الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كذَبَ المترجمون.. ولو...

كذَبَ المترجمون.. ولو...
7 سبتمبر 2011 23:54
أمثلة عن مآربُ المترجم المُقنَّع بين التأليف والتزييف تُرى، ما الذي يجعل مترجماً يرتضي لنفسه أن يكون كاتباً من الدرجة الثانية لإبداعات كاتب آخر؟ أهو الحافز الجمالي أم المعنوي أم الثقافي/ الحضاري أم المادي أم الشخصي أم الأيديولوجي؟ لا شك أن للمترجمين فيما يفعلون مآرب متعددة، ولكنني سأقتصر في الشق الأول على مآرب المترجمين العاملين في حقل الأدب، لأنني أعتقد أنه لا توجد كتابة أخرى مثل الأدب تتعرض للقرصنة الفكرية التي تطوع النص المترجم لأغراض شتى. أما في الشق الثاني، فسأتحدث عن بعض الأعمال الأدبية التي يدعي مؤلفوها أنهم ترجموها، وسأحاول تفسير مآربهم من وراء التستر بقناع الترجمة هذا. يقول شليغل إن هناك رابطة روحية بين المترجم والعمل الذي يترجمه. وهذا معناه أن المترجم يجب أن يحب العمل الذي يود ترجمته، فمن غير المعقول أن يترجم أحدنا عملاً لا يستسيغه. لكن هذا لا يعني بالضرورة أن المترجم هو دائماً من يختار ماذا يترجم. بل أحياناً قد يعرض عليه ناشر أو جهة حكومية أو اعتبارية أو حتى أحد أصدقائه أو معارفه عملاً معيناً لترجمته. لكن يجب عليه في كل الأحوال أن يكون هو من يقرر إذا كان يجد في نفسه الرغبة في ترجمة هذا العمل أو لا. أما دنيس جونسون ديفيز. وهو أشهر مترجم للأدب العربي الحديث إلى الإنجليزية في القرن العشرين، فيتحدث عن الترجمة بوصفها نوعاً من الإدمان لديه، حيث يقول، “مع كل كتاب أترجمه، كنت أعد نفسي بلا انقطاع أنه سيكون كتابي الأخير، ولكنني، كالمدمن على النكوتين، أجد نفسي أعود إلى عادتي”. لكن لماذا أترجم؟ لأن في الترجمة الأدبية متعة جمالية وفائدة عملية. أما الفائدة العملية فهي أنها تعلم المترجم الكتابة الإبداعية، كما يقول الدكتور علي القاسمي. أضف إلى ذلك أن الترجمة جسر حضاري عابر للقارات تعبر عليه الثقافات إلى بعضها بعض. قناع فتسجرلد لا شك أن هناك مترجمين آخرين أيضاً ينظرون إلى الترجمة بوصفها قناعاً يلجأ إليه لأن النص المراد ترجمته يصادف هوى في نفس قارئه، هوى يتجاوز الرابطة الروحية التي يتحدث عنها شليغل، وحين يتمكن هوى النص في نفس قارئه يدفعه لفعل إبداعي مواز للتأليف، وإن كان لا يتقاطع بالضرورة مع الهدف الأصلي لمؤلف الكتاب. وأستطيع أن أجزم أن من أقوى الدوافع التي تجعل المترجم يتصرف بالعمل الأصلي هو اكتشاف المترجم أن العمل الذي بين يديه لا يتطابق تماماً مع أهوائه، فيقوم تبعاً لذلك بالحذف والإضافة بما يتواءم مع أجندته الشخصية، بعد أن يتحرر من عقدة العبودية للأصل. هنا يستطيع المترجم أن يوظف النص المترجم مطية تخدم أغراضه الشخصية/ الأنانية، أو أجندته الاجتماعية أو السياسية. ومثالا على ذلك نجد أن ترجمة ابن المقفع لكتاب “كليلة ودمنة” كانت استجابة لدوافع سياسية، مما جعله “يتصرف في الترجمة، فيزيد وينقص كما يشاء” كما يقول سالم شمس الدين الذي يضيف قائلاً، “ولعل الحالة السياسية المضطربة، التي كانت تسود البلاد في زمن (الخليفة العباسي أبي جعفر) المنصور الطاغية الذي يشبه، من حيث طغيانه، دبشليم كانت من الدوافع الكبرى لابن المقفع على ترجمة الكتاب”. وكذلك فعل ادوارد فتسجرلد في ترجمته لرباعيات الخيام (1859)، إذ وجد في هذا العمل خير معبر عما يعتلج في داخله هو من شكوك وقلق وجودي عانى منها قبل قرون شاعر آخر لكن بلغة أخرى هي الفارسية. وهنا يبرز الأثر التطهيري للترجمة، حيث تؤدي الترجمة، بوصفها فعلاً إبداعياً بحد ذاته، إلى بلورة مشاعر القلق والأفكار الحيرى، فيصير العمل المترجم عملاً هجيناً وناطقاً مزدوجاً: باسم كاتبه ومترجمه معاً. فما دفع فتسجرلد لترجمة رباعيات الخيام هو أنه وجد فيها شيئاً يستطيع أن يتماهى معه روحياً. ولكن ترجمة فتسجرلد لم تكن ترجمة أمينة، فهو لم يكتف بإعادة صياغة رباعيات الخيام، بل أضاف رباعيات من عنده لا أصل لها عند الخيام. وهذا ما جعل بعض النقاد يطلقون على ترجمته تسمية “رباعيات فتسعمر”. نظراً لتصرف فتسجرلد في ترجمته التي جاء جزء كبير منها من إبداعه هو. وفي الحقيقة، كان فتسجرلد يشير إلى ما فعله برباعيات الخيام بوصفه نوعاً من transmogrification أي المسخ. وفي رسالة كتبها إلى أي. بي. كأول مؤرخة بيوم 27 أبريل 1859، يقول فتسجرلد “أعتقد أن قلة قليلة جداً من الناس قد تجشمت من عناء الترجمة ما تجشمت: وهي ألا أكون حرفياً إطلاقاً. ولكن مهما كان الثمن. فلا بد للشيء من أن يعيش ولو كان على المترجم أن ينفحه بشيء من روحه الأسوأ إن لم يستطع أن يحتفظ بروح الأصل الأفضل. فعصفور حيّ خير من نسر مصبر”. واللافت للانتباه أن رباعيات فتسجرلد لم تلق رواجاً يذكر حينما نشرت، لأن المواطن الفكتوري كان يعيش في بحبوحة ودعة من العيش، إلا أنه حينما بدأت الأمور الاقتصادية تتدهور (بسبب التكاليف الباهظة للامبراطورية) لاقت الرباعيات رواجاً منقطع النظير. هدية رامي أما أحمد رامي الذي قدم أشهر ترجمة عربية لرباعيات الخيام، فقد مر بظروف مشابهة لظروف فتسجرلد ناتجة عن موت أخيه المفاجئ بينما كان أحمد رامي يدرس الطب في باريس. يقول رامي في مقدمة ترجمته: “وإنما بدأت ترجمة هذه الرباعيات في باريس سنة 1923 بعد أن وصلني نعي أخي الشقيق الذي مات ودفن في ديار غربة أحسست آلامها وأنا نازح الدار. فاستمددت من حزني عليه قوة على تصوير آلام الخيام وظهر لعيني بطلان الحياة التي نعى عليها في رباعياته فحسبتني وأنا أترجمها أنظم رباعيات جديدة أودعها حزني على أخي الراحل في نضرة الشباب وأصبر نفسي بقرضها على فقده”. هنا يعود بنا أحمد رامي لمقولة شليغل عن الرابطة الروحية التي تنعقد بين المترجم والعمل المترجم، وكأن أحمد رامي يقول بضرورة التماهي النفسي والروحي بين المؤلف والمترجم. فحزن رامي على أخيه كان بمثابة المخزون الاحتياطي الروحي الذي نهل منه ليتمكن من تصوير آلام الخيام. وكان من نتيجة هذا التماهي الروحي بين المؤلف والمترجم التباس حول الحدود الفاصلة بين الترجمة والإبداع، وما إن كانت الرباعيات الجديدة تنطق باسم الخيام أم باسم أحمد رامي. بل إن الجملة التالية تصور لنا ترجمة أحمد رامي كأنها قضية عائلية بحتة، “وإني لأهديها من ذلك الثاوي بنيسابور بين ملتف الغياض ويانع الرياض إلى ذلك الراقد بحلفا بين شاطئ النيل وباسقات النخيل”. في هذه القضية يتحول الخيام إلى طرف مسلوب الإرادة في عملية التهادي من أخ حي إلى أخيه المتوفى. فالهدية أصلاً من الخيام لكنها تسلب منه بغير إرادته أو موافقته أو علمه. وهذا طبعاً لحسن حظ الخيام لا لسوئه، حيث إن هذه الأشياء جعلت ترجمة رامي ترجمة صادقة المشاعر والأحاسيس بما توفر لها من شروط توائم حال المؤلف والمترجم. وربما لو قيض للخيام أن يقرأها بترجمتها العربية لاستحسنها. كذبة اليزابيث وبالمقابل، هناك من الأدباء من يكتب عملاً إبداعياً ثم، لحاجة في نفس يعقوب، يدعي أن كل ما فعله هو أنه قدم للقارئ ترجمة لمخطوطة (قديمة عادة) وجدها بالصدفة. ومن هذه الأمثلة ما فعلته الشاعرة الإنجليزية اليزابث بارت براوننج في قصائدها المعروفة باسم sonnets from the portuguese، حيث تدعي أنها قامت بترجمة هذه القصائد من اللغة البرتغالية. والسبب وراء هذا الادعاء هو أن المؤلفة كانت تعيش في عصر محافظ جداً هو العصر الفكتوري، فلم تكن تجرؤ على البوح بمشاعر الحب التي تكنها لزوجها الشاعر روبرت برواننج، وهي التي هربت إلى إيطاليا كي تتمكن من الزواج منه بعد الإفلات من قبضة والدها الطاغية الذي كان يمنع بناته من الزواج. وحفاظاً على خصوصيتهما اختارت اليزابث عنواناً مبدئياً هو sonnets from the bosninan، (قصائد من اللغة البوسنية)، إلا أن روبرت اقترح أن تغير اللغة الأصلية المتخيلة لتلك القصائد إلى البرتغالية، ولعله استمد هذا العنوان من لقب التحبب الذي كان يطلقه على زوجته وهو my little portuguese أو “صغيرتي البرتغالية”. كما أن لدى اليزابث بارت براونج هدفاً آخر من وراء التقنع بقناع الترجمة، فهي تريد أن توجه، بلسان غيرها ظاهراً، النقد الموارب للمجتمع الإنجليزي في العصر الفكتوري الذي لا يبيح للمرأة أن تتحدث عن مشاعرها بحرية أو بلا وصمة عار. وعندما نتذكر نصيحة الملكة فكتوريا لابنتها ليلة زفافها، “أغمضي عينيك، وفكري بالامبراطورية البريطانية” يمكننا أن نتخيل حجم العار الذي يمكن أن يلحق بامرأة تجاهر بحبها لزوجها! وهناك نوع آخر من الممارسات المشبوهة التي تتم باسم الترجمة، وهو ما تطلق عليه إميلي آبتر مصطلح النص المستنسخ الذي تعرفه بأنه نص “مولود ولادة اصطناعية ومستنسخ استنساخاً ناجحاً”. وتضرب آبتر مثلين على هذا الاستنساخ. ومثلها الأول يتمثل في الفضيحة التي كان بطلها الفرنسي بيير لوي pierre louys، الذي نشر عام 1984 نصاً بعنوان Las Chansons de Bilitis (أناشيد بليتيس) يدعي فيه أنه ترجم هذه الأناشيد من الإغريقية، وأنه عمل لم يسبقه إليه أحد، ويسوقه على أنه ترجمة لأعمال محظية من أصل يوناني/ تركي من القرن السادس، أي من معاصرات الشاعرة سافو. كما يدعي لوي أن مخطوطة هذه القصائد النثرية ذات الطبيعة الإيروسية اكتشفها عالم لغوي ألماني دعي ج. هايم خلال إحدى عمليات التنقيب في قبرص. كان لوي ذا سمعة معروفة في الأوساط الكلاسيكية بوصفه مترجماً من الإغريقية (ولا سيما لأعمال مليجر)، مما ساعد على قبول ادعائه هذا. لم يبح لوي بحقيقة مؤلف القصائد إلا لأخيه جورج، ولكن عدداً من أصدقائه، بمن فيهم أندريه جيد، فاليري، دبوسي، وإريديا، اكتشفوا حيلته. غير أن عدداً من القراء سقطوا في الفخ. فمنهم من أرسل إليه “تعديلات على الترجمة”، بينما عالم الكلاسيكيات المرموق غوستاف فوجير، الذي أرسل له لوي نسخاً من ترجماته، فقد كتب له قائلاً، “ما كان مليجر ولا بليتيس غريبين عني، بل لطالما حسبتهما من أصدقائي المقربين”. وهكذا أطال فوجير أمد الكذبة. ومما ساعد لوي على الترويج لكذبته هو أنه أقر بأن ترجمته لم تكن دوماً أمينة للنص الأصلي، بل تصرف فيها قليلاً. كما أن جمهور القراء الفرنسيين في نهاية القرن التاسع عشر كان متهلفاً لإحياء الأدب الإيروسي الإغريقي القديم. لكن الكذبة كشفت بعد حين، وتبين أن بليتيس لم تكن إلا من بنات خياله، وقد تزامن ذلك مع صدور الطبعة الثانية عام 1898. ورغم ذلك لم يتوان إقبال القراء على هذه القصائد التي تتحدث عن الحب المثلي بجرأة منقطعة النظير. لكن ما الذي دفع لوي لتقمص شخصية المترجم بدلاً من الإقرار بأنه مؤلف هذه القصائد؟ في رسالة إلى أخيه، يعلن لوي أنه ينوي أن “يحرر التعبير عن الرغبة المثلية من قيود الصورة النمطية السائدة عن المرأة الجذابة القاتلة” ثم يهدي “ترجمته” مع وافر الاحترام “للشابات من سيدات المجتمع في المستقبل”. كما يسر لأخيه أيضاً أنه يرى أن الحب المثلي ليس تشويهاً للحب بل لغريزة الأمومة، كما أنه يرى أن الجنس المثلي هو جوهر الأنوثة التي لا تقيدها الأخلاق المسيحية، بل هو النمط الجنسي المثالي للخصوبة التي لا تفضي إلى التناسل البيولوجي. ورغم أن لوي كان صديقاً لكل من أندريه جيد وأوسكار وايلد (وكلاهما من المثليين جنسياً) إلا أنه فيما يبدو لم يكن يجرؤ على البوح بآرائه عن المثلية الجنسية إلا من خلال التستر وراء قناع الترجمة. استغلال لوي أما المثال الثاني الذي تسوقه آبتر للتدليل على استنساخ النصوص باسم الترجمة وأشباهها فهو الفضيحة التي ارتكبها الشاعر الأميركي كنث ركسروث في القرن العشرين. وكما استغل لوي ثقة قرائه الذين عرفوه من قبل بصفة مترجم من الإغريقية، كذلك فعل ركسروث الذي كان يترجم من اللغتين الصينية واليابانية. وهكذا قدم لقرائه عام 1974 شخصية نسائية يابانية سماها ماريتشكو ضمن مختارات من الشعر الياباني تحت عنوان One Hundred More Poems from the Japanese (مئة قصيدة أخرى من اليابانية). وكانت هذه القصائد التي نسبها ركسروث لشخصية من نسج خياله تفيض بالعاطفة الجنسية. وتحاجج آبتر أن ما فعله ركسروث يندرج تحت بند “الاستنساخ من الشفرة” اليابانية، أي إن ركسروث المطلع على الشعر الياباني المعاصر، ولا سيما أشعار يوسانو أكيكو (1878 ـ 1842) المعروفة بجرأتها في الحديث عن مسائل الجنس، قد نسج على منوال هذا الشعر. وكما استغل لوي نهم القراء الفرنسيين للشعر اليوناني المنحط في نهاية القرن التاسع عشر لتمرير فعلته، كذلك استغل ركسروث رواج ما يسمى بالنزعة اليابانية japonisme في الأدب الغربي، وهي النزعة التي بدأها ملارميه وحمل رايتها شعراء آخرون أمثال إزرا باوند، ييتس، هنري ميشو، ووالاس ستيفنز. هنا أيضاً نرى كيف يستغل كاتب معرفته بلغة ما، فيقوم باختراع كاتبة من نسج الخيال، وينسبها إلى تراث تلك اللغة، ويتقمص دور كاتبته الخيالية، وينظم أشعاراً على لسانها، فيتمكن من خلال هذا التقنع من قول ما لا يستطيع قوله بلسانه الذكوري/ الوطني. هناك من النقاد من فسر تقمص ركسروث لدور الأنثى على أنه مراوغة مكشوفة لتفادي رادار الرقابة، أو محاولة لتلميع صورته، وهو المعروف باستغلاله الجنسي لطالباته ومعجباته. * أستاذ في قسم اللغات الأجنبية، جامعة الطائف، المملكة العربية السعودية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©