الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السعادة المفقودة

السعادة المفقودة
2 ديسمبر 2010 20:31
الفقر جعلني أرى السعادة في المال والثروة والممتلكات، ولم أكن مثل الكثيرين استكين، شحذت همتي وقوتي وشبابي وكل قدراتي، بين عمل هنا وحرفة هناك، وتجارة وشطارة ولا مانع من الإقدام على المغامرة حتى جرت الأموال في يدي، ولم أجد أمامي أفضل من ابنة عمي التي تعرفني وأعرفها وتربيت معها، وعشنا أيام الطفولة والصبا والشباب، نتبادل الارتياح والإعجاب، وإن لم ترق مشاعرنا إلى مرتبة الحب، وما نحن بحاجة إلى الهيام والأحلام إنما للشراب والطعام والملبس والمنام، تزوجتها والسعادة ترفرف علينا، كانت قدم السعد والبشر، زادت أموالي وتكاثرت ونمت ثروتي بالحلال الطيب، ورزقني ربي المال والبنين، ورزقت بثلاثة أولاد كانوا قرة عيني حتى امتلكت مصنعا كبيرا، يضم عشرات المهندسين والخبراء ومئات العمال، وأصبحت رجل أعمال ناجحاً، وتولت زوجتي شؤون البيت وتربية الأبناء وتعليمهم وتحملت هذا الجانب عني من دون أن اطلب منها أو أثقل عليها، وحملته راضية سعيدة على اكمل وجه، تتابع دروس الأبناء ومدارسهم وملابسهم وكل احتياجاتهم، وتقوم بكل صغيرة وكبيرة تخص الأسرة، كل ما في البيت منظم بإتقان ودقة، طعامي وملابسي وكل شأني تقوم به اكثر مما أحلم، لذا تركت لها هذا الجانب لتتحمله وتتولى مسؤولية تربية الصغار، وتفرغت تماما لعملي في إدارة المصنع الذي يكبر أمام عيني ويتسع نشاطه، فانتقل من سعادة إلى سعادة ومن سرور وارتياح إلى مثلهما بين البيت والمصنع. وتمر السنون سريعة ويكبر الأبناء ويلتحقون بالجامعة ويتخرجون في كليات عملية مختلفة، لم افرض عليهم العمل معي في المصنع الكبير، وهم الذين اختاروا أن يكونوا بجانبي وأنا في حاجة فعلية اليهم، وتولوا المواقع القيادية والمسؤولية وتفانوا بكل جهد ووقت في عملهم وحملوا تبعات الإدارة والإنتاج والتعاقدات وغيرها، وأتيحت لهم الفرصة كاملة فأثبتوا جدارة، إلى أن حان وقت الزواج، واختار كل منهم عروسا مناسبة واستقل بحياته في مسكن خاص بعيدا عن الفيلا التي أقيم فيها، والتي لا تخلو يوما من أي منهم ومن أحفادي الذين رزقنا بهم وعشت معهم طفولتي التي لم أعشها من قبل، أقضي ساعات طويلة بين الدمي والمراجيح معهم، وأجد سعادتي وأنا أحملهم على كتفي، وأشاركهم الألعاب البسيطة، قد لا أبالغ إذا قلت إنني ربما استمتع أكثر منهم في بعض الأحيان، فلم اعد كما كنت في السابق مشغولا طوال الوقت، بعدما تولى أبنائي إدارة المصنع ولا أقوم إلا بالإشراف العام الذي لا يقدم ولا يؤخر، حتى بدأت أشعر ببعض الملل من الفراغ، فزوجتي ما زالت في كامل حيويتها ونشاطها واحيانا أرى أنني بلا فائدة في الحياة بعدما كنت مثل النحلة لا أكل ولا أمل. اتصلت بي زوجتي تطلب مني ألا أتأخر اليوم، لأننا قد نستقبل ضيوفا، فعدت في المساء لأجد أضواء الفيلا مطفأة كلها إلا قليلا، اعتقدت أن الجميع نائمون والضيوف لم يحضروا، وكما يحدث في أفلام السينما ما أن فتحت الباب ووضعت قدمي بالداخل حتى أضيئت المصابيح كلها فجأة في وقت واحد، ومعها صوت زوجتي وأبنائي وزوجاتهم وأحفادي يغنون سنة حلوة يا جميل وهناك قطعة «تورتة» كبيرة وعليها شمعة واحدة، وبقدر ما سعدت بالمفاجأة فإنها مثلت لي صدمة فقد اكتشفت أنني تخطيت الستين وبدأت اللعب في الوقت الضائع الذي لا فائدة ترجى منه، لم استطع إخفاء مشاعري هذه وفشلت في السيطرة عليها، حتى تسللت من بينهم بعد دقائق متجها نحو الحمام، ألقيت نظرة إلى نفسي، لقد كانت صدمتي في محلها، لقد تركت السنون آثارها على وجهي، وظهرت عليه التجاعيد، وزحف «الصلع» إلى رأسي فلم يبق به إلا شعيرات على الحواف كلها بيضاء، حتى قوتي وهنت، وضعف السمع والبصر، صحيح إنني لا أعانى أي أمراض، لكن النشاط لم يعد كما كان. أحاطت بي الأوهام والظنون، تململت كثيرا في الفراش ولم يغمض لي جفن، لقد سرقتني الأيام من دون أن أشعر وتسربت سنوات عمري من بين أصابعي رغم ما أنجزت فيها، فقد مرت من دون أن أعيشها، أنظر إلى زوجتي التي راحت تغط في نوم عميق، وأحيانا يصدر منها شخير مزعج، لأجدها هي الأخرى ليست أحسن حالا مني، فقد ترهل جسدها، وزاد وزنها وشاب شعرها، وقل اهتمامها بي، وبعد أن صليت الفجر انطلقت بسيارتي هائما على وجهي في طرق وشوارع، اضرب بلا هدى، وأسير بلا هدف، إلى أن بدأت الشمس ترسل أول أشعتها التي لم تصلني، توقفت بجوار جدول ماء تحت شجرة ظليلة، أراقب جريان المياه بسرعة، تحمل أحياناً بعض القش والزبد، وتتوالد الفقاعات وتموج خلال ثوان قليلة، ولم اشعر بنفسي أيضا وأنا اقضي معظم النهار تحت هذه الشجرة لم أذق طعاما ولا ماء. وقعت فريسة سهلة للاكتئاب، حياتي أصبحت رتيبة مملة بلا جدوى أو فائدة ولم يفلح الأطباء ولا الأدوية في علاجي وإخراجي من هذه الدائرة القاتلة وزاد الطين بلة أنني تلقيت اليوم خبرا سيئا، لقد توفي احد أصدقائي المقربين والذي يصغرني بأعوام وهرعت لألقي عليه نظرة الوداع ولا كون بجانب زوجته وأبنائه الذين اعرفهم جيدا وتربطنا علاقة أسرية متينة وانتهيت من إجراءات الجنازة ثم العزاء وقد سيطرت خواطر الموت على رأسي وانه يقترب مني بل انه ليس بعيدا عني فقد توفي من هو اصغر مني وكأنها المرة الأولى التي يموت فيها واحد اصغر مني إذ أنني لم أتنبه لذلك من قبل مما زاد حالتي سوء. قررت أن أعود لحياتي وانشغالاتي فهذا هو خير دواء ويجب ألا استسلم لهذه العوارض وبينما أنا في مكتبي بالمصنع جاءني من يخبرني بأن أرملة صديقي تريد مقابلتي فرحبت وأذنت لها بالدخول لكن كانت المفاجأة أن هذه امرأة أخرى غير التي اعرفها وبسرعة أخرجتني من حيرتي وأجابت عن تساؤلي قبل أن اطرح السؤال أخبرتني بأنها الزوجة الثانية للراحل تزوجها سرا بعقد رسمي قدمته لي حتى لا اشك في كلامها واثق بما تقول من البداية فألجمتني عن الكلام حتى فرغت من حديثها وهي تطلب مني أن آتيها بحقها وحق هذا الصغير الذي في يدها من الميراث انه ابنه. وعلى الرغم من أن الصدمة كانت كبيرة لزوجة صديقي وأبنائه بعدما علموا بهذه الزيجة لكنني استطعت التوفيق بينهم وإعطاء كل ذي حق حقه وتقسيم التركة حسب الشرع. ومن رحم الأحزان تولد الأفراح ومن المحن تولد المنح فكانت هذه الواقعة سببا لإخراجي مما أنا فيه ورأيت أن اجدد حياتي بامرأة حسناء تعيد إليّ شبابي وتغير نظرتي إلى الدنيا فها هو صديقي قد فعلها من قبل ولم يعرف احد إلا بعد وفاته وهو ليس في المستوى المالي الذي أتمتع به فإمكاناتي اكبر وتفوقه بكثير ومع ذلك حقق لنفسه ما يرغب ولم لا وأنا في مقدوري أن أتزوج فما زالت عندي حيوية بجانب المال واستطيع أن أجعل هذه الزيجة سرا بعيدا عن أسرتي وأصدقائي ومن يعرفونني والمهم أن أعيش وهذا ليس عيبا ولا حراما. لم أجد صعوبة في العثور على ضالتي كانت امرأة مطلقة غاية في الحسن مشرقة الوجه في عينيها حزن دفين يضفي عليها وقارا وحشمة تم طلاقها لأنها لا تنجب ولعل هذا هو سر احزانها الذي لا يعرفه كثيرون غير اسرتها عرضت عليها الزواج كانت لها تحفظات كثيرة ومخاوف لكن التطمينات التي سقتها اليها جعلتها تقتنع ووافقت على ان يكون زواجنا سرا بعيدا عن زوجتي واولادي وابتعت لها شقة فاخرة واثاثا يليق بي وبها وتم الزواج وكأنني شاب في العشرين لم ادخل دنيا من قبل، ولم يسبق لي الزواج وجاءتني السعادة من كل صوب وحدب، وعادت اليّ الحياة وردت اليَّ روحي والدم إلى شراييني وتفانت العروس في خدمتي واسعادي ومنحتها جل وقتي فليس مطلوبا مني اي شيء لأسرتي الأولى وهذا أتاح لي ان ابقى معها معظم الوقت ومعظم الليالي. أما ما لم يكن في الحسبان ولم يخطر لي على بال فإن زوجتي هذه حملت بعد شهرين من زواجنا، اسعدني الخبر اكثر لأنه بدد زحزان زوجتي واقتلعها من جذورها إنها إرادة الله وفي الوقت نفسه فإن أبناء الشيبة أيتام كما يقول المثل فهل يسعفني العمر لتربيته وتعليمه مثل إخوته؟ وجاء إلى الدنيا وهو اصغر من أحفادي بكثير وأغدقت عليه بالهدايا واللعب إلى حد الإسراف والتبذير لأنني أشعر تجاهه بذنب كبير. ويبدو أنني أصبحت صديقا للصدمات لا تريد أن تفارقني فقد كنت اشتري بعض الاحتياجات لزوجتي وطفلي الصغير وبعد أن فرغت من الشراء والاستعداد للخروج من المتجر نظرت فلم أجد الطفل بجانبي فسألت عنه بلهفة وبسرعة جاءني الجواب من البائع: لا تقلق انه هناك مع «ابنتك» وهو يقصد زوجتي ويشير إليها كان كما لو اطلق رصاصة إلى صدري انه زلزال جديد في حياتي ألهذه الدرجة يبدو الفارق بيني وبينها إنها حقيقة لا مراء فيها وكثيرا ما يغضب الإنسان من الحقائق ويرفضها او يتجاهلها. هاجمتني تساؤلات ملحة بلا عدد ماذا لو علمت زوجتي وأولادي وأحفادي وزوجات أبنائي؟ ما هو موقف كل منهم؟ ما هي الكلمات التي سيوجهونها إليّ؟ هل سيعاتبونني أم يلومونني؟ هل سيظل الاحترام والوقار؟ هل يلتمسون لي ولو عذرا واحدا أم يقاطعونني؟ ومن المؤكد انهم لن يرحبوا بي ولا بزوجتي ولا ابني لن يعترفوا بأنه أخوهم ولن يتقبلوا هذا التصرف ولن يقبلوا حتى مجرد الحوار بل لا استبعد أن تطلب زوجتي وأم أولادي الطلاق وقد تلجأ إلى الُخلع وهذا ليس في مقدوري رفضه لأنه ليس بيدي وفي أحسن الأحوال قد يطلبون مني تطليق زوجتي الثانية وفي ذلك ظلم للصغير الذي لا ذنب له. الحيرة تأكلني فلم أجد حلا لهذا المأزق الذي وضعت نفسي فيه وإن لم اعلن هذا الآن في حياتي فإنه سيظهر عاجلا أو آجلا فماذا يمكن أن يحدث لو ظهر هذا السر الكبير بعدا وفاتي؟ الله اعلم فهناك أخطاء نرتكبها لا نجد لها حلولا لأنها اكبر منا وتقع في لحظات ويكون العقل في إجازة وعادت إليّ حالة السهد والأرق وخاصمني النوم وأنا أتوجس خيفة من سوء العواقب. صحيح أن كل ما فعلته في حياتي حلال لكنه غير مناسب من كل النواحي وقدري أن ابحث عن السعادة وعندما أجدها تضيع من بين يدي لقد ظلمت نفسي ولا أريد أن أتمادى في ظلم الآخرين وهم أقرب الأقربين.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©