الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حكمة الطير..

حكمة الطير..
4 سبتمبر 2013 20:39
كما لو أن الصيد بالطيور الجوارح، هو حقاً، واحد من أكثر الفنون والظواهر الحضارية التي تغلغلت في الشخصية العربية والحياة العربية أيضاً. لقد حدث ذلك منذ فترة طويلة من الزمن رغم أن العرب ليس من الثابت أنهم هم أول الأمم التي بدأت الصيد بالصقور، وربما أنه فن ارتبط بالصيد عموماً منذ أن ارتبط الصيد بالإنسان. غير أن العرب قدمت خبرات كبيرة في هذا المجال. ولعل ذلك الكتاب الرائع الذي ألفه عبدالرحمن بن محمد البلدي والذي يحمل العنوان: “الكافي في البيزرة” هو من أهم الكتب المعرفية والعلمية في هذا المجال، إن لم يكن أفضلها وأوسعها إحاطة بهذا الحقل، ليس على مستوى الحضارة العربية بل والتجربة الإنسانية. فلقد استطاع المؤلف في هذا الكتاب أن يحوّل الخبرات الشعبية والممارسات اليومية في هذا الفن إلى علم، وهذا أمر نادر الحدوث. من هنا، فأن يكون هناك مهرجان في أبوظبي يحمل اسم “معرض أبوظبي للصيد والفروسية”، وقد افتتحت فعاليات دورته الحادية عشرة مساء الرابع من هذا الشهر تحت رعاية سمو الشيخ حمدان بن زايد آل نهيان، ممثل الحاكم في المنطقة الغربية بإمارة أبوظبي، رئيس نادي صقاري الإمارات، وبدعم من لجنة إدارة المهرجانات والبرامج الثقافية والتراثية في إمارة أبوظبي.. أن يكون هناك هذا المعرض فإن هذا الأمر يعني أن هناك من يسعى إلى استعادة فن الصيد بالصقور من ذاكرة التاريخ وماضي الناس إلى الحياة الراهنة. ومن جهة أخرى فإن هذه الاستعادة لفن كان حرفة ودُربة يوماً ما تجد جذرها وأصلها في خبرات لا زالت مستمرة في الخليج العربي على وجه التحديد والعالم العربي عموماً. وبهذا المعنى أيضاً فإنه ليس غريباً أن الدورة العاشرة من المعرض في العام الماضي (أبوظبي 2012) بمشاركة 40 دولة ممثلة بـ 630 عارضاً وشركة احتضنتهم العاصمة على مساحة تجاوزت الـ 38 ألف متر مربع، هي المساحة الأكبر في تاريخ المعرض الذي يجمع ما بين أصالة التراث القديم وأحدث ما تقدمه تكنولوجيا اليوم، ويواصل مسيرته الناجحة في الترويج لتراث وتقاليد دولة الإمارات العربية المتحدة، واستقطاب العارضين والزوار من مختلف أنحاء العام. في هذا الملف يسعى “الاتحاد الثقافي” إلى استعادة قبس من ماضي هذا الفن وجلبه من ذاكرة الكتب باختيارات من الكتابين: الطير في حياة الحيوان للدميري من تحقيق عزيز العلي العزي، وكتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ، وتحديداً للملحق الأخير الخاص بسرد عدد من الحكايا والقصص التي تشير إلى الدرجة العالية التي بلغها العرب في ممارسة الصقارة أو فن الصيد بالجوارح. شهادة لمؤيد الدولة الشيزري تعود إلى أواخر القرن الثاني عشر الميلادي وصف الصيد بالصقور: أخبار دول ورجال أيضاً جهاد هديب لم تكن رياضة القنص أو الصيد بالصقور، وهي ما نسميه اليوم بالصقارة والأمس بالبيزرة، رياضة شعبية في أية حال، بل كانت حكراً على “علية القوم”. إنها “رياضة الملوك”، كما كانت الناس تسميها في السابق، بل يمارسها أولئك الذين هم ممن بوسعهم أن تكون بحوزتهم الإقامة في البرّية والسطوة عليها، إذ يتطلّب أمرها إحداث نوع من إخلال التوازن في بيئة ما تشهد عادة هذا النوع من الرياضة بوصفه جزءاً من الحياة الطبيعية، غير أن المعرفة الحديثة، في هذا النوع من الممارسة الإنسانية، رياضة نخبة إلى حد بعيد، أي رياضة نادرة وممارستها لا تحتاج ذلك الوضع الاجتماعي الخاص كما كانت الحال سابقاً، بل يحسب المرء أنها رياضة تحتاج إلى الموهبة والمعرفة والدربة التي صقلتها الخبرة والمقدرة على الاستفادة الموضوعية من الخبرات السابقة خاصة عندما يتعلق الأمر بـ “الصائد” من الطيور، لأن منها ما يصيد فأراً، ما يجعل من العسير الانتظار منها أن تأتي بغزال أو حتى بطير ماء من ضعاف الطير أو بغاثه. أيضاً، إذ ينظر المرء، الآن، إلى تاريخ ممارسة هذه الرياضة، الذي يرقى إلى بدء الممارسة البشرية للصيد ربما، فإنه يجدها ممارسة “شعرية” من نوع ما؛ حاجتها إلى المعرفة بتلك الأبعاد السيكولوجية لفطرة الطير وغريزته وتلك العلاقة النادرة التي تربط المصيد (بفتح الميم) بالصائد من الطير ذاته أكثر من حاجتها إلى سوى ذلك. ربما في ذلك قَدر من “التوحش” سواء من قبل الإنسان الذي يزن هو ذاته علاقة الفريسة بالمفترس ويريد لها أن تكون في صالحه دائماً وممسوكة كل خيوط لعبتها في يده، أما فيما تفعله الطير ببعضها البعض كي تستمر في البقاء. غير أن هذا التوحش، على ما يبدو هو قَدر لا رادّ له ولا محيد عنه أبداً، كما لو أن الأشياء هكذا ينبغي لها أن تكون مثلما أن كانت من أول الدهر. وهنا يخطر على بال المرء هذا البيت/ الحكمة للمتنبي: والظلم من شيم النفوس فإن ذا عفّة فلعلّةٍ لا يظلم وما يقع على الطير؛ يقع أيضاً على الإنسان. ولمناسبة المتنبي العظيم، إن جاز التوصيف، فإن الصقارة لم تكن يوماً ما موضوعاً للأدب العربي، أو غرضاً شعرياً. وأغلب الظن أن الطير إجمالاً لم يذكر، بطبائعه وسلوكه الاجتماعي والخبرات البشرية في ذلك، في الأدب بوصفه حصيلة أفكار ومعارف وخبرات في هذا الحقل بل ظلّ بعيداً عنه لكنه قد دخل، حديثاً، إلى الأدب الشعبي في منطقتي الخليج العربي وبادية الشام، وهو أمر يحتاج إلى البحث والتقصي في هذا المجال. من هنا، فمن النادر أن يعثر المرء على كتاب ليس في أدب الصقارة تحديداً بل في علمها على نحو أوسع، إذ لا مبالغة في القول أن ما أنجزته الثقافة العربية في هذا الحقل وعبر مراحلها المختلفة والمتعددة لا يتجاوز العشرين كتاباً، ما يعني أن كتاب “الاعتبار”، الذي أعادت طباعته دار السويدي الظبيانية بتحقيق للدكتور عبدالكريم الأشتر بوصفه كتاباً في الرحلات العام 2009 لمؤيد الدولة مجد الدين أبي المظفر أسامة بن منقذ الكناني الشيزري والذي أملاه شفهياً أواخر القرن الثاني عشر الميلادي، يمكن اعتباره نادراً في هذا الحقل. وتحديداً، ليس الكتاب ذاته، بل ذلك الملحق في خاتمة الكتاب حاملاً العنوان: “ما حضرته وشاهدته من الصيد والقنص والجوارح”، ويمكن القول إنه ليس من ذلك النوع من الكتب الذي يؤسس لممارسة علمية أو هو نتاج خبرة أدبية خالصة، هو كتاب مشاهدات فيه ذكر وتعداد لرجال دول زمانه أكثر مما فيه من الأفكار التي يشعر المرء أمامها أنها نتاج خبرات. ومع ذلك فهي إن جرى تحديدها وضبطها والنظر إليها باعتبارها تدخل في الحيّز التاريخي لممارسة الصيد والقنص بالصقور فإنها ـ أي الأفكار الواردة في الملحق ـ نادرة في هذا الباب. والملحق بالفعل هو مشاهدات وحكايا عن أشخاص مارسوا الصيد والقنص بالصقور، والأهمية تأتي من أن أحداً من قبل لم يجعل من مشاهداته مادة حيّة لسرد قصصي من الممكن التعامل معه بوصفه مسرودة من نوع ما. أضف إلى ذلك أن أسامة بن منقذ، رغم أهميته السياسية والثقافية في زمانه ومكانه، لم يكن ناشراً ذا ذائقة خاصة كما هي حال التوحيدي أو حتى الجاحظ على سبيل المثال لا الحصر، إنما يبدو أن رغبته الأساسية قد انصبت على أن يقول أو يشهد فيترك أثراً ما في الناس والثقافة، وهذا ما تحقق له. واللافت ها هنا، مفردات أسامة بن منقذ التي استخدمها في توصيف الأشياء وتسميتها، إذ إن مقاربتها إلى ما كان دارجاً على ألسنة العرب آنذاك بمعجم “حياة الحيوان” للدميري الذي ألفه بعد ذلك بقرابة المائتي عام أو أقل، تشير إلى تطابق في المصطلحات والمفاهيم وأسماء الطيور تقريباً. كما أن حكاياه تشير أيضاً إلى ذلك التوحش الذي كان سائداً في الطبيعة بكل كائناتها الجامدة والحيّة، وهذا ما يسبب لدى قارئه في اللحظة الراهنة نوعاً من الادهاش والغرابة. يعني ذلك كله أن “الاعتبار” هو كتاب معلوماتي وتوصيفي أكثر مما أنه كتاب أدبي بأسلوبيته وطريقة تأليفه، وربما لذلك اكتنف غموض بعض من عباراته. ما يلي البعض من تلك الحكايا والمشاهدات لأسامة بن منقذ: وصف الصيد بالصقور والصيد بالصقور بالترتيب: يرسل في الأول المقدَّم، فيعلق بأذن غزال يضربه. ويُرسل العون بعده، فيفعل كذلك. ويُرسل الرابع كذلك، فيضرب كل صقر منها على غزال. فيأخذ المقدم أذن غزال ويفرده من الغزلان، فترجع الصقور جميعاً إليه وتترك تلك الغزلان التي كانت تضربها. وهذه الكلبة تحت الصقور، لا تلتفت إلى شيء من الغزلان إلا ما عليه الصقور. فيتفق أن يظهر العقاب، فتحلُّ الصقور عن الغزال فيمضي الغزال وتدور الصقور، فكنا نرى تلك الكلبة قد رجعت عن الغزلان وقت رجوع الصقور، وهي تدور تحت الصقور في الأرض كما تدور الصقور في الهواء حلقةً، ولا تزال تدور تحتها حتى تنزل الصقور إلى الدعو فحينئذٍ تقف وتمشي خلف الخيل. مع عماد الدين زنكي شاهدت صيد ملك الأمراء عماد الدين زنكي رحمه الله، وكان له الجوارح الكثيرة. فرأيته ونحن نسير على الأنهار، فيتقدم البازدارية بالبزاة ترميها على طيور الماء، وتدّق الطبول كجاري العادة فتتصيد منها ما تصيد، وتخطئ ما تخطئ. ووراءهم الشواهين الكوهية على أيدي البازدارية، فإذا اصطادت البزاة وأخطأت أرسلوا الشواهين الكوهية على الطيور وقد قطعت في نهوضها مسافة، فتلحق وتصيد. وترسل على الحجل فتلحق الحجل في طلوعها من في طلوعها في سفح الجبل فتصيد. فإنها من سرعة الطيران على صفة عجيبة. وشاهدته يوماً ونحن في المعرفة بظاهر الموصل، نسير في حقل باذنجان وبين يدي أتابك بازيار على يده باشق. فطار ذكر دراج، فأرسله عليه فأخذه ونزل. فلما صار في الأرض فرط الدراج من كفه وطار فلما ارتفع انتقل الباز من الأرض أخذه ونزل وقد ثبته. ورأيته وهو في صيد الوحش دفعات، إذا اجتمعت الحلقة واجتمع فيها الوحش لا يقدر أحد أن يدخل الحلقة. وإذا خرج شيء من الوحش رموه. وكان من أرمى الناس. فكان إذا دنا منه الغزال رماه؛ فنراه كأنه قد عثر فيقع ويذبح. وكان كل غزال يضربه في كل صيد أحضره، ينفذه لي مع غلام من غلمانه، وأنا معه. وشاهدته وقد اجتمعت الحلقة ونحن في أرض في نصيبين على الهرماس، وقد ضربوا الخيام. فوصل الوحش إلى الخيام، فخرج الغلمان بالعصيّ والعُمَد، فضربوا منها شيئاً كثيرا. واجتمع في الحلقة ذيب، فوثب في وسطها على غزال أخذه وبَرَكَ عليه فقتل وهو عليه. وشاهدته يوماً ونحن بسنجار، وقد جاءه فارس من أصحابه فقال: “ها هنا ضبعة نائمة! فسار ونحن معه إلى واد هناك، والضبعة نائمة على صخرة في سفح الوادي، فترجل أتابك ومشى حتى وقف مقابلها وضربها بنشابة رماها إلى أسفل الوادي، ونزلوا وجاؤوا بها إلى أسفل يديه وهي ميتة. ورأيته أيضاً بظاهر سنجار وقد جلّوا أرنبا (أثاروها واخرجوها من جحرها)، فأمر فاستدارت الخيل حولها، وأمر غلاماً خلفه يحمل الوشق كما يُحمل الفهد فتقدم أرسله على الأرنب فدخلت بين قوائم الخيل، وما تمكن منها. وما كنت رأيت الوشق قبل ذلك يصيد. غزلان قلعة جعبر كان بين شهاب الدين مالك وبين الوالد، رحمهما الله، مودة ومواصلة بالمكاتبات والرسل، فنفذ إليه يوماً يقول له: خرجت في إلى صيد الغزلان، فاصطدنا منها ثلاثة آلاف خِشف (ولد الظبية آن يولد) في يوم. وذلك أن الغزلان عندهم في أرض القلعة كثيرة. وهم يخرجون وقت ولادة الغزلان خيالة ورجّالة، فيأخذون منها ما قد ولد تلك الليلة وقبلها بليلة وليلتين وثلاث، يقشّونها كما يُقش الحطب والعشب. والدرّاج عندهم كثير في الأزوار، على الفرات، فإذا شُقَّ جوف الدراجة وأزيل ما فيه ثم حُشِيَ بالشعر لا تتغير رائحتها أياماً كثيرة. بسالة طير العيمة ومن أغرب ما صاده الباز، مع الوالد رحمه الله، أنه كان على يده باز غِطراف فرخ، وعلى خليج ماء عيمة، وهي طير كبير مثل لون البلشون (مالك الحزين) إلا أنها أكبر من الكركي: من طرف جناحها إلى طرف جناحها الآخر أربعة عشر شبراً. فجعل الباز يطلبه. فأرسله عليه ودقّ له الطبل، فطار ودخل فيه الباز أخذه، ووقعا في الماء. فكان ذلك سبب سلامة الباز، وإلا كان قتله بمنقاره. فرمى غلام نفسه بالماء بثيابه وعدته، مسك العيمة وأطلعها. فلما صارت على الأرض صار الباز يبصرها، ويصيح ويطير وما عاد يعرض عنها، ولا رأيت بازاً سوى ذلك اصطادها. فإنه كما قال أبو العلاء بن سليمان (ويقصد المعري) في العنقاء: أرى العنقاء تكبر أن تصادا. غنائم البازيار وظرفه وتوالى المطر والهواء علينا أياماً، ونحن في حصن الجسر. ثم أمسك المطر لحظة، فجاءنا عنائم البازيار وقال للوالد: “البزاة جياع جيدة للصيد. ولقد طابت وكفّ المطر. أما تركب؟” فقال الوالد: بلى. فركبنا فما كان أكثر من أن خرجنا إلى الصحراء وتفتحت أبواب السماء بالمطر. فقلنا لغنائم: “أنت زعمت أنها طابت وصحت حتى أخرجتنا في هذا المطر!”، قال: “ما كان لكم عيون تبصر الغيوم ودلائل المطر؟ كنتم قلتم لي: تكذب في لحيتك ما هي طيبة ولا صاحية”.وكان هذا، غنائم، صانعاً جيداً في إصلاح الشواهين والبزاة، خبيراً في الجوارح، ظريف الحديث طيب العشرة قد رأى من الجوارح ما نعرف وما لا نعرف. خرجنا يوماً إلى الصيد من حصن شيزر، فرأينا عند الرحال الجلالي شيئاً. وإذا هو كركي مطروح على الأرض. فنزل غلام قلبه فإذا هو ميت، وهو حارٌّ ما برد بعد. فرآه غنائم قال: “هذا قد اصطاده اللزيق”. فتّش تحت جناحيه فإذا جانب الكركي مثقوب، وقد أكل قلبه. قال غنائم: “هذا جارح مثل العوسق، يلحق الكركي يلصق تحت جناحيه، يثقب أضاعه ويأكل قلبه!”. ويقضي الله سبحانه أني صرت إلى خدمة أتابك زنكي رحمه الله، فجاءه جارح مثل العوسق، أحمر المنسر والرجلين، جفون عينيه حمر وهو من أحسن الجوارح، فقالوا: “هذا اللزيق”، فما بقي عنده إلا أياماً قلائل وقرض السيور بمنسره وطار. الباز الرحيم ومن عجيب ما رأيت من صيد البزاة، أنني خرجت مع الوالد رحمه الله، عُقَيْبَ مطر وقد تتابع ومنعنا من الركوب أياماً. فأمسك المطر فخرجنا بالبزاة نريد طير الماء، فرأينا طيوراً مُمْرِجَةً في مرجٍ تحت شرف. فتقدم الوالد أرسل عليها بازا، مقرنص بيت. فطلع مع الطيور أصاد منها ونزل، فما رأينا شيئاً معه من الصيد. فنزلنا عنده وإذا هو قد اصطاد زرزورا وطبق كفه عليه فما جرحه ولا آذاه، فنزل البازيار خلّصه وهو سالم. حمية الوز والحبارى ورأيت من الوز السمند حمية كحمية الرجال وشجاعتهم. وذلك أننا أرسلنا الصقور إلى رفّ وز سمند ودققنا الطبول. فطار ولحقت الصقور تعلقت بوزة حطتها من بين الوز ونحن بعيد منها، فصاحت. فترجّل من الوز إليها خمسة ستة طيور يضربون الصقور بأجنحتها. فلولا نبادرهم كانوا خلصوا الوزة وقصوا أجنحة الصقور بمناقيرهم. وهذا ضد حمية الحبارى. فإنها إذا قرب منها الصقر نزلت إلى الأرض، وكيف دار استقبلته بذنبها. فإذا دنا منها سلحت عليه بلّت ريشه وملأت عينيه وطارت. وإن أخطأته بما تفعل أخذها. مصر أيّام الحافظ ورأيت الصيد بمصر. كان للحافظ لدين الله عبدالمجيد أبي الميمون رحمه الله جوارح كثيرة، من البزاة والصقور والجوارح البحرية. فكان لهم زمام يخرج بهم في الجمعة يومين، وأكثرهم رجّالة على أيديهم الجوارح. فكنت أركب يوم خروجهم إلى الصيد لأتفرج بنظر صيدهم. فمضى الزمام إلى الحافظ وقال له: “إن الضيف فلاناً يخرج معنا؟ كأنه يستطلع أمره في ذلك. فقال لي: “أخرج معهم تفرّج على الجوارح”. فخرجنا يوماً، ومع بعض البازارية باز مقرنص بيت (الذي يحبس في البيت دون الصيد حتى يطلع ثانية ريشه الذي سقط)، أحمر العينين. فرأينا كراكي فقال له الزمام: “تقدم إرم عليه الباز الأحمر العينين!” فتقدم رماه وطارت الكراكي، فحلق منها واحد على بعد منا فحطه. فقلت لغلام لي على حصان جيد: “ادفع الحصان إليه،، وانزل اغرز منقار الكركي في الأرض، واكتفه، واترك رجليه تحت رجليك إلى أن نصلك”. فمضى وعمل ما قلت له، ووصل البازيار ذبح الكركي وأشبع الباز. فلما دخل الزمام حدث الحافظ بما جرى وما قلته للغلام، وقال: “يا مولانا! حديثه حديث صياد”، قال: “وأي شيء شغل هذا إلا القتال والصيد؟. وكان معهم صقور يرسلونها على البلاشين وهي طائرة، فإذا رأى البلشون الصقر دار وارتفع، والصقر يدور في جانب آخر حتى يرتفع على البلشون، ثم ينقلب عليه يأخذه. وفي تلك البلاد طيور يسمونها: البحّ، مثل النحام (من طيور الماء على خلقة الإوزة) يصيدونها أيضاً. وطيور الماء في مقطعات النيل سهلة الصيد، والغزال عندهم قليل، بل في تلك البلاد بقر بني إسرائيل (الإشارة هنا إلى الآيات من 67 ولغاية 71 من سورة البقرة)، وهي بقر صفر، قرونها مثل قرون البقر، وهي أصغر من البقر وتعدوا عدواً عظيماً. وتخرج لهم من النيل دابة يسمونها فرس البحر مثل اليقرة الصغيرة وعيناها صغار، وهي جرداء مثل الجاموس، لها أنياب طوال في فكّها الأسفل. وفي فكها الأعلى خروق لأنيابها، تُخرج رؤوسها من تحت عينيها. وصياحها مثل صياح الخنزير. ولا تبرح في بركة فيها ماء. وتأكل الخبز والحشيش والشعير. في حصن كفا وشاهدت الصيد في حصن كفا، مع الأمير فخر الدين قرا أرسلان بن داوود، وهناك الحجل والزرخ كثير، والدراج. فأما طير الماء فهو في الشط، وهو واسع ما يتمكن الباز منها. وأكثر صيدهم الأراوي (طائر يشبه القطا)، ومعزى الجبل، يعملون لها شباكا ويمدونها في الأودية ويطردون الأراوي فتقع في تلك الشباك. وهي كثيرة عندهم وقريبة المتصيَّد، وكذلك الأرانب. وكنت قد مضيت مع الأمير معين الدين رحمه الله إلى عكا، إلى عند ملك الإفرنج فلك بن فلك. فرأينا رجلاً من الجنوية (من مدينة جنوة الإيطالية وكان ذلك في أزمنة الحروب الصليبية) قد وصل من بلاد الإفرنج ومعه باز كبير مقرنص، يصيد الكراكي. ومعه كلبة صغيرة، إذا أرسل الباز على الكركي عدت تحته. فإذا أخذ الكركي وحطّه عضته الكلبة فلا يقدر على الخلاص منها. وقال لنا الجنويّ: إن الباز عندنا إذا كان ذنبه ثلاث عشرة ريشة اصطاد الكركي. فعددنا ذنب الباز فكان كذلك! فطلبه الأمير معين رحمه الله من الملك، فأخذه من ذلك الجنويّ، هو والكلبة، وأعطاه للأمير معين الدين. فجاء معنا فرأيته في الطريق يثب إلى الغزلان كما يثب إلى اللحم. ووصلنا به إلى دمشق، فما طال عمره بها وما صاد شيئاً، ومات. شهرة باز فاره وكان الوالد رحمه الله محظوظاً من الجوارح النادرة الفارهة، وذلك أنها كانت عنده كثيرة، فيندر منها الجارح الفاره، وكان عنده في بعض السنين باز مقرنص بيت أحمر العينين، فكان من أفره البزاة. فوصل كتاب عمي تاج الأمراء أبي المتوج مقلد رحمه الله من مصر وكان مقامه فيها في خدمة الملك الآمر بأحكام الله، يقول: “سمعت في مجلس الأفضل ذكر الباز الأحمر العينين، والأفضل يستخبر المتحدث عنه وعن صيده”، فنفذه الوالد رحمه الله مع بازياره إلى الأفضل فلما حضر بين يديه قال له: “هذا هو الباز الأحمر العينين؟” قال: “نعم يا مولاي” قال: “أيّ شيء يصيد؟” قال: “يصيد السمانة والحرجلة وما بينهما من الصيد”. فبقي هذا الباز في مصر مدة، ثم أفلت وراح وبقي سنة في البرية في شجر الجميز وقرنص في البرية. ثم عادوا فاصطادوه. فجاءنا كتاب عمي رحمه الله يقول: “الباز الأحمر العينين ضاع وقرنص في الجميز، وعادوا اصطادوه وتصيدوا به. وقد أرسل على الطير منه مصيبة عظيمة”. صيد الشواهين وشاهدت يوماً وقد خرجنا معه (يقصد والده) رحمه الله إلى الصيد، وقد استقبلنا رجل، على بعد، معه شيء ما نتحققه، فلما دنا منا وإذا معه شاهين فرخ، من أكبر الشواهين وأحسنها، وقد خمش يديه وهو حامله، فدلاه ومسّ ساقيه ورجليه، والشاهين مدلّى منشور الأجنحة، فلما وصلنا قال: “يا مولاي، اصطدت هذا الطير وقد جئت به إليك”. فسلمه الوالد إلى البازيار، فأصلحه ووصل ما انكسر من ريشه. ولم يخرج مَخبرُه مثل منظره، كان قد أتلفه الصياد بما عمل به. والشاهين هو الميزان (أي شديد الحساسية): أدنى شيء يعيبه ويفسده، وكان هذا البازيار صانعاً مجوّداً في إصلاح الشواهين. كنا نخرج من باب المدينة إلى الصيد، ومعنا جميع آلة الصيد، حتى الشباك والفوس والمجارف، والكلاليب لما ينجحر من الصيد، ومعنا الجوارح والبزاة والصقور والشواهين والفهود والكلاب. فإذا خرجنا من المدينة أدار شاهينين فلا يزالان يدوران على الموكب. فإذا خرج أحدهما عن القصد تنحنح البازيار وأشار إلى النحو الذي يريده فيرجع والله الشاهين من وقته إلى ذلك النحو. ورأيته وقد أدار الشاهين على قطعة من الصلاصل نازلة في مرج، فلما أخذ الشاهين طبقته دقّ لها الطبل فطارت وانقلب عليها الشاهين: ضرب رأس صُلصلة فقطعه، وأخذها ونزل. فدرنا والله على ذلك الرأس فما وجدناه. وأراه قد وقع على بعد في الماء، لأننا كنا بالقرب من النهر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©