الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

أحمد عبدالملك.. تنوع سردي لعلاقات مرتبكة

18 نوفمبر 2006 01:28
د· سلمان كاصد بعد روايته الأولى ''أحضان المنافي'' التي صدرت عام 2005 يصدر الروائي القطري أحمد عبدالملك رواية جديدة باسم ''القنبلة'' ليحاور فيها مكونات أنظمة العلاقات الاجتماعية في مجتمع قبلي ينفتح فجأة على عوالم مختلفة وكيانات غريبة· تبدو الرواية منذ صفحاتها الأولى صادمة، غير مألوفة في تناول الوقائع الاجتماعية حين يرصد على لسان ''حياة'' الساردة لحظات من الطقوس الشعائرية· الرواية قسمت إلى ستة أجزاء، وهي ''في حضرة الله''، و''أنا والمرآة''، و''الزوجة الثانية''، و''طبيب نفساني''، و''القنبلة''، و''المفكرة الحمراء''، ويكاد القسم الأخير يكون أطول هذه الأجزاء من جهة وأكثرها تلاعبا في تكتيك العمل· وهو ما سنتناوله في هذه القراءة· المتن ''حياة'' امرأة متزوجة من ''ناصر'' الرجل الغني الذي ينتمي إلى قبيلة لها شأن وهيمنة اجتماعية، كذلك ''حياة التي يعد والدها أجد رؤوس قبيلتها، إلا أنها وعبر وجهة نظرها تعيش حالة من عدم الثقة والشك الدائم في علاقات زوجها الخفية بامرأة أخرى غيرها، بالرغم من أن عمر زواجهما قد وصل إلى خمسة وعشرين عاماً· مبدأ ''الشك المستمر'' هو الذي يحرك هذا النص، ناهيك عن ولع ''حياة'' المرأة الجميلة المشتهاة من أصدقاء زوجها في التلصص على زوجها، وما يحيرها فعلاً هو عدم المبالاة الذي يظهره ''ناصر'' لكل سلوكها المضطرب، إنها تعيش محكومة بعقدة هذا الشك المسيطر عليها· ثمة تناقضات في شخصيتيهما أولاً، وفي شخصيتها ثانيا: أما الأولى لأنها متحررة تعيش عوالمها المنفتحة ولذاتها الغريبة، بينما كان ''ناصر'' واقعياً، علمانياً تبوأ مناصب عدة في بداية حياته الوظيفية حتى وصل إلى درجة وزير بعدها، ولكونه أكثر وضوحاً وصراحة من غيره انتقل للعمل في مجال ذي طابع حيادي، وهو العمل الاقتصادي، مما جعله يبني مملكة اقتصادية في استثمارات متعددة في العالم· أما التناقض الثاني فهو يخص شخصية حياة التي تتسم مفاهيمها بروح انشطارية بين قناعاتها الدينية من جهة وسلوكها المنفتح على علاقات اجتماعية متقلبة، قناعاتها الدينية من جهة وسلوكها المنفتح على علاقات اجتماعية متقلبة من جهة اخرى، كل ذلك أسهم في دفع عجلة السرد إلى آماد بعيدة لا تتوقف·· هذا بالطبع كله مرسوم بدقة وبحرفية عالية في بناء الجزء الأول حتى الخامس من الرواية التي كانت نقطة التبئير أوزاوية النظر فيها من العين المبصرة وهي ''حياة'' نفسها· من الصعب جداً أن تلخص هكذا رواية لأنها وبكل وضوح تتركب من ''أحداث + وجهات نظر الساردة'' لوقائع تخصها وزوجها، إلا أننا يمكن أن نتصور هذه الإمكانية الحكائية في تنوع زوايا التقاط سرد حياة لشخصية ''ناصر'' الذي حاول الروائي أن تتعدد فيه البؤر السردية، وكأنه بذلك قد صنع ايقونة زجاجية متعددة الأوجه لالتقاط جسد ما من عدة بؤر، وتلك امكانية سردية غير عادية حقاً· حاول الروائي أحمد عبدالملك أن يوظف في القسم الثاني ''أنا والمرآة'' المرآةَ لتكون الجسم العاكس الذي ترى فيه حياة ذاتها الأخرى، وكأن حياة والمرآة جسد واحد في اتجاهين متقابلين، أوربما يمكن لنا أن نقول: إن المرآة هي الشخصية الثانية لـ''الأنا'' العليا التي تتمتع بها ''حياة'' المرأة الجميلة التي ترى صورة أخرى في جسدها، هذا بالإضافة إلى أن هذا القسم يعد استباقاً أوإرصاداً لما يحدث في آخر الرواية· لعبة التأجيل زواج هادئ في بدايتة يتحول إلى كابوس وصراع حاد ضمن مجتمع محكوم بقيم اجتماعية صارمة، وشكوك مستديمة لحياة إزاء زوجها ''ناصر'' عبر رسالة مجهولة تصل إلى بيتهما بأن ناصر قد تزوج بامرأة أخرى، وربما من الصعب أن تبنى راوية طويلة على هذا، موضوع مألوف ليس فيه غرابة، لكن واقع السرد النقي ''الخالي من الحوار'' وتواصله بلا انقطاع هو الذي يتجلى لينقذ الحدث من اعتياديته ومألوفيته إلى غير المألوف وغير الاعتيادي، وكأن هذا النوع من السرد هو الذي يشد المتلقي ويجعله في حالة ترقب لما سوف يحصل، وكأننا هنا قد استمرأنا ''بوصفنا متلقين'' لعبة التأجيل في تأخير الأحداث والوقائع التي حاول الروائي أن يجزئها ليقدم لنا وقائع ثانوية كي تبقى روح الرواية في غياب أحداثها عن المتلقي· لقد حاول أحمد عبدالملك أن يكشف عبر رصد ''حياة'' لعالم ''ناصر'' وشخصيته وعلاقته بها طبيعة مجتمع بأكمله، بل بأفكاره وبسلوكه، ضمن تشابكات معقدة، وكأن ''ناصر'' هو الوسيط الذي يتخفى خلفه مجتمع مليء بالتعقيدات والعلاقات المزيفة، خاصة بشخصية ''مشعل'' صديقه الذي كان ولأكثر من مرة يحاول التودد لحياة كي يقيم معها علاقة غير شرعية من جهة، ولاشتهاء ''حياة'' الخفي لمشعل في الحلم الليلي الذي زارها به والذي ظل يتردد في الرواية بشكل متواصل، كذلك محاولة السائق الافريقي- الذي يعمل لدى صديقتها أم علي والذي يقلها ليلاً بعد سهرها الدائم من بيت أم علي- في أن يكاشفها بحبه وأنه قد سحر بعطرها الذي يملأ أنفه عند ركوبها معه· ضمن هذه الجزئيات يبدأ عنصر روائي آخر وهو اللواحق ''وهو ايراد أحداث حدثت قبل زمن السرد''، ومنها علاقة والد حياة بأمها والتي رأت كيف يضطهدها بالضرب القاسي، مما جعلها في بؤرة هذه العقدة التي استمرأت تكرارها مع ناصر باستعذابها أن يمارس معها ناصر قسوة أبيها بالضرب المبرح، وهذا ما حصل فعلاً بلذة مجنونة، مما جعلها تبني معادلة افتراضية وهي: (والدها/ ناصر) و(أمها/ حياة)، وكأنها بذلك تنتقم من والدها بزوجها ''ناصر''، وتنتصر لأمها بنفسها ''الساردة''· البناء السردي في القسم الخامس الذي يحمل عنواناً شبيهاً بعنوان الرواية ''القنبلة'' تتجلى شخصية ناصر عبر سرد حياة بأنه ''كان يضربني ويهجرني ويطردني من المنزل، لكنه من الداخل يحبني ويغار علي بشكل جنوني، إن تربيته البدوية صقلت فكره وسلوكه بشيء من التعقل والصرامة، والدقة في تحديد الأمور والتسامح الصامت، هكذا أخذ الحكمة والسلوك البدوي من أبيه''، وهي في كل ذلك '' كنت أشعر- من كل شجار بيننا- بحاجتي للضرب، كنت أتوق لاستحضار صورة والدتي تحت والدي وهو يسبها ويلعنها، صار تعذيب الذات لدي جزءاً من حياتي''، وتفجر حياة عنوان الرواية الذي ظل غائباً ''القنبلة''، وهي رسالة وصلت إلى ''ناصر'' من الشغالة ''كاترين'' التي رجعت إلى بلدها بعد أن طردتها ''حياة'' تقول فيها: إن حياة تخون زوجها مع سائق أم علي الافريقي، والتي يصدقها ناصر فيها· إن ثريا النص ''العنوان'' يفارق روح الحكاية أي لا يتفق معه واقعياً في الوقت الذي نرى تطابقاً دلالياً بينهما·· وكأن عبدالملك سحب بلاغياً المعنى الاستعاري من القنبلة بفعلها الواقعي (الخراب) إلى روح الحكاية بفعلها التدميري (الهدم)، لقد تهدمت العلاقة بين حياة وناصر بفعل (الرسالة/ القنبلة)· في القسم الأخير ''المفكرة الحمراء'' تتكشف الأحداث برمتها، هذا بالاضافة إلى تنوع البناء السردي عبر تداخل الأصوات التي حدثت فجأة بما يخلق نصاً ''بوليفونيا''، حيث تميل البنى السردية فيها للابتعاد عن المركز ''حياة'' والاتجاه نحو المحيط ''ناصر'' الذي يدخل صوتيا عبر مذكراته بالسرد التناوي (1 أ 2ب 3ج 4د)، حيث يمثل العدد سرد ناصر في مذكراته التي عثرت عليها حياة صدفة في مكتبه، بينما يمثل الحرف سرد حياة تعليقاً على سرد ناصر بعد كل مقطع تقرأه من المذكرات، كذلك تضيف أحداثاً أخرى مكملة أولتعزز حجتها في موقفها منه· قاع اللاوعي في هذا القسم يضمن الروائي أحمد عبدالملك قصة ''أب حياة مع أمها بشكل واضح، وكأن هذه القصة المضمنة تكشف البنى العميقة في قاع اللاوعي الذي تعيشه الساردة، ومن الغريب أن هذه القصة المضمنة تأتي في سرد ناصر، لا في سرد حياة، وهي التي كان على حياة أن تسردها لتعزز سردها، إلا أن عبدالملك تلاعب هنا بذكاء روائي خلاق، فجعل ناصر سارداً لهذه الحكاية المضمنة ليدين بها حياة عبر والدها ''السيئ''· لقد اختلفت وجهات النظر بين حياة وناصر في رؤيتهما لما يحصل في العالم، في العراق، في الحياة، بل حتى حول ''صدام حسين'' إلا أنهما يتفقان حول موضوع أن ناصر هو البديل للأب، وكأن حياة تمارس فعلاً تدميريا للأب عبر ناصر· لقد عرفت الرواية أنواعاً متعددة لسرد حدث ما من مثل ما يروي أكثر من مرة لما حصل مرة واحدة، وهذا ما حصل عندما قرأنا قصة حكاية التلفون التي اكتشف بها ناصر علاقة زوجته حياة برجل مجهول، لقد روي هذا الحدث بسرد نقي من قبل حياة سابقاً، واكتشفت حياة بعد ذلك أن ناصر يرويه في مذكراته بسرد نقي أيضا، ولكن من وجهة نظر أخرى· تلك بنى سردية حاول عبدالملك أن يعيد فيها تركيبة السرد عبر الزمن إذ نرى في تعليق حياة على مذكرات ناصر زمنين هما: 1ـ زمن ماض هو تعليقها على الأحداث التي يرويها ناصر في المذكرات· 2ـ زمن حاضر هو ما يحصل لحظة انقطاعها عن قراءة المذكرات، فيصل السرد التناوبي إلى لحظة الانقطاع عند (6 و) لتعود حياة لتمارس همينتها على السرد الذي يقودها إلى أحداث نهائية عند إجرائها عملية في القلب، وهذا الأخير هو ما تصفه بـ (القنبلة الثانية) والتي تحصل من خلال الألم، الحب، والاكتشاف لذات الآخر (ناصر) ولذاتها التي أصيبت بالانفصام في الشخصية· وتموت حياة بعد رجوعها إلى بلدها مع زوجها، إلا أن المفاجأة السردية الثالثة في قص أحمد عبدالملك أنه يرد على تساؤلنا المتكرر أثناء قراءة هذا الجزء الأخير، أنه مادامت حياة هي الساردة فكيف يصل سردها الينا وهي ميتة؟ لقد استفاد- هنا- الروائي من لعبة جديدة كان بارعاً في تشكيلها عندما أوكل للابن عبدالله أن يسرد حكاية أمه، أوأن أمه قد تركت أشرطة تسجيلية لأولادها الأربعة من (1- 12) شريطاً استمع اليها عبدالله فكشفها لنا، وكأننا طوال هذا الزمن القرائي نقرأ لحياة عبر ما تركته بعد موتها من أشرطة كاسيت، هنا نفهم أن الرواية بدأت بساردين حي وميت، وبكاتب مذكرات على وشك الموت (ناصر)، وبسارد حي هو عبدالله، كي يكمل الحقيقة التي غابت في كلا السردين السابقين· إنها رواية تستحق القراءة فعلاً، لبساطتها غير المألوفة ولبنائها الذي تلاعبت به يد عارفة بفن الصنعة الروائية·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©