الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

التراث الشفهي.. «شاهد على العصر» يبحر في ذاكرة الأيام عبر روايات الأجداد

التراث الشفهي.. «شاهد على العصر» يبحر في ذاكرة الأيام عبر روايات الأجداد
4 سبتمبر 2013 10:04
يظل البحث والاستقصاء عن وجوه الحياة القديمة في ربوع دولة الإمارات أمراً مهماً على الصعد كافة، وخاصة التراث غير المادي، الذي تحاول العديد من المؤسسات المعنية بالتراث إطلاق يد الباحثين فيه من أجل جمعه وتوثيقه ، فضلاً عن العديد من الجهود الفردية الطموحة التي تسعى إلى البحث عن منابع الموروث الشعبي الأصيل، ومن ثم استخراجها من أفئدة كبار السن، الذين عاصروا جزءاً من الماضي التليد، وشهدوا التحولات التي مرت بها دولة الإمارات، لكن صورة الماضي الجميل الحبلى بالمفارقات والأحداث التي تمثل الواقع المعيش لم تزل في حاجة إلى جهود كبيرة من أجل الوصول إلى جوهر التراث المكنون في الصدور، وهو ما يستدعي إطلاق مبادرات كبرى تشمل مؤسسات وأفراد، وفق ما يراه خبراء في التراث المحلي بالدولة، حاضين على تضافر الجهود لكي يعبر العديد من الباحثين عن استجابتهم الراهنة، وفق استراتيجيات فكرية تحمل رؤى وتصورات الآباء والأجداد الذين لا يزالون على قيد الحياة، بالإضافة إلى التفكير بجدية في تفريغ العديد من التسجيلات الحافلة بمعلومات تراثية تمثل انبثاق فجر الحداثة في دولة كانت ولم تزل صاحبة ماض عريق وحاضر مشرق. استطاعت البيئة التراثية الإماراتية بطبيعتها المتجددة، ومفاهيمها الراسخة، وجمالياتها الإنسانية الرحبة، أن تمثل عوامل جذب حقيقية للباحثين الجدد الذين يتوقون إلى مزيد من المعرفة التاريخية عن حياة الأجداد، والطبيعة التي عاشوا في رحابها من دون تكلف أو مبالغة، وهو ما شجع الكثير من أبناء الدولة على الحفاظ على ما في حوزتهم من مواد تراثية استقوها من كبار السن، وبعضهم قرر أن يخلص للبحث والدراسة في ماهية الموروث الشعبي الإماراتي، لكن تظل التحديات كبيرة، والتطلعات تسع المدى من أجل الغوص في الماضي، وسبر أغواره العميقة، لجمع التاريخ الشفهي وتوثيقه لكي تبرز صورة الموروث الشعبي الإماراتي بكل أبعادها ورؤاها الجميلة. ركائز الموروث حول أهمية جمع التراث الشفاهي وضرورة توثيقه في الوقت الراهن، يقول مدير مركز زايد للدراسات والبحوث الدكتور راشد المزورعي: «إذا لم نستثمر الذاكرة الحية لكبار السن الذين لا يزالون يتمتعون بالصحة والعافية إلى الآن فإننا نفقد ركائز الموروث الشعبي والأحداث الدقيقة التي مرت بها الدولة في الماضي، خصوصاً وأن أعداد المعمرين قليلة جداً في الوقت الحالي وهم يحوون في صدروهم مرويات لها قيمة عظيمة من المؤكد أنها ستضيف جديداً إلى محيط تراثنا الشعبي». ويلفت إلى أن الأجدر لإجراء لقاءات مع كبار السن هم رجال البحث التراثي وأقطابه باعتبار أنهم أكثر قدرة على طرح الأسئلة ومحاولة استجلاء بعض الأحداث التاريخية المهمة المتعلقة بحياة الإماراتيين في السابق، إذ إنه من المستحيل أن يسجل مع هذه الفئة أفراد ليس لديهم دارية كافية بموروثنا الشعبي. ويضيف: «الجهود الفردية لجمع التراث اللامادي موجودة منذ السبعينيات وكذلك الجهود المؤسساتية ومن الضروري أن تتولى الهيئات الموجودة بالدولة عملية جمع هذا الموروث، لأنها تمتلك المقومات كافة، خصوصاً وأن هناك العديد من الحكايات الشعبية التي لم توثق حتى الآن فضلاً عن أن المجتمع الإماراتي يزخر بتنوع بيئاته ومناطقه وقبائله وشعرائه أيضاً فضلاً عن اللهجة المحلية الأصيلة التي تعبر عن هوية أهل الدولة»، لافتا إلى ضرورة تكاتف كل الجهات المعنية بجمع التاريخ الشفهي عبر فرق عمل متكاملة من أجل التوثيق بطريقة علمية ناضجة. عمليات التوثيق وبالنسبة للطريقة التي يمكن بها جمع التراث اللامادي، يوضح رئيس مجلس إدارة هيئة الفجيرة للسياحة والآثار الدكتور أحمد الشامسي أن الإمارات من أكثر الدول التي تحتفي بالتاريخ الشفهي بفضل اهتمام القيادات الرشيدة بالدولة، وهذا التاريخ يتم جمعه منذ زمن عن طريق إجراء مقابلات مع كبار السن بالدولة الذين بدورهم يتحدثون عن الحكايات الخاصة بتنقلاتهم في بيئاتهم المختلفة، لذا فإنه من الواجب نقل هذه الحياة بكل تفاصيلها إلى الأجيال الحالية والمقبلة. ويؤكد أنه من المفترض أن تتزايد وتيرة البحث والاستقصاء لتغطية جوانب كثيرة في الموروث الشعبي حتى تكتمل الصورة. ويشرح: «إذ لم تدون هذه الأحداث فإننا سنفقد معلومات كثيرة عن الشلات الشعبية والأهازيج، فنحن بحاجة إلى الإحاطة بالحياة في الماضي وما تخللهما من زراعة وغوص وصيد ورحلات من أجل كسب لقمة العيش، وما من شك في أن مؤسسات الدولة المعنية بالموروث الشعبي أطلقت جهودها عبر المبادرات، خاصة في إمارة أبوظبي ومدينة العين، وأعتقد أنه قد تم جمع قدر كبير من المواد التراثية بطريقة شفهية وعبر تسجيلات صوتية بعضها تم تفريغه ومن ثم توثيقه، وبعضها الآخر لم يزل يحتاج إلى عمل متواصل من أجل إجراء عمليات توثيق بطريقة علمية، فضلاً عن أن الدولة استفادت كثيراً من خلال استضافة خبراء تراثيين له صفة عالمية شاركوا في ورشات وندوات أثرت الحياة التراثية وشكلت مادة علمية لجامعي التراث بطريقية موضوعية». ويقول الشامسي: «على الرغم من هذه الجهود كافة إلا أننا نحتاج إلى المزيد من تضافر الجميع لتدوين التاريخ الشفهي، ومن ثم زيادة أعداد الباحثين التراثيين في كل إمارات الدولة من أجل الالتقاء بكبار السن، ومحاولة التقرب منهم حتى يبوحوا بكل ما عندهم من مرويات وحكايات تجلى معالم صورة البدو في الصحراء والحياة البحرية والبيئات كافة». اللهجة المحلية وعن جمع مفردات اللهجة المحلية وتوثيقها بطريقة علمية خالصة، يورد مدير أكاديمية الشعر العربي التابعة لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة الشاعر والباحث سلطان العميمي أن الباحث الإماراتي يتمتع بروح البحث العلمي ولديه قدرة على التعامل مع كبار السن بحرفية مطلقة لأن الباحث هو ابن بيئته، وهو الأقدر على جمع القصائد الشعرية وتحليل مفرداتها عبر الاستعانة بالرواة التاريخيين إذ إن الشعر النبطي يمثل جزءاً مهما في الحياة بالماضي، والشعراء تناولوا موضوعات تخص البيئة الإماراتية في جميع نواحيها لذا تعد قصائدهم تأريخا دقيقاً لطبيعة الحياة في الماضي، وتسجيلاً لأحداث المنطقة. وبخصوص مشروعه التوثيقي الضخم، الذي يعمل عليه حالياً، يوضح العميمي أنه يتوغل في بيئات الدولة التي تشكل اللهجة الإماراتية الخصبة معالمها، ويعتمد على الرواة الثقات في عملية الجمع، بالإضافة إلى أنه يجري مقابلات مستمرة مع كبار السن، فضلاً عن أنه يستند إلى بعض المصادر الإعلامية والتسجيلات الصوتية لهم في فترات سابقة، مؤكدا أنه يرجع إلى أبناء البيئات المختلفة في الدولة من أجل توثيق جذور المفردات التراثية بطريقة شفاهية، خصوصاً وأن لكل منطقة في الدولة لهجة تميزها وإن كانت كل اللهجات متقاربة وتصب في نهر واحد. ويتمنى العميمي أن يكون هناك مشروع جاد يستند إلى ميزانية ضخمة من أجل توثيق التاريخ الشفهي على اعتبار أنه يرسخ الهوية الإماراتية ويطلع الأجيال الجديدة على تجارب حقيقية حدثت على الأرض وتمثل جزءاً أصيلاً من الماضي العريق للدولة. تغيرات سريعة من جهته، يرى الباحث في التراث الشعبي عبد الله عبد الرحمن أن أجزاء كثيرة من التاريخ الثقافي والاجتماعي والاقتصادي غير موثق، وهناك مصادر قليلة لا تعبر بالشكل المطلوب عن تاريخنا مثل كتب لرحالة والكتب التي اهتمت بالجوانب السياسية بصورة أكبر. ويلفت إلى أن مجتمع الإمارات مر بتغيرات سريعة في الآونة الأخيرة وهو ما يتطلب استغلال وجود بعض المعمرين من أجل تسجيل أحادثهم وشهاداتهم حول العصر الذي عاشوا فيه خصوصاً، وأنهم هم مصدرنا الوحيد لتوثيق التاريخ اللامادي وهم بطبيعة الحال ينتمون إلى بيئات مختلفة وشرائح اجتماعية متنوعة وأي باحث جاد يحاول أن يقدم لبلده صورة كاملة لا يمكنه الاستغناء عن الروايات الشفهية التي تكمل بحثه من جميع الجوانب. ويلفت إلى أن تتبع المعمرين ومحاولة التقرب إليهم من أجل التسجيل معهم مهمة سهلة وصعبة في الوقت نفسه إذ إن الذاكرة الإنسانية قد تفقد حيويتها وخصوبتها مع مرور الزمن لذا فإن كبار السن يحتاجون إلى تعامل من نوع خاص حتى يستجيبوا للباحثين، ويمنحوهم خلاصة تجاربهم في الحياة. ويدعو عبد الله عبد الرحمن الباحثين والمؤسسات إلى الاستنفار في هذا الوقت من أجل متابعة هذه الفئة واستثمار وجودها من أجل استكمال مشروع التوثيق للتاريخ الشفهي حتى لا تكون الجهود المبذولة فردية ولا ترقى للطموحات الكبيرة. ويؤكد أن التسجيلات الموجودة في بعض مراكز البحوث تحتاج إلى تفريغ دقيق من أجل توثيقها بطريقة منهجية لتصبح مواد تراثية تنهل منها الأجيال القادمة. الهوية الوطنية حول تجربته مع كبار السن في المناطق الجبلية في الدولة، يقول الباحث في التراث والتاريخ المحلي خالد بن جميع «عملت ضمن مشروع خاص بوزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع المحلي بهدف جمع أجزاء من التراث اللامادي عبر إجراء مقابلات مع كبار السن، وكنت أجري هذه اللقاءات وأوثقها بطرق مختلفة سواء عن طريق التسجيلات الصوتية أو بالفيديو، أو الكتابة وجميع هذه الأنواع مارستها لكنني وجدت أن أفضلها هو التوثيق بالصوت والصورة خصوصاً وأن كبار السن لديهم غزارة في مستوى الرواية، ومن ثم الإفاضة في الحديث عن مجموع العادات والتقاليد التي شكلت الهوية الإماراتية في السابق». ويتابع «قدمت أيضاً برنامجاً تراثياً في تلفزيون الفجيرة بعنوان «الصراي»، وكنت أذهب إلى الجبال وألتقي المعمرين، الذين اكتشفت أنهم يتمتعون بكامل الصحة والعافية لم تسلبهم الأيام ذاكرتهم النضرة، والعجيب أنهم كانوا يوثقون كل حدث بمثل شعبي أو حكاية حقيقية»، مشـيرا إلى أن الدولة في حاجة إلى إطلاق مبادرة كبيرة لجمع التراث المادي ترسم ملامح الفترة المقبلة، وكذلك العمل من أجل تفريغ الأشرطة المسجلة للعديد من كبار السن الذين رحلوا لكنهم تركوا ذكرياتهم الجميلة أسيرة هذه الأشرطة. قاعدة بيانات حول عدد التسجيلات التي في حوزة وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع، يقول نائب مدير إدارة التراث والفنون بالوزارة الباحث التراثي أحمد الظنحاني «وصلت أعداد الأشرطة المسجلة منذ عام 2009 إلى الآن نحو 750 تسجيلاً». ويشير إلى أنه تم تفريغ ما يقارب 500 تسجيل، والوازرة تعمل جاهدة من أجل توثيق وحفظ المعلومات المتبقية عبر عمليات التوثيق الإلكتروني، مضيفا أن وزارة الثقافة بصدد إنشاء مشروع قاعدة بيانات للتراث الإماراتي غير المادي يستطيع من خلالها الجمهور استقاء المعلومات التراثية، ومن ثم الإضافة إليها عبر موقع إلكتروني يتفاعل مع المهتمين بالتراث المحلي. ويؤكد الظنحاني أن الوزارة عملت على توثيق التراث اللامادي عبر تشكيل لجنة جرد التراث الثقافي اللامادي والتي ضمت في عضويتها الخبراء والمتخصصين في التراث الشعبي عبر ممثلين للوزارة في كل إمارات الدولة، موضحا أن هذه اللجنة معنية بإجراء لقاءات مع الرواة الشعبيين والمعمرين من أجل توثيق مواد تخص الأدب الشعبي والعادات والتقاليد والمعارف الشعبية والحرف والصناعات والفنون الشعبية. كنوز بشرية ترى الباحثة التراثية بدرية الشامسي، التي تستعد لمناقشة رسالة دكتوراه في التراث الشعبي المحلي، أن كبار السن هم كنوز بشرية بالدولة ولابد أن يتم استقاء المعلومات التراثية منهم قبل أن تصل ذاكرتهم إلى الوهن، وهو ما يشكل خطراً كبيراً على الموروث الشعبي المحلي. وتلفت إلى أن الجهود الفردية من قبل بعض الباحثين ومحبي التراث عبر التسجيل مع كبار السن «غير كافية» نهائيا لجمع وحفظ وتوثيق هذا الموروث. وتذكر الشامسي أن هناك مشروعات كبيرة لجمع التاريخ الشفهي توقفت لذا فهي تدعو إلى أن يكون طلبة المدارس والجامعات جزءا فاعلا في عميلة جمع التاريخ الشفهي من خلال عمل لقاءات داخل أسرهم مع كبار السن الموجودين بعائلاتهم، ومن هنا يتحقق أمران الأول هو حدوث أريحية في التواصل مع كبار السن وهو ما يسهل مسألة التسجيل مع هؤلاء المعمرين الذين سيتحدثون بمحبة خالصة ويكشفون ما بداخلهم من كنوز، والأمر الثاني يتمثل في أن تتواصل هذه الفئة مع التاريخ اللامادي ومن ثم تدرك أهميته في تكوين ملامح الشعوب والتأريخ للحضارات الإنسانية بدقة متناهية. خبايا التراث المحلي وبخصوص عملية التسجيل مع كبار السن في مراحلها المختلفة، يلفت الباحث في التراث المهني والحرفي برأس الخيمة سالم الشحي إلى ضرورة أن تجري الحوارات مع المعمرين بالدولة عبر التسجيلات الصوتية والمرئية والفوتوغرافية. ويذكر أنه تم تسجيل العديد من اللقاءات مع رواة محليين إلا أنها لم توثق إلى الآن، وكذلك لم تتحول إلى مواد مكتوبة حتى يطلع عليها بعض الباحثين الجدد، والجيل الحالي متشوق لمعرفة خبايا التراث المحلي ومروياته الشفهية، مشيرا إلى أن أعداد الباحثين الموزعين على إمارات الدولة قليلة جداً ولا يمكن أن تكتمل عناصر البحث إلا في بإطلاق حملات تسهم في اختيار عدد وفير من الباحثين المحليين لإجراء لقاءات موسوعة مع المعمرين قبل أن نخسرهم ونخسر معهم جوانب مهمة من الموروث الشعبي المحلي.
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©