الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الفن المخملي.. للجماهير

الفن المخملي.. للجماهير
7 سبتمبر 2011 23:52
عروض الباليه والأوبرا تنسج الدهشة من روائه الأدب العالمي وأساطير الشعوب انطلق فن الباليه Ballet في عصر النهضة وبوجه خاص من إيطاليا، أما الكلمة فيعود الفضل في ظهورها الى دومينيكو دي بياشينزا عام (1390 ـ 1470) عندما أطلق اسم “بالو” بدلا عن كلمة “دنزا”، أو رقص، فيما تشير الدراسات الى أن أول عرض لهذا اللون الذي يحتوي على الرقص والحركة والتمثيل والموسيقى والغناء هو ما قدّمه بالتازار دي بوجويولكس بعنوان “كوميك دي لاريني” عام 1581 في قصر فرساي بفرنسا. أما في فرنسا فقد بدأ الباليه في التطور فيها كفن مستقل في عهد لويس الرابع عشر، حيث حقق عرض “دوكو” تطورا نوعيا من خلال الرقصات الجماعية المصحوبة بالموسيقى والحوارات والشعر والديكور والأزياء. وكان لافتا اهتمام لويس الرابع عشر برقص البالية، بل كان داعما له، وتذكر بعض الروايات أنه كان في بعض الأحيان وحين تتملّكه النشوة فيشارك للحظات قصيرة في بعض عروض البالية التي كانت تقام في القصر، وكان لذلك أثر بالغ في تأسيس “الأكاديمية الملكية للرقص” وهو ما يعرف في يومنا هذا بـ”أوبرا باريس للباليه” 1661. وشهدت مرحلة القرن الثامن عشر تطورا تقنيا على حركة الباليه، وأصبحت فنّا راقيا يضاهي فن “الأوبرا”، وظهر في السياق أهم عمل أوبرالي شهد له الخبراء بالجودة والتميز، وحمل عنوان “ليتريز سولا” لمؤلفه جان جورج نافيري وركّز مخرجها على تحقيق الهارمونية والانسجام بين حركات الممثلين وشخصياتهم. نتيجة للتحول الاجتماعي والاقتصادي في القرن التاسع عشر، شهدت البالية تطورا واضحا في المفهوم الإنساني لها، فبعد أن كانت كفن راق في حوزة الأرستقراطية، ورجال البلاط، نحت باتجاه مواضيع مظاهر الحياة، مما أسهم في ظهور لون جديد من البالية هو “البالية الرومانسية”، التي تتميز عروضها بالحركة الدقيقة الرشيقة، وخفّة الأقدام، وظهور الزّي الخاص بالبالية كفن مخملي مبهر. يقول الدكتور محمود أحمد الحفني في كتابه “فن الباليه”: “الرقص هو أقدم الفنون الجميلة على الإطلاق، وكان اتصاله بالموسيقى وثيقا، فاستخدمت الأدوات الإيقاعية في تنظيم حركاته وتقويتها، وظلّت تلك الأدوات ملازمة له منذ نشأته حتى الآن، كذلك لم تعرف الشعوب الفطرية والمدنيات القديمة في بادئ عهدها الغناء الا مقرونا بالرقص، لذلك كانت الموسيقى بعنصريها الرئيسيين: الإيقاع والنغم في خدمة الرقص الى أبعد حدّ، وقد يعجب المرء حينما يعرف أن هذا الفن وثيق الصّلة بالتراث المصري القديم، فإننا نرى في نقوش الأسرة الخامسة حوالي 2500 سنة ق. م. نساء يرقصن جماعات، رقصا نشيطا متدفقا يشابه تماما أحدث أنواع رقص الباليه. يتألف عرض البالية من برولوج “استهلال” ويعرض المؤلف من خلاله بعض أجزاء هامّة ومؤثرة في تطوير موضوع الباليه الرئيسي”. (الكتاب ص 92). لقد شهد منتصف القرن الماضي تحولا هائلا في مفهوم البالية كفن، فبعد أن كان هواية المجتمعات الارستقراطية المخملية، أصبحنا نراه يرتبط مع ملايين العشاق لمشاهدته والتمتع بمفرداته وجمالياته كفن يستحوذ على مهارات النخبة في مجالات التأليف الموسيقي وتطوير مضمون الأساطير وقصص الأدب العالمي. باليهات القاهرة تصدرت مصر وفي العصر الذهبي لمرحلة الستينيات قائمة الدول العربية من حيث الاهتمام بتقديم ألوان من عروض الباليه العالمي، من خلال جهودها في إنشاء أول معهد عال للباليه تابع لأكاديمية الفنون بالقاهرة، وما زال الوجدان يتذكر إنجازات “فرقة باليه أوبرا القاهرة” التي قدّمت للجمهور ثلاثة أعمال من الباليهات العالمية الشهيرة وهي: بالية “نافورة بختشي سراي” وباليه “جيزيل” والأخيرة “كسّارة البندق”. ويحكي باليه “بختشي سراي” أسطورة قديمة للأديب الروسي “فولكوف”، وصاغها شعرا الشاعر الكبير بوشكين، ثم صوّر موسيقاها المؤلف “أسافييف”. أحداث البالية تقع في أربعة فصول، وتجري في أحد القصور البولندية، ونرى الأميرة الرقيقة “ماريا” وهي ترقص سعيدة في أرجاء القصر، وفجأة تصل أنباء غير سارة عن زحف جيوش التّتار الى القصر بقيادة الخان “جيري”، وهم بالفعل يقتحمون القصر ويعملون سيوفهم بمن فيه، ثم يختطفون الأميرة ماريا. وتتابع الأحداث فيأخذ الخان أميرته المخطوفة الى قصره، حيث عدد كبير من الزوجات وعلى رأسهن “زاريما”. لكن الخان المقاتل العنيف يقع في حب الأمير إثارتها حتى تقتلها بالسيف، وفي النهاية يصدم الخان بهذه النهاية المفزعة لمحبوبته، ويعيش حالة من الكآبة والحزن والعزلة والوحدة. وفي المشهد الأخير لا تتبقى للخان سوى النافورة التي أقامها تخليدا لذكرى ماريا. في هذه الباليه تصوير للانفعالات الداخلية لدى الراقصين الممثلين بصورة توحي بالمضمون الدرامي، وتوظيف العناصر الحركية بما يبرز جماليات المكان والأزياء والديكورات والاضاءة. البالية الثانية التي حملت عنوان “جيزيل” تعرض أسطورة تحكي عن قصة فلاّحة اسمها “جيزيل”، تقع في غرام أحد الشباب الفلاحين، لكن في حقيقة الأمر لم يكن هذا الشاب سوى أحد الأمراء المتنكرين في الزّي القروي. من شخصيات الباليه الأخرى حارس الغابة الذي يعشق جيزيل، ويقوم بكشف قصة خداع الأمير لها، فتصاب بعد بصدمة عنيفة تؤدي الى موتها. بالمقابل تقول الأسطورة أن الفتاة التي تموت قبل الزواج تتحول الى (شبح) وبالفعل تحولت جيزيل الى شبح وأرغمت حارس الغابة على الرقص حتى الموت، ومن ثم يأتي الدّور على الأمير الذي عشقته، فيتحول الى مجنون حائر تائه بين المقابر. تميز التشكيل المرئي بدقة لافتة على مستوى الحركة والإيقاع الدرامي، كما نجحت الحركة في توصيف المضمون الدرامي الذي جمع بين الملامح الفلكلورية وتعبيرات مسرح الباليه الحركي الموسيقي. البالية الثالث هو “كسارة البندق” الذي كتب موسيقاه المؤلف الروسي الشهير “تشايكوفسكي”، ويحكي أسطورة قديمة نرى من خلالها احتفالات للأطفال بعيد الميلاد، ومع هؤلاء الأطفال الرشيقون تتميز طفلة صغيرة تدعى (ماشا)، حيث يعطيها أحد أقاربها هدية هي عبارة عن “دمية” على شكل كسارة البندق، وفي إحدى الليالي تحلم ماشا بأن الفئران تحاول خطف دميتها، لكنها تتفاجأ بأن الدمية تحولت الى أمير، يعطيها عصا سحرية ويذهب بها الى القصر الكبير، وفي مشهد مركب يتحول جميع من في القصر الى دمى بمن فيهم ماشا التي تنطلق وسط العرائس الحية في مجموعة مفردة وجماعية من الراقصات، وفجأة تستيقظ ماشا من حلمها الغريب وفي يدها عروستها الصغيرة كسارة البندق، حيث يقوم هذا البالية الرائع على جماليات الخيال وتقنيات الجمع بين شكل الأداء الحروفي والأداء في مساحات محددة على المسرح. بقيت الاشارة الى أن الباليهات الثلاث كشفت عن راقصات باليه عربيات مجيدات منهن على سبيل المثال لا الحصر مايا سليم، ماجدة صالح، علية عبد الرازق، ورود فيظي، كما برع عدد من الراقصين الشباب في الأداء ومنهم: عبد المنعم كامل، رضا شتا، رضا فريد، منصور الحناوي، وجيه يوسف وهنا علينا أن نتذكر أسماء عظيمة في مجال التأليف الموسيقي ومنهم قائد الأوركسترا المايسترو شعبان أبو السعد، الذي يمتلك خبرة ومهارة عالية في إدارة هذا اللون من الفنون. أوبرات عظيمة لم تقتصر جهود مصر على تقديم ألوان من الباليهات العالمية، بل امتدت في جانب آخر على تقديم نخبة من (الأوبرات) الشهيرة من بينها أوبرا “مدام بترفلاي”، وهي تراجيديا غنائية تقوم على المسرحية الأمريكية التي تحمل ذات الاسم، من كتابة دافيد بيلاسكو وجون لوثر كنج ونظم كلماتها وأغنياتها باللغة الإيطالية جيوسبي جياكوزا، وهي من تأليف وتلحين الإيطالي جياكومو بوتشيني (1858 ـ 1924). ظهرت هذه الأوبرا العظيمة اول مرة عام 1900 ويعدها الخبراء من أرق وأعذب أوبرات بوتشيني على الإطلاق، ومن سوء الطالع أن الجمهور استقبلها بالازدراء والصفير عند عرضها الأول بمدينة ميلانو، وضجّت الصالة بالسخرية والتهكم، ووصفها النقاد في تلك الفترة بـ(خيبة بوتشيني)، مما جعله يعيد النظر في عمله كلية، ليقدمه في ثوب جديد في 17 فبراير من عام 1904، فاستقبلها العالم كله بدوّي هائل من الإعجاب والتقدير. أسلوب هذه الأوبرا كان في إطار مطابقة الواقع، وتقدم مجموعة من الشخصيات الأميركية المعاصرة وبعض الشخصيات اليابانية ذات التقاليد والمبادئ والمثل العليا، أما أحداثها فتدور مع بداية القرن العشرين في إحدى الموانئ الشهيرة في اليابان وهي ميناء ناجازاكي، وزمن الأحداث هو الفترة التي سبقت القاء القنبلة الذرية على هذه المدينة. ولا نستطيع أن نغفل دور (مسرح البولشوي) أو المسرح الكبير في هذا المجال الحركي الحيوي، سواء من خلال إرسائه لقواعد أصيلة لفن البالية أو تقنيات فن الأوبرا. يقع هذا المسرح في العاصمة موسكو، قريبا من الكرملين، وتقدم عليه حتى وقتنا الحاضر عروضا مختلفة من المسرح والأوبرا والرقص الحديث. تأسس مسرح فرقة البولشوي عام 1776، على يدي بيتر أورسوف وصديقه ميخائيل مدوكس، ومن العروض التي شهدها هذا المسرح وكانت أكثر إدهاشا وإثارة عرض اوبرالي بعنوان “ابناء روزنتال” عام 2005، للملحن الطليعي فلاديمير ديسياتنيكوف ووضع لها الاستهلال المؤلف فلاديمير سوركين وأخرجها الليتواني ايمونتاس نياكروشيوس. ومن الأوبرات المثيرة التي قدمها هذا المسرح العريق عام 1936 أوبرا روسية بالكامل بعنوان “الدون الهادي” للموسيقار ديرجينسكي. وتعتبر أوبرا “المزمار السحري” لموتسارت واخراج جراهام فيك من أكثر الاوبرات دقة وقوة وبراعة في التعبير الصوتي، وقد استقطبها هذا المسرح ليضفي على عروضه طابعا كلاسيكيا خلاّبا، وقد صمم لها الأزياء والديكورات بول براون. وتبقى في الذاكرة عروض مهمة ومبهجة لهذا المسرح من الريبوتوار في مجال البالية ومنها: “كسارة البندق” و”بحيرة البجع” و”مازيبا” و”يولاتنا” وغيرها. وتعد الروسية مارينا كوندراتيف واحدة من أفضل راقصات البالية على المستوى العالمي. وفي سيرتها ان موهبتها الفنية بدأت تتفتح مذ كانت طفلة مهاجرة، ثم نمت بالدراسة في معهد البالية بموسكو، ثم جاءتها الفرصة الذهبية عندما مرضت بطلة مسرحية “سندريلا”، فاتصل بها المخرج روستيلاف زاخاروف وعرض عليها القيام بتجسيد الدور، فوافقت فورا رغم خوفها ومعرفتها بأن مثل هذا الدور المهم لعبته بطلتا الباليه المشهورتان (غاليتا وأولغا) لكن هذه الموهبة الفذّة اجتازت الاختبار بنجاح كبير بإحساسها الفطري الى جانب تلك المسحة الشاعرية التي تميزت بها. وتمكنت مارينا عام 1962 من المشاركة في المهرجان المسرحي العالمي في ميونخ، وأدت بادهاش وبراعة دور “جيزيل” في البالية التي تحمل نفس الاسم. كما لا يمكن نسيان راقصة الباليه الشهيرة مارينا سيمينوفا التي توفيت مؤخرا عن 102 عام، ويعتبرها النقاد من أشهر راقصات الباليه في الحقبة السوفييتية. ظهرت للمرة الأولى أمام الجمهور عام 1952 في باليه “لاسورس” للمؤلف الموسيقي الشهير ليوديليب. وأصبحت بعد سنوات تحمل لقب “معبودة الجماهير” وقدمت باليهات: بحيرة البجع، جيزيل، لابايادير. في العام 1975 منحت لقب “فنانة شعبية من الاتحاد السوفييتي”. باليه في أبوظبي وعلى مستوى دولة الإمارات وبخاصة العاصمة أبوظبي، حظي الجمهور قبل عدة أشهر بمتابعة ثلاث فرق بالية مميزة في إطار فعاليات مهرجان أبوظبي للفنون 2011، وقدمت العروض كل من فرقة مسرح الباليه الأميركي وفرقة مسرح مارينسكي وفرقة مسرح البولشوي الروسية، وتضمن برنامج مارينسكي مقطوعات شهيرة منها: بحيرة البجع، روميو وجولييت، والأميرة النائمة لموريس بوتيبا، كما أعادت هذه المقطوعات الى أذهان الجمهور العربي اسماء كل من تشايكوفسكي وشوبان وبروكوفييف وغيرهم. وبموازاة ذلك فإن دار الاوبرا المصرية، استضافت قبل نحو 3 سنوات، عروضا خاصة لفرقة بولشوي بيلاروس (روسيا البيضاء)، التي قدمت للجمهور العربي رائعة تشايكوفسكي “كسارة البندق”، وقدمها 75 راقصا وراقصة، في إطار من الحداثة الجديدة التي تختلف قليلا عن بولوشوي موسكو. واذا مددنا البصر الى آسيا وتحديدا كوريا الجنوبية، سنجد أن عددا لا يستهان به من راقصات البالية قد نجحن في الانضمام الى أعرق فرق البالية العالمية ومنهن تحديدا “سو هي” التي تمت ترقيتها الى مرتبة (صولوست) في فرقة مسرح (ايه. بي. تي) الاميركي والتي تعد واحدة من أكبر خمس فرق للبالية في العالم الى جانب فرقة مسرح البولشوي، وفرقة كيروف مارينسكي الروسية، وفرقة البالية الملكي البريطاني، وفرقة أوبرا باريس. والمعروف إن فرقة الباليه الملكي البريطانية تضم في عضويتها نحو 96 راقصا وراقصة، يرافقهم 50 فنّيا، وربما يكون من أهم إنجازاتها لهذا العام هو تقديمها عرض خاص في العاصمة الكوبية هافانا، ومن خلاله كرّمت أسطورة البالية الكوبية (اليسيا الونسو) البالغة ممن العمر 88 عاما، وهي التي شاركت قبل أن تصاب بعمى جزئي في إدارة فرقة البالية الوطني الكوبية عند تأسيسها. وسنجد أن معظم الفرق العالمية انشغلت بما قدمه الانجليز في هذا المجال وبخاصة حكاية “روميو وجولييت” التي قدمتها عام 1985 فرقة الباليه الملكي في الدنمارك. يبقى إن لفن الباليه سحر لا يقاوم، فهو يحرك الروح بحركته وموسيقاه الشاعرية وجمالياته التي تتسم بالإبهار والتقنية العالية على مستوى المناظر، والتصميم الحركي ودلالات المعاني التي يتضمنها الفكر الإنساني المطروح، واللوحات الراقصة المتتالية التي تريح العين والقلب والوجدان. وقد حاول العديد من المبدعين العرب تناول هذا الفن ومنحه مظهرا شرقيا مميزا، على نحو تجربة وجهود دائرة فنون الرقص التي تأسست في الاردن عام 1998، وتتكون من مجموعة من طلاب الجامعات بإشراف مدربة الرقص رانيا قمحاوي وهي أيضا مديرة دائرة فنون الرقص في مركز الفنون الأدائية، وتسعى جاهدة لتأسيس فرقة وطنية لفن البالية. ومع ذلك يظل السؤال مطروحا: لماذا لم تنتشر الفنون المتطورة ومنها الباليه والأوبرا على مستوى الوطن العربي؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©