السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

غاستون بلاشار.. قنّاص الصور

غاستون بلاشار.. قنّاص الصور
8 سبتمبر 2011 00:17
يقسم سعيد بو خليط في كتابه الجديد “غاستون باشلار في نظرية” أعماله إلى قسمين متميزين: قسم، يظهر تأملاته الإبستمولوجية حول تطور الفكر العلمي المعاصر، والعوائق التي يواجهها حينما تنتقل مقولات الحس المشترك إلى مقولات لهذا العلم. ويفكر باشلار من خلال ذلك، في الدور الذي تلعبه الرياضيات في هذا التطور العقلاني، والدروس التي يمكن استخلاصها خاصة بالنسبة لبيداغوجيا العلوم الدقيقة. ونراه هنا، يسائل فلسفة علوم عصره ولا سيما الوضعية والعقلانية والواقعية.. متهما جميعها بكونها ستاتيكية جدا وبالتالي عاجزة عن أن تنصف معرفة وفكراً يتميزان بالدينامية. فالخيار بالنسبة إليه، هو أن نأخذ من تاريخ العلم خاصيته العقلانية المنفتحة، التي تؤدي إلى ثورات مفهومية وذاتية تعتبر جوهرية في فهم جذري للعالم الفيزيائي. أما القسم الآخر من مشروعه، فقد كرسه بشكل حصري تقريباً لتجليات الأدب والفن والتي تمليها طاقة العناصر الكونية الأربعة: النار والماء والأرض والهواء، على الخيال المبدع للذات الحالمة. وسنلاحظ هنا، توظيفه السهل ـ كما فعل ذلك في إبستمولوجيته ـ لمبادئ علم النفس التحليلي اليونغي، باعتباره منهجية تمكننا من الوصول إلى العقد وتجلياتها في أعمال الفن. وكذا الظاهراتية، التي مكنته من تناول الصورة في الآن نفسه وهي تتشكل في روح المبدع والقارئ. إن قيمة اختيار الباحث سعيد بو خليط، للنصوص التي ترجمها في عمله الحالي، تدخل في إطار مشروعه، وضع جمهور اللغة العربية وكذا أكاديمييها ضمن سياق مختلف المنظورات الباشلارية مع تركيز خاص على الجزء الشعري، بناء على تأملات مفكرين ينتمون إلى ثقافات وجنسيات مختلفة: عرب، وأوروبيين وأميركيين. لقد قام سعيد بو خليط باختيار مقالات ترصد مجموعة من المعطيات البيوغرافية حول غاستون باشلار، وبالتالي تمكّن القارئ من متابعة الحقبة المهنية والشخصية لهذا الرجل الفذ. جاءت المقالة الأولى في قسم ترجمات تحت عنوان: “غاستون باشلار والشعراء”، وهي بقلم الشاعر لوي غيوم مقاربة تشكل في حقيقة الأمر، شهادة مثيرة عن حياة وشخصية باشلار، وإظهاراً لمختلف اهتماماته. وصف غيوم باشلار بكونه “شعلة كبيرة”، أضاءت فكر زملائه وتلامذته. لقد عمل دائما على تشجيع الفنانين الشباب، وهو يضع أعمالهم ندياً مع أعمال شعراء كبار. واتجه اهتمام غيوم بالخصوص إلى “الموجات الحلمية” التي جاء بها كتاب التحليل النفسي للنار وأحلام اليقظة المرتبطة بوضعيات الاستراحة أو الإدارة، محيلاً في هذا الإطار على كتابي: شاعرية المكان وشعلة قنديل. المقالة الثانية، والتي اختار لها صاحبها جون لبيس عنوان “الفيلسوف والشاعر”، تتمم بشكل جيد إشارات غيوم. لقد حاول أن يشركنا في بعض مقاطع الرسائل التي تبادلها باشلار مع غيوم، وهي بالمناسبة وثيقة ثمينة جداً، تظهر بشكل واضح كآبة باشلار طاعن في السن، وهو يسترجع مسيرته الفلسفية الطويلة. هكذا يعترف باشلار للشاعر، بأن قراءة القصيدة وحلم اليقظة الذي توحي به، هو ما يشكل حقاً أكبر مباهج حياته الروحية. بالتأكيد، “القوة الدراماتيكية” لأفكار باشلار حول احتمال الوجود ظهرت بالفعل من خلال المضمون النوستالجي لـ: شاعرية المكان وخاصة مقاطع من شعرية النار، ثم كتابات أخرى جاءت في المراحل الأخيرة لحياته، مظهرا كذلك رغبته في أن يبين لنا العلاقة بين الأفراد والنباتات من خلال سير ذكريات تثيرها روائح الطبيعة “ستكون منبعاً لرغبات وأشواق لا نهائية”. لا يتأتى الاهتمام فقط هنا من روح الشاعر المبدعة، ولكن كذلك من روح القارئ التي تستوحي القصيدة، حتى يوقظ في نفسه ذاكرته وقواه الروحية. المقالة الثالثة في قسم ترجمات دائما، وهي للباحث مارسيل شيتل، فإنها تتمم وبشكل منطقي، الشهادتين السابقتين. من خلال مقاربته: “باشلار والشعراء: حول صورتين للوي غيوم”، توخى مارسيل شتيل إذن، الحديث عن توظيف باشلار لمجموعة من صور الشعراء وخاصة تلك التي جاءت بها قصيدة غيوم. باشلار “قناص وجامع للصور”، لكن مع ذلك يصعب الفصل في تفضيلاته الشعرية، نظراً لانتقائيته الفكرية والتي ميزت كذلك إبستمولوجيته العلمية. الاختيار الأدبي لهذا الفيلسوف، يذهب على سبيل المثال من ريلكه وبودلير وبوسكو وبو، وشار إلى بروتون...، توخيا لمراكمة مجموعة من الكلمات أو جمل تتسامى بعقلانية المجازات، وتعطيه منفذا على صور شاردة وملتبسة تتأتى لروح الذات الحالمة. أخيرا، فإن إطلالة الباحث عمور الشارني علينا بـ: “باشلار والعرب”، قربتنا من الحضور “المحدود لكن العميق” لكتابات باشلار في العالم العربي. يمكننا القول ودون مبالغة، إن هذه المقالة تشكل مرآة لتناول باشلار في العالم بأكمله. انطلاقا من تحليل ثاقب جدا، سيظهر الشارني تعددية النظر إلى باشلار لصالح مؤسسات ومن خلال موضوعات مختلفة جدا. هناك على سبيل المثال، باشلار الثانويات ثم تدريس باشلار أو البحث في باشلار داخل الجامعات، وباشلار الجمهور ارتباطا بتعريبه وأشعاعه خارج المدرسة. يظهر الشارني تذمره بشكل معقول تجاه “تأليف لكن دون معرفة كبيرة” وانحصار الاهتمام الذي يثيره باشلار عند الجمهور، وكذا تباعد المعايير بين أولئك الذين يقرأون بالعربية، والذين يكونون في غالب الأحيان خاضعين لسلطة المترجمين. ثمة مفكرون آخرون ـ التونسيون بالخصوص ـ ينجزون جل أبحاثهم من أجل الميتريز والدكتوراه باللغة الأصلية لنصوص باشلار أي الفرنسية. إلى جانب هؤلاء، توجد كذلك فئة حولت باشلار إلى مجرد أداة لاستهلاك جامعي دون إدراك فعلي وحقيقي لرسالته التحررية. القضية الكبرى التي يطرحها الشارني، هي هذا النزوع داخل العالم العربي من أجل تأويل باشلار عوض “تركه هو نفسه يتكلم”. يبدأ قسم “المقاربات النقدية”، بقراءة الباحث سعيد بو خليط، لكتاب التحليل النفسي للنار، مظهرا بأن هذا العمل يمثل رغبة باشلار ـ مسألة تم التأكيد عليها قبل ذلك في كتاب “تشكل الفكر العلمي: مساهمة في تحليل نفسي للمعرفة الموضوعية” ـ في تأويل وثائق ماضي العلم بمناهج يقدمها التحليل النفسي للاوعي. لقد تكلم باشلار هنا عن العوائق التي تحدثها المعرفة الأولى أمام المعرفة العلمية، وكذا قوة حضورها في لا وعي الكائن الإنساني. هكذا تشكل النار مثلا، حالة نموذجية وجذرية عن الشيء الذي يصمد أمام كل تموضع نظراً لعلاقتها الوثيقة مع مجموعة من العقد الشخصية والثقافية بل والكونية. إن “عقلا نقديا”، يمثل إذن ضرورة ليس فقط بالنسبة لحالات كهاته يكون فيها اللاوعي أكثر قوة، وينعكس بشكل مباشر على المعرفة (كما هو الحال مثلا مع الكيمياء) ولكن كذلك بالنسبة لكل الأشياء التي يؤسسها العلم المعاصر. العمل الثاني في هذا القسم، يتعلق بإعادة قراءة كتاب: غاستون باشلار: عقلاني رومانسي والذي اعتبره في تقديمه لهذا العمل، بأنه يمثل بالتأكيد مدخلا لحياة وكذا عمل غاستون باشلار. الفصل الأول كتبه، باسكال نوفل تحت عنوان: “غاستون باشلار، فيلسوف فائض”، إشارة إلى اشتغال باشلار في بداية حياته بمكاتب البريد. نلاحظ هنا، نفور باشلار من سلطة المجازات البرغسونية، مع افتتان مجموعة من معاصريه بمفاهيم مثل “معطيات الوعي” و”الطاقة الحيوية”. وأشار باسكال نوفل، إلى طبيعة تفاعل باشلار مع وجودية جان بول سارتر، وكذا موقفه المزدوج نسبياً حيال فينومينولوجيا موريس ميرلو ـ بونتي. ثم انتقل بنا، إلى مواقف بعض المفكرين المعاصرين لباشلار، والذين أثروا فيه كما هو الحال مع جان هيبوليت. أو على العكس، أثر فيهم باشلار بشكل قوي كما هو الحال مثلا مع جورج كانغليم وميشيل فوكو أو لوي ألتوسير. أحال باسكال نوفل كذلك على أعمال باشلار، خاصة تلك المتعلقة منها بالنقد الأدبي لإظهار أن مشروعه توخى الوقوف على هذه “السيادة الشعرية المستقلة، حيث الكلمات صور كذلك”. في الفصل الثاني من كتاب غاستون باشلار: عقلاني رومانسي، توخى جون ليبيس بمقالته “جانوس والمانخوليا” تحطيم الأسطورة التي تؤكد على انفصال وتباعد بين الإبستمولوجيا العلمية لباشلار وكذا نقده الأدبي. حيث استند الباحث، وضد النزوع التأويلي المألوف، على “توتر داخلي” ظل يحكم باستمرار المشروع الكلي للفيلسوف. كما تحدث ليبيس عن الانتقائية والتفضيلات الأدبية والفلسفية لبشلار، واستحضاره بالأخص لأسماء مثل: شوبنهاور وكانط وهوسرل ونيتشه ويونغ.. وقد أثروا ربما في الخاصية “المضطربة” و”الدراماتيكية” لإبستمولوجيته. لكن ما يثيره الانتباه في هذا الفصل بشكل خاص، هو الإدراك المستخلص من أعمال باشلار حول الخيال المبدع وتحليله النفسي للإبداع الأدبي، ولما اصطلح عليه ليبيس بـ “سعادة نادرة في الكتابة”، بالخصوص تلك التي ارتبطت بكتاباته الشعرية التي تتوافق مع “حرية الخيال”. القسم الثالث والأخير من مقاربات الباحث سعيد بو خليط لفكر باشلار، جاء على شكل حوار أجراه معي بخصوص مستويات حضور العمل الإبستمولوجي لباشلار في أميركا الشمالية، انطلاقا من المجهود الذي أبذله حتى يشع هذا الفكر أكثر في أوروبا وخاصة في النمسا وإيطاليا وكذا أميركا الجنوبية (البرازيل). البحث في انفصال باشلار عن التقليد الوضعي، وتشابه بعض مواقفه الفكرية مع تلك التي جاء بها فلاسفته كـ: كارل بوبر، وتوماس كوهن وميشيل بولاني، وكذا تبنيها من قبل البنيويين الاجتماعيين، يمثل كل ذلك جزءاً مهماً من المشروع الذي أقوده. باختصار، يمثل العمل الحالي لسعيد بوخليط محاولة تستحق التقدير لإعطاء جمهور اللغة العربية نبذة عن حياة ومشروع غاستون باشلار وتقريبنا من تأملات، يمكنها أن تثير مفكري اليوم. صدر الكتاب عن «دار الفارابي» ومنشورات الاختلاف
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©