الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بين نارين

بين نارين
8 سبتمبر 2011 22:36
نحن الآباء نعتقد دائماً أننا على صواب من دون أن ندرك وقد نتجاهل أن هناك متغيرات وظروفاً مختلفة بين الأجيال، ونفرض أراءنا ونعتقد أننا نفهم أكثر منهم بحكم الفارق في العمر والخبرة الحياتية وحكمة السنين، والأهم من ذلك من فرط خوفنا على أبنائنا نتدخل أكثر من اللازم وربما نجبرهم أو نقهرهم على اختيار أشياء ونحن نظن أننا نحسن صنعا، فالإنسان لا يريد أن يكون أحد في الدنيا كلها أفضل منه إلا ابنه أو ابنته. وعندما أتحدث عن الأبناء فإنني أقصد الذكور والإناث، بل إن الخوف على الإناث ومستقبلهن يفوق الخوف على الذكور بكثير. بداية أقر بأن أبي لم يتدخل في حياتي بالأوامر أبداً وإنما كان يضع أمامي النصائح والاختيارات ويوضح لي الطريق ثم يترك لي اتخاذ القرار بمحض إرادتي، علماً بأن أبي لم يحصل إلا على القليل من التعليم ولم يحصل على أي شهادات تعليمية، ولكن كنت أشعر بأنه يتصرف أفضل من الحاصلين على أعلى الشهادات، وقد كان أسلوبه في التعامل معي يجعلني دائماً أفكر وأتدبر جيداً قبل اتخاذ أي قرار مهما كان الأمر يسيراً حتى لا أندم عليه خاصة وأنني في النهاية سأتحمل العاقبة وأستطيع أن أقول جازماً إن آراء أبي كانت جميعها على صواب وأنارت لي الطريق وفي كثير من الحالات التي كنت أخالف رأيه فيها كانت النتائج تأتي خاطئة وأكتشف الفارق بين تفكيري وتفكيره ورؤيتي ورؤيته. رغم أنني حصلت على شهادة جامعية في كلية يتمناها الشباب أو معظمهم لأنها من كليات القمة وعملي بعد ذلك في مجال له علاقة مباشرة بالحوار فإنني لم أطبق ذلك في بيتي وخاصة مع أبنائي، ولم يكن ذلك من قبيل التعسف أو الجهل أو القسوة وإنما من قبيل الإفراط في حبهم والخوف عليهم ولم أتعلم الدرس، كما علمني أبي فعندما ارتبطت بعلاقة عاطفية بابنة خالي وأنا أعلم أن هناك خلافات قديمة بين أبي وخالي لأسباب واهية رفض أبي تلك الزيجة واعتقدت أن سبب رفضه هو ذلك الخلاف الذي بينهما، ولكن بعد أن رأى إصراري على موقفي أكد لي أن وجهة نظري ليست صحيحة فهو لم يرفض إلا لأنه يرى أن هناك اختلافات جوهرية في التفكير بيني وبينها ولن يكون هناك اتفاق بيننا خاصة أن كلاً منا نشأ وتربى في منطقة مختلفة علاوة على فارق التعليم بيننا فهي بالكاد حصلت على مؤهل متوسط لا قيمة له وإن كانت تربت في أسرة ميسورة فهي لا تقدِّر معنى أن يكون لها بيت وزوج بمعنى أنها تفتقد القدرة على مواجهة الحياة. ولم أقتنع بشيء مما قاله أبي لأن مشاعر العشق أعمت عيني عن كل ذلك وقد أبدى أبي استعداده للموافقة على زواجي منها، مؤكداً أن هذه حياتي وأنا حر فيها وكل ما يهمه هو سعادتي، بل واتخذ خطوة عملية بأن اصطحبنا وتوجهنا إلى بيت خالي وطلب يدها رسميا وتم إعلان الخطبة وأنا أكاد أطير من السعادة الغامرة التي لم أشعر بمثلها في حياتي وما هي إلا أشهر قليلة حتى وجدتني أمام فتاة أخرى غير تلك التي عرفتها وأحببتها خلال سنين طوال، فقد تحققت رؤية أبي ورأيت وعايشت كل ما توقع وما كان يراه ولم أكن أراه فيها ولأول مرة عرفت الخلافات طريقها إلينا بما لا يمكن تجاوزه أو المرور عليه مرور الكرام ووجدتها كثيرة الكذب ولديها عناد قاتل معي كأننا في سباق على الرأي بلا نقاش بجانب كل ما ذكره أبي من قبل حتى وجدتني أحمل فوق كاهلي جبلاً من الفكر والهم وتسربت السعادة التي كانت وهماً كبيراً وسراباً وأصبح كل ما يشغلني كيف أتخلص من الوعد وأفسخ الخطبة من دون ندم وما الندم إلا على أنني لم أدرك ما قاله أبي ولم أر ما كانت تراه عيناه وإن كان بفطنته أدرك ذلك وساعدني على تخطي تلك الأزمة، فرغم أن تلك رغبتي في الانفصال فإنني تعرضت لجرح في قلبي ظل داميا فترة طويلة. وبعد إضراب لمدة خمس سنوات كنت قد تخطيت الثلاثين وقررت الزواج واستشرت أبي في خطبة فتاة تمت لنا بصلة قرابة من بعيد فإذا به يرحب ويبارك ويثني على الاختيار وبسرعة تمت الخطوبة التي لم تطل فترتها أكثر من ثلاثة أشهر استطعنا خلالها الإعداد للزواج ولم يكن بيني وبين زوجتي أي نوع من العواطف، وكان الاختيار هذه المرة مبنياً على العقل وحده وقد نجح وكان بيننا تفاهم كبير فيما بعد وجاء الحب الذي نريده وعشت مع زوجتي حياة مستقرة ورزقنا الله بثلاثة أبناء فتاة وولدين أحببتهم وهم كل حياتي أخاف عليهم من النسمة ومستقبلهم يشغل كل تفكيري. ابنتي كانت تريد أن تدرس الهندسة لكنني رفضت بشدة لأنني أرى أن هذه المهنة لا تناسب الإناث وفيها صعوبة كبيرة عليها ورأيت أنها في النهاية ستتزوج وقد يؤثر ذلك على بيتها وزوجها والمهم لأي فتاة أن تكون ناجحة في بيتها قبل كل شيء وبأسلوب الترغيب والترهيب جعلتها تلتحق بكلية الصيدلة لأنها مهنة حرة وتمكنها من الحركة بحرية وسلاسة في حياتها كلها وكنوع من الاستجابة لرغبتي قبلت، وهي غير مقتنعة، ولكن جاءت النتائج فيما بعد مخيبة للآمال فقد رسبت في السنة الأولى وواصلت دراستها بعد ذلك بصعوبة وبعد الانتهاء منها لم تكن لديها رغبة في العمل. أما ابني الأكبر فقد رأيت أن يدرس التجارة على عكس رغبته في دراسة الآداب والتخصص في اللغات الشرقية، وكنت أرى أن التجارة ستؤهله لفرصة عمل في بنك أو شركة أو مؤسسة مرموقة وأعتقد أنني استطعت أن أشوش أفكاره وجعلته يتراجع عن اختياره ويلتحق بالتجارة، لكن ما حدث مع أخته تكرر معه تقريباً وإن كان لم يرسب لكن تقديراته كانت ضعيفة في كل سنوات الدراسة. أما الابن الأصغر فقد كان مهووساً بالفن والتمثيل إلى حد الجنون يحفظ كل الأفلام عن ظهر قلب وأراد أن يلتحق بمعهد التمثيل ويرى أن هذا هو المجال الذي يحبه ويريد أن يعمل به، ولكنني بحكم تربيتي ونشأتي في عائلة محافظة رفضت ذلك بشدة ووصلت معه إلى حد الصدام وكنت مصراً على الرفض وعدم النقاش لأن قناعتي كذلك ولا أقبل تغييرها وفي النهاية التحق بكلية نظرية لم يكن يريدها. في النهاية وجدتني مثل الدبة التي قتلت صاحبها فعندما أرادت أن تهش الذباب من على وجهه ضربته بحجر على رأسه فمات وهي تتوهم أنها كانت تخاف عليه وتدافع عنه ولم تقتنع بجريمتها إلا بعد هذه النتيجة المؤسفة وأنا فعلت مثلها ومن شدة خوفي على أبنائي وقفت ضد رغباتهم التعليمية وفرضت عليهم اختياراتي طبقاً لرؤيتي وتفكيري كأنني أختار لنفسي ولم أدرك أن لهم شخصياتهم وحقوقهم التي لا يجب المساس بها ولم أستشعر أن هناك فوارق كبيرة في الحياة مع مرور السنين. أبنائي لم يحملونني نتائج ما حدث لهم ولم يدر بخلدهم ذلك أبداً، ولكن عندما أسترجع الأحداث أدرك أخطائي الجسيمة، ومع ذلك فهم يحاولون الاجتهاد وتصحيح مساراتهم، لكن أجدني أتحفظ كثيراً في إبداء الرأي وأستمع إليهم قبل أن أدلي بدلوي ورأيت أنه من الأفضل أن أعود لطريقة أبي التي كان يتبعها معي وأكتفي بالمشورة من دون اتخاذ قرار أو فرض الرأي. ابنتي التي حصلت على شهادة جامعية عالية تريد أن ترتبط بشاب متوسط التعليم ولديها قناعة تامة بأن هذا هو الذي سيحقق لها السعادة وتصر على اختيارها وترى أنه نهاية الحياة وأنا أرى انعدام الكفاءة بينهما وخاصة أنه بجانب ذلك لا يملك أي شيء والمنطق الذي تتشبث به ابنتي أنها ستكافح معه ولن يكون لهذه الفوارق أي تأثير لأنها لا تقيم لها وزناً ولا تقتنع بوجهة نظري بأنها تنساق وراء عواطفها وتلغي عقلها وابني الأكبر يريد أن يهاجر إلى أوروبا، حيث التقدم والحياة الرغدة واحترام الإنسان وإمكاناته ويرى أن مستقبله سيكون أفضل هناك ويستطيع أن يحقق ذاته وأنا أرى أن هذا حكم عليَّ بالموت فلا أطيق فراقه ولا أطمئن إلى هذه البلاد وابني الآخر يريد أن يخوض غمار التجارة، لكنه لا يملك رأس المال ويخطط لأن يقترض من البنك ما يمكنه من إقامة مشروع تجاري يستطيع من خلاله أن يحقق أحلامه، وأنا أرى أنها مخاطرة كبرى لأنه يضع المكسب ولا يحسب حساباً للخسارة التي أخشاها. أصبحت بين نارين وخيارين كلاهما مر فهل أترك لهم حرية الاختيار هذه المرة وأنا أضع يدي على قلبي وتعتصرني المخاوف من فشلهم أم أعود لأفرض رأيي عليهم لأجنبهم ما أرى أنه قد يدمر حياتهم؟
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©