الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

همس يسكت التاريخ وينطقهت

همس يسكت التاريخ وينطقهت
1 ديسمبر 2010 20:40
للمدن أقدار، لها روح وأنفاس وحضن يحنو ويقسو كبشرها، وقدر عمّان أن تكبر وتتمدد بالاختلاف وتتزين بالتعددية.. تلك هي “دكتاتورية الجغرافيا”.. عاصمة تمسح بيدها على جباه الغرباء المتعبين والمستضعفين تظلل وحشتهم تحنو على أحلامهم وتتفهم رغباتهم لكنها في لحظات قسوتها يغادرها شبابها لاهثين وراء أحلامهم. هذا مدخل لرواية ليلى الأطرش “رغبات ذاك الخريف” الصادرة ضمن مشروع التفرغ الإبداعي الذي ترعاه وزارة الثقافة الأردنية لدعم وتشجيع المبدعين على طرح نتاجهم الأدبي. والمتصفح للرواية التي صاحبها جدال طال شهرين يكتشف أن ليلى الأطرش، وهي إعلامية مشهورة، لم ترسم شخصياتها وتحدد مسارهم في مكتب مكيف بل نزلت إلى مواقعهم ودرست واقعهم المعاش بأحلامهم وانتكاساتهم وتابعتهم في حلهم وترحالهم في رحلة تحقيق الأحلام تتجول وتدون وتقرأ وتبحث لتتفجر الأسئلة. فكانت زياراتها لمخيم الحسين وسط العاصمة الأردنية عمان ليلا ونهارا لترصد نبض الذين وجدوا أنفسهم هناك وتستوعب أثر شق شارع واسع “شارع الأردن” وسط المخيم ثم الكرك وباريس وبيروت وأميركا، وهذا يقود لتحرير المكان والزمان نحو فضاءات تسمح بالتأمل لأن الفكر الحر يستطيع رؤية الوجود بشكل أكبر وفي منأى من الضغوطات. فالسلط بالذات ترتبط عاطفيا بسكان المخيم منذ هجّ السلطية إلى القدس ونابلس بعد الحرب العالمية الأولى فحضنهم أهلها وأكرموهم وصاهر كثير من شبابهم عائلات نابلسية، ولم ينس أهل السلط وتداولوا حل مشكلة لاجئين يتدفقون وطالبوا من في بيته أكثر من غرفة أن يتقاسمها مع الفلسطينية فلم يبق “خرم إبرة”. ووفق ما قالته ليلى الأطرش فرواية “رغبات ذاك الخريف” رصدت القادم العاصف بمسارات حياة أبطالها أينما ارتحلوا ومن أين جاءوا.. شباب يقيمون العلاقات من خلال الشات والصداقات عبر الانترنت تلاقى بعضهم دون أن يعرف أحدهم الآخر رغم ارتباط ماضيهم لكنهم وجدوا أنفسهم في لجة حدث قلب حياة عمان “تفجيرات الفنادق” ليلة حملتهم فيها رغباتهم المختلفة من كل الأصقاع والأمكنة. كما ترصد بدقة المتغيرات في النسيج الاجتماعي والفكري في عاصمة لها خصوصية الجغرافيا وسط مناطق متفجرة، فمخيم الحسين لم يعد مكانا للاجئين الفلسطينيين فقط “الرجل الغريبة يا أبني زادت.. الجار ما عاد يعرف جاره.. عمال مصريون وعراقيون عزاب سكنوا فيه وهذا ما كان قبلا”. ووفق الرواية فإن انتظار الوطن كان يتم في المخيم فالوطن حلم معلق بخريطة على جدران الرطوبة.. مع احتفاظهم بمفاتيح بيوتهم.. هذه الأحلام تتكسر أو تزدهر وفق المتغير السياسي. فالوطن موجود في خريطة الأجيال.. صبر وانتظار.. حلم معلق مطرز في خريطة على جدار غرفة مظلمة.. كرت مؤن وكوشان عتيق وانتظار دار رسمتها ذكريات الآخرين. وفي تصويرها لحال اللاجئين عام 1948 تنقل عن واحدة من شخصياتها “ما كان بشلن باعوه بربع ليرة.. أما الجياع ومن لا يحملون مالا فصاروا مثل الجراد لم يتركوا شيئا إلا أكلوه! استغل الناس بعضهم وقالوا “طالعين حاملين ذهبهم ومصاريهم وكلها مشمشية.. أسبوعان ثلاثة وبعدها يعودون.. الناس بسطاء لم يعرفوا ما دبره الإنجليز واليهود فصدقوا أنهم سيعودون”. وقد وصف الناقد الدكتور فيصل دراج الرواية بأنها كتابة هامسة محسوبة العلاقات بشكل رواية الأجيال دون ضجة أو إعلان تاركة حكايتها المتشجرة تقول ما تريد منتهية لنص روائي يحيل على أكثر من جغرافيا وتاريخ وألوان شخصيات لها أزمنتها الخاصة المحاطة بأكثر مأساة ولها زمنها العربي المجلل بالصفرة وشحوب يخالطه الموت. ويقول إن “رغبات ذاك الخريف” تصدر عن متواليات حكائية بعيدا عن الموعظة والتبسيط تسكت التاريخ وتنطقه تهمشه وتفصح عنه مؤكدة أن دلالة التاريخ من حكايات البشر الذين يعيشون ما أعطي لهم ويرحلون بصمت ولهذا تتكشف المأساة الفلسطينية في مرايا متحاورة تعكس كل حكاية وجودا مسكونا بالعطب أو حكاية شعب يحفظ الوطن في الذكريات. فهناك العاشقة العذراء التي أرادت زوجا وأعطاها الموت ظله.. والسودانية الباحثة عن جنين لن تصل اليه.. الزوجة الشابة التي أكلها المرض.. المطلقة الشابة التي يعالجها المجتمع المتخلف بقهر لا سقف له والشاب الذي ذهب لأميركا للتخصص في علم الجينات فإذا هو يهجر حلمه لعالم العقارات.. الخادمة الأجنبية التي لم تقنع القدر بتغيير خياره. ولم تنس مساندتها المرأة كما في روايتها السابقة “نساء على المفارق” بل أرسلت لها تحية هامسة لا بالمعنى البيولوجي بل القيمي إذ العجوز الفلسطينية الفقيرة ذاكرة تحفظ التفاصيل وتنقلها للأجيال والسودانية مرآة الحنان والمطلقة الشابة وجها للكفاح والمقاومة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©