جنون وتعلق

«إن أجمل الأشياء هي التي يقترحها الجنون، ويكتبها العقل». قالها أندريه جيد، وينتهي لها كل فرد يزوره الجنون مرات فيخرجه عن المعتاد، يهتز المارد داخله ويتمرد، يصاب بحالة هيجان، فينهزم العقل ويمنح الحرية للحمق بمعناه السامي، حالات تزور أفراداً فيتحررون من قيود الرجاحة والرزانة، يهربون من سيطرة ما يجب فعله، وما يلزم تركه، وما يحاط دائماً بالعيب، يتحررون من نظرة المجتمع ومن الخطوط الحمراء التي يرسمها الفرد مرات بنفسه لنفسه، فيسجن داخلها، يعيش الإنسان دون أن يجرب هذا الشعور غالباً، وآخرون يخضعون لاعتراك الجنون فتكون النتيجة أكثر جمالا. فلما لا يجرب بعضهم ما يقترحه الجنون، يقبل على الحياة يبحث عمن يتقاسم معه أنفاسه، عمن يخلخل الثابت ويحرك سواكن أعماقه، فالأيام لن تنتظر أحداً، تتسرب تسرب الماء من راحة اليد، تمر أماسيه لا جنون فيها، متشابهة أيامه، يمشي متثاقلا، لا أحد ينتظره ويشعل النار بكل تقلباتها داخله، يجلس يرتشف قهوته ويحرق سيجارته عله يحرق عاديات الزمان، ونظراته تسرح لأبعد نقطة في الكون، يتسامى في البحث عن الجمال والكمال، أضناه السير في عمق الزمان لاهثاً وراء اللا معقول: الصفاء في أسمى معانيه، تاه بين شخوص وخيوط الروايات والكتب المحبوكة التي يقرأها طالبا العقل الراجح والبياض الداخلي، توليفة يصعب القبض على جزئياتها والتحكم في خيوطها. يحزنه أفول الشمس، يتطلع بعيون تائهة للغروب، تلك الفترة الزمنية التي غالباً ما تضفي على النفس مسحة من الشجن والحزن، يغوص معناها في النفس، كما يغوص القرص الأحمر في عمق السماء معلناً سواداً قادماً، مهما أنرناه يظل ليلاً، يتحسس خصلات شعره التي اعتلتها سمة الوقار، يطأطئ رأسه اعترافا بهزيمته أمام الوقت وعنفوانه وعنجهيته، حيث يأبى شراءه أو استئجاره، ويسمح فقط بإدارته، تمر فصول كل لياليه وتفاصيلها أمام ناظريه، يقسم أن يجعل لحياته مذاقاً، أن يملأ بيته صخباً وصراخ أطفال، أن يستفيق ليلاً مرات لينظر لوجه مخلوق صغير هدية الخالق لتزدان الدنيا وتخفف متاعبها، يخفق قلبه معلنا الحياة، يسرح بأفكاره، التهبت مشاعر الأبوة داخله، انسابت عواطفه، فرفض عزلته وتفتح ليستقبل فعل الحياة، فعل النور في امتداداته الطامحة إلى تنوير الظلمة، وفجأة تبدأ حسابات الربح والخسارة، يرفض صاعقة المباغتة، ويرجح العقل بدل الجنون لاختيار الأفضل، يخنقه الوعي الشقي دائماً. فليحرر بعضنا جنونه عله يغزل خيوط الشمس حريراً. لكبيرة التونسي