدت هذا كله ولم يعد يمثل عندي السحر ولا الشغف الذي يبديه أبناء المدن نحو الريف، ولا أمنياتهم للعيش في مثل هذه الأجواء، ومعها الأدوات البدائية من أفران الخبز وصناعة بعض الأدوات من سعف النخيل ومن الطين المحروق، وغير ذلك، هذا كله فتحت عيني لأجده أمامي، لذا لم يكن عندي كما في عيون الآخرين، فأقول مازحا أبدلوني، خذوا قريتي، وأعطوني مدينتكم. سنوات الدراسة في المدينة، بالطبع كانت مختلفة، حياتي تغيرت وأنا أتنقل بين وسائل المواصلات الحديثة، وفي الشوارع الفسيحة النظيفة، وبين البنايات الشاهقة والتراثية، وجوه البشر وملابسهم وطريقة سيرهم وتعاملهم، كلها مختلفة، تشعر كأنهم جميعا في عجلة من أمرهم، قليل منهم من يمشي ببطء، وقد يكون وراء ذلك ضعف أو مرض، لا يتبادلون التحية صباحا أو مساء كما نفعل نحن عندنا في الريف، نسلم على بعضنا حتى لو التقينا في اليوم مئة مرة، شعرت بفارق كبير بين حياة القرية وحياة المدينة، لم أنكر طبيعة أي منهما، لكن لأنني متشبع من الأولى، فقد أعجبتني الثانية واستهوتني، وأكرر هذا لا يعني رفضا ولا تمردا على البساطة والهدوء في الريف، غير أن صخب المدينة له سحره، في النهاية كانت المحصلة أن لكل منهما عيوبه ومميزاته. وصية أبي في المدينة وجدت المسارح ودور السينما، وجدت المنتديات والأنشطة التي لا ذكر لها عندنا، وجدت مكتبات عامة زاخرة بأمهات الكتب، الأسواق المفتوحة والمعارض الكبيرة والمتنوعة، تعرفت على أندية الشعر والقصة، أصبحت من روادها الدائمين، وكان لي الكثير من الكتابات بين الشعر وبين النثر، وجدت تشجيعا من البعض، ووجدت استنكارا من البعض الآخر، وفي النهاية لم أعتبر نفسي شاعرا ولا قاصا، ولم أدع اهتمامي بالأدب يسرقني من مهمتي المقدسة والأساسية الآن وهي الدراسة والحصول على الشهادة الجامعية التي جئت من أجلها مسافرا أو مهاجرا من مئات الكيلو مترات، ولم أنس وصية أبي التي يكررها كل مرة عند توديعي أثناء عودتي إلى الدراسة بأن أهتم بدروسي، ولا تغيب عني دعوات أمي المختلطة بالدموع وهي تنهنه وتتمنى لي الحصول على الشهادة العالية والوظيفة أيضا. بيني وبين نفسي، عقدت العزم على ألا أعود إلى القرية إلا زائرا، أو حتى «سائحا» للتنزه، وزيارة الأهل في الأفراح والأتراح، لكن سيكون المستقر والإقامة والعمل في هذه المدينة التي عشقتها وأصبحت جزءا منها وأصبحت جزءاً مني، وقد جاءني الفرح بأكثر مما أتمنى، حيث حصلت على درجة الليسانس في قسم «الجغرافيا» بدرجة جيد جدا مع مرتبة الشرف ولحسن الحظ فقد تم تعييني معيدا في نفس القسم وهذا وحده يكفي للإقامة «الجبرية» هنا، لأنني سأواصل مشوار الدراسة إلى الماجستير ثم الدكتوراه، فقد كنت أخشى من ضغوط متوقعة من أبي وأمي تضرب على أوتار المشاعر على أن أعود إلى قريتنا لأعمل معلما في مدرستها الوحيدة ولأعيش بين أفراد أسرتي، لكن الآن لست مضطرا لايجاد مبررات، ومن ناحية أخرى فإنهما قد تفهما ذلك، بل شعرا بالسعادة لأنني سوف أحمل لقب «دكتور» وإن كان الكثيرون في قريتنا يتوهمون أنني طبيب فعندما أعود إليهم أجد من بينهم، خاصة الكبار في السن من يشكو لي بعض أوجاعه، فيضحك بعض الحضور، بينما يتولى البعض الآخر شرح حقيقة «الدكترة» عندي. محطة مهمة وصلت إلى محطة مهمة، لابد من اتخاذ قرار حاسم بشأنها وهي الزواج، لأن أسرتي تدفعني دفعا نحوه، وأنا من جانبي لا أمانع، لأنني بحاجة إلى من تؤازرني في مشوار البحث والعلم، وأيضا تقوم باحتياجاتي المنزلية وتؤنس وحدتي، والمشكلة التي تواجهني هنا هي الاختيار، هل أختار واحدة من فتيات المدينة، أم أعود إلى قريتي لتكون قرينتي واحدة من الفتيات اللاتي تعرف طباعي وظروفي، خاصة وأنني هنا ليس لي أي علاقات من أي نوع، ولم أتعامل إلا بشكل محدود مع زميلات الدراسة، اختلفت الآراء من حولي، كل يدلي بدلوه، كأننا في صراع أو جدل سياسي أو قضية عامة، مع الأخذ في الاعتبار حسن النوايا عند الجميع فكلهم يريدون مصلحتي أولا، بين قائل بضرورة «تحسين النسل» والزواج من فتاة «متمدينة» تناسب مركزي الاجتماعي وأنا في طريقي للحصول على أعلى الدرجات العلمية، وأن فتيات القرية منغلقات ولا يصلحن للحياة القادمة، بينما ذهب آخرون وبادروا بترشيح العديد من قريباتي، مدعومات بالحديث عن حسن الخلق، وأنها «مضمونة» ولم تلوث المدينة والتحضر سلوكياتها، وفي الوقت نفسه يتحدث هؤلاء عن عيوب فتيات المدن -كما يرونها- وأهمها أنهن مجهولات بالنسبة لنا، وهذا في حد ذاته يعد سببا كافيا حتى لا يعاملوا معاملة الغرباء إذا حضروا لزيارتي أو المبيت عندي، ولا أنكر أنهم وضعوني في حيرة كنت في غنى عنها، فما يهمني هو أن أجد من تناسبني ويكون بيننا نوع من التفاهم والمودة والرحمة، ويجب أن ندرك أننا لسنا مقبلين على حرب، وإنما حياة زوجية، وبناء أسرة وأطفال. لكن ما أخرجني من حيرتي أنني لم أجد ميلا نحو أي واحدة من المرشحات، ولم أشعر بأي تغير قد يحدث في حياتي، وإنما ستكون تكرارا وصورة مشابهة لأهلي في الريف، وإن كنا نعيش في المدينة، وكان لي موقف واضح بأن يكف الجميع عن الخوض في هذا الموضوع لأنه يخصني وحدي وأنني قادر على حسمه والاختيار بشكل جيد ومناسب، بدأت أبحث حولي عن فتاة من المدينة وخاصة في المنطقة التي أقيم فيها بعد أن اشتريت شقة من أموال أبي، لكن من أين لي أن أتعرف على جيراني وعلى السكان، وأنا لا أبحث عن سلعة وإنما عن زوجة، لذا لابد أن تأتي عن طريق المعارف أو المعرفة. لم أكن حائرا ولا قلقا، فليس هناك ما يدعو للعجلة، إلى أن التقيت بها، فتاة تجمع بين الريف وبين المدينة فهي في الأصل ريفية، جاءت من قرية مع أسرتها، وتلقت تعليمها في المدينة وحصلت على مؤهل عال في «الفلسفة»، لكن لم تختر هذا النوع من الدراسة وانما زج بها فيه حسب المجموع والتنسيق، لذلك لم تكن مهتمة بدراستها إلا بإنهائها والحصول على الشهادة، وجاءتني الرياح بما تشتهي السفن، ووجدت في أسرتها تفتحا وتقدما وحداثة، ووجدت عندي قناعة بها، والدها يعمل موظفا في أحد المسارح، وتم الاتفاق على ترتيبات العرس وأسهم كل منا بما عليه حسب العرف السائد، وجاء أهلي أجمعون ليشاركوا في حفل الزفاف، وكالعادة انقسمت آراؤهم بين مؤيد لهذه الزيجة وبين معارض، حسب رؤاهم، ولم أسلم من التندر والاستنكار والتهكم. باب النجومية بدأت حياتي سعيدة مستقرة لا تشوبها شائبة، حتى وإن كانت زوجتي لا تحب الكتب ولا الدراسة ولا تساعدني في أعباء البحث، لكن هذا ليس دورها الأساسي ولا أجبرها عليه، لكن بدأت تشكو من الوحدة رغم أنني أقضي معظم وقتي في البيت، إنما شكواها لأنني مشغول دائما، وهذا الانشغال بلا نهاية، فلا تعرف متى ينتهي والمؤكد أنه لن ينتهي لأنني ما أن أنجز رسالة الماجستير حتى أغرق في رسالة الدكتوراه، وزوجتي تريد أن تخرج وترى الدنيا -حسب تعبيرها- وليس عندي حل لمشكلتنا هذه إلا بالبحث لها عن عمل لتنشغل فيه وتقضي وقت فراغها، لكن تخصصها غير مطلوب أساسا، ولم نجد لها أي عمل حتى لو كان غير مناسب. بعد زيارة أسرتها عادت متهللة سعيدة، وهي تشدو «لقد فتح لي باب النجومية، سوف أعمل»، قلت لعله خير، قالت سأعمل مع أبي في المسرح، قلت لا مانع باعتبار أنه موظف، لكن ألقت بصخرة على رأسي وهي تواصل حديثها، سوف أعمل «راقصة» في الفرقة المسرحية سأكون نجمة مشهورة، تستضيفني الفضائيات وتنتشر صوري في الشوارع والملصقات وأغلفة المجلات، كنت أنظر إليها وأنا غير مصدق، اعتقدت أنها تمزح لكنها أكدت أن هذا هو عين الجد، اصطحبتها إلى أسرتها أشكوها لهم، فلم تهتز عندهم شعرة ولم يتحرك ساكن، ووافقوها فيما ذهبت إليه، تركتها وعدت إلى منزلي، لم أتسرع في اتخاذ أي خطوة للانفصال حتى مر ستة أشهر، وقد نفذت ما قالت لم يعد أمامي إلا الطلاق! اضطررت للعودة إلى قريتي لأختار عروسا تناسبني، أعرف أصولها، ولا يخدعني أهلها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©