الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أبو صالح.. الرجل المرهف صائغ العريش

أبو صالح.. الرجل المرهف صائغ العريش
4 سبتمبر 2013 20:41
أبو صالح.. لا شيء يشبهك سواك، وذاك الطير المعشعش في القمّة الشاهقة.. في الصباح الباكر، تحمل المدية بيد، وفي صدرك قلب يشبه العصفور، ما بين ورقتين، شفيفتين.. وعند قارة النسيج تحط رحالك، وتأخذ نفساً ورشفة من فنجان القهوة، تتبعها بحبّة التمر، ثم تبسمل، ثم تضع الخيط في سَمهِ، وتفرز “الدفرة” في عنق الجريد، تحيك غشاء الصيف بأصابع أشبه بأقلام الحبر، تمضي في الإيلاج حتى نهاية النهار، والابتسامة الشفيفة، تترقرق على شفتيك، الذابلين، مبللة بعرق التعب، ولقمة العيش العصية.. يأتونك من بقاع وتضاريس ينادونك بأحمد الرمسي، واستجابتك الأصيلة، إنشاء الله.. في ذلك الزمان، حقب الوقت العسير، كنت أنت المهندس، والمدرس، والقابس، والنابس، وحارس مهنة سف السعف وتنضيد الجريد، لمن يعرشون عند رمال المراحل البائدة، كنت أنت يا سيدي الحالم، والعالم، والفاهم، والقائم، بواجب الإنشاء والإنشاد، أنت المقلم أظافر النخل المتأقلم مع هوى الشمال، عندما تهب، أشرعته قادمة من أقاصي السماء، متداعية كأنها طيور الأبابيل، على ظهر الخيمة والعريش، وأنت يا سيدي بنصل الحياكة الذهبية، تهذب المعنى، وترتشف مع القهوة العربية، عرق الصيف، وتلعق شفتين متعبتين، ونحنحة الصدر المنهك، تنثر بوحاً أبدياً، وتختزل الزمان في نفس المكان.. أبو صالح.. بالقميص القطني والإزار المخطط تجدل خصلات العريش بأناة وتؤدة، وترتب مفردات النخل، بقريحة عربية ناخت عندها، عاتيات الصحراء، ومداهمات القيظ الرهيب، أنت.. أنت في الدلالة والمغزى، إبن التراب، ومن صلب قرية خيمتها، شراع المعرفة، وعريشها أصل الفلسفة، والجريد أقلام الحبر نسجت ما كان لنائبات التاريخ من أثر، ووتر، وسُحر، وسَحَر، وقدر وضع يده المقدسة، على قلوب الصابرين، مستلهمين من جَلَد الصحراء صلابة ومهابة ونجابة. كنت أنت تخلب الجريد، وتسطر ما بين الأعواد، عود البقاء على أرض شفها الشح حتى، ناخت ركابها، واستعصى على جيادها الصهيل. أنت في الزمن، حكاية، وغاية، وبداية بلا نهاية. أنت في صلب الرواية، معنى وثيمة، وقيمة وشيمة، ونعيم وكليم. أنت الذي أرخت للمكان، وزرعت أوتاد الخيام لأجل الأنام، لأجل أحلام تغط على وسائد السكينة، لا يخذلها عصف ولا نسف ولا عسف. أنت بَدَدّت الحرقة حين ظللت الرؤوس بسحابة أنفاسك الزكية، وبللت الأفئدة، من عرق جبينك، وأخذت من الزمن، أجمله وأكمله.. ما مات يا سيدي، من لون الذاكرة بجميل العقل، وحسن الخصال، ومن كان وصاله في المعنى بذل وجهد، وعطاء لا تحده حدود، ولا تصده صدود.. أنت الذي شيدت وأنشدت، وعرشت وخيمت، وحدقت ما بين شجيرات العهد القديم، وطويت سجل الأيام براحة مبلولة بالتعب وأصابع من نسغ الذهب. مملكتا الخيمة والعريش فماذا قالت عنك شواهد الأيام، وما نطق الزمن، سوى أنك حاضر في الغياب ولم يزل عريش الأمس، تنحت في الذاكرة، حروفه ويحفر في تراب القلب اسم مملكة كان يدير شؤونها رجل نبيل، وفلك دارت حوله النجوم، وحلَّقت إلى جانبه سحب الصيف. فماذا قالت عنك، نخلة قديمة، أهدت سعفها الأخضر لمهرتك المسنة، وباحت بفصاحة الأوفياء، قائلة: هذا الرجل من أولئك الذين نسجوا من الجريد، فساتين الصيف، ومنه أيضاً صوف الشتاء. خيمة وعريش هما، مملكتان في الزمان، وهما فلكان في المكان دارت حولهما، حكاية الوجود وأسطورة الخلود وما غاب في الوجدان من نعيم التذكر، والتفكر، والتبصر، والتأثر، والتحسر، كما وتفسير ما بين سطور العبارات المذهلة.. أنت يا سيدي نقطة الالتقاء ما بين البقاء وأغنيات الصيف. أنت السؤال المجلجل في الصدى، وما فاض في غائبات المكان. أنت نضرة الزمن حين كانت الريح، تجرح الأرض، وتقتلع شريان الخيمة المهزومة، وحين كان العباد يهرعون، من هلع، وجزع، مخضوضين من عراء وهراء ما أبدته الطبيعة.. أنت يا سيدي، المنقذ والمنفذ والآخذ بعين العبرة والخبرة ونبرة الابرة الدقيقة، في أحشاء الخيمة المهترئة.. أنت يا سيدي القابض الرابض عند مرافئ الفكرة النبيلة وأنت المناهض، للخوف، والحيض، والعصف، والنسف. أنت في المكان جلمود صخر، أنت الفخر والكبرياء. أنت البدء والابتداء أنت المخيم في الذاكرة وأنت الحقيقة والاستواء. أبو صالح.. الصالح في الزمان، الطارق في في المكان، النابه في خلايا الوجدان، البحر المتقارب في قصيدة العريش الأولى، وخيمة السهر، على شواطئ النجوم والغيوم والهموم، وعلامة الشتاء المبللة بالمطر، المجللة بعين القمر، الناهلة من حباب الندى عَرَقاً وأرقاً، وقلقاً، وعبقاً، ونسقاً، وشوقاً، وحدقاً، وطرقاً، وحرقاً، وخرقاً، وشبقاً، وغسقاً، وأفقاً وشفقاً. أبو صالح.. في الزمن طائر الأغصان، ومنسق الأشجان، ومطوق الوجدان، وأنت يا سيدي النشيد، والقصيد، والعقد الفريد، والمريد، والعتيد، والتليد، والأكيد، والمجيد، والسديد، وبأس الحديد، ونبس الجريد، وقبس المدى المديد، وحدس القلب والاشتياقات والتنهيد.. أنت الوعد والرعد، والعهد والمهد، والسد والصد، والقد والكد، والحد، والجد والسهد والصهد، والبُعد والنَّد، والسعد، والأمد. أنت.. أنت الحرقة القصوى وذروة الامتداد، ما بين القلب والدرب، وما بين الحدبُ والجدب، أنت القلعة في غضون الماضي، تفشي أسرار الفجيعة ما بين النجوم والغيوم، وأصل الوقيعة ما بين البوح والشح، وأنت الصولة المنيعة، في دياجير الدجى، عندما كانت الخيمة تفكك أضلاعها، ريح مباغتة، ومطر يخر من علٍ، على ظهر القامة الرفيعة.. أنت الجرح، يخضب أعواد الجريد، بأحمر التعب وأنت البوح، يخصب السعفات بإبرة وخيط، وأن المحيط يعانق خصر الخيمة، بذراع، ومتاع، وأنت المرقرق ثوب الخيمة بأنفاس كالنسيم وإحساس، وذوق قليم.. أنت الذي رحلت وودعت الخيمة، تغالب وحشتها، وعزلتها وهجران من نسوا الحصير وسجادة الصوف.. أنت الذي غادرت قبل موعد انتهاء العمر، لأنك على يقين أن الزمان ليس الزمان وأن المكان ليس المكان، وأن الإنسان غشيته غاشية، يوم انقلب مركب الحياة اثر موجة عارمة، غيّرت الملامح، وبدلت أثواب النساء وعطرهن، وبخور الصباحات الباكرة.. أنت يا سيدي الذي ودعت المنشار والمسمار وفقأت سم الخياط بعدما قاربت معيريض، على ولوج غرفة الإنعاش ورؤية ما يراه النائم ساعة الغيبوبة، وبعد أن لبس الأصحاب ثياب ما قبل الغياب، في مرحلة اليباب وبلا عتاب سارت القوافل تبحث عن وعيها المؤجل في شؤون وشجون المعنى الباهت، ومفردات المرحلة النازفة شتاتاً.. نعم يا سيدي، لم تزل الخيمة التي نسجت ضلوعها من خاتم يدك، تحن إلى الصوت الشجي، وتبلل الأرض بدمعة الفراق، وباشتياق تشكو الرفاق، والذين ضاعوا في غياهب الزمن الهارب باتجاه فراغات مفزعة.. دفء «البادجير» نعم يا سيدي، لم يزل العريش، يدفئ “البادجير” بهواء البحر الرطب، ويعبق ثوب النساء الساحرات برائحة الشطآن المهجورة والمقبورة والمبتورة، والمكسورة، والمأسورة، والمطمورة، خلف أسوار الإسمنت الفظيع.. نعم يا سيدي لم يزل قيظ الأمس، يهديك السلام وأحلى الكلام، وما هدل به الحمام، ويسرد قصة الذين باتوا خلف أطواق وأشواق مجحفة لا ترعى ولا تسعى، بل تنعي أشياءنا المتسربة بين أصابع شرورنا المريع. أبو صالح.. قال عيسى بن مريم: يأتي من بعدي نبي اسمه أحمد.. وفي النبوءة بلاغة السماء، ونبوغ الذين أعطوا الأرض، من عرقهم ومن دمهم، ومن كدهم وكدحهم، الذين غابوا في الليل، تسوطهم الفكرة الأبية، والذين حضروا في النهار، يسكبون الفكرة عبرة ونبرة وخبرة وديرة، الذين يصنعون من الجريد موئلاً، ومنهلاً، وسهلاً، وعدلاً، وجذلاً، وبذلاً، وقبلاً، الذين يكسبون الحياة، معاني النشوء والارتقاء، الذين سبقوا داروين في نظريته القديمة “أصل الأنواع”.. أبو صالح، في غيابك تحضر الفكرة مزنجلة بخلاخيل التذكر، ونتذكر رجل من ذلك الزمان، من صلبه بزغ الطبيب والمهندس، وأعطى في الدرس فصولاً من معرفة وفلسفة الإيثار وأبدى حسن التصوير والتنوير، ومنح حياتنا أعشابها اليانعة. أنت يا سيدي بيد أراك تكتب رواية العريش وبلسان تبوح ما حكته الخيمة للذين اتكأوا على مساند الأحلام الوردية، يوم كان الزمان، يقدم العيون ببساتين الزهر، وما جاد به الدهر، من تمر وحبر، وصبر.. أنت يا سيدي في الغياب قيثارة ومنارة، وجذوة الضوء تحيط بجباهها وتكحل رموشنا بلون البهاء، والصفاء، والضياء، وتعطينا ما أعطاك الله من صدق النوايا، والثنايا والطوايا والسجايا.. أنت يا سيدي في الغياب عتاب أزلي لزمن مر من هنا بدون استئذان وسار يسحب ذيول هزيمته، خلف عباءات جزت الأجساد كأنها مشارط النَفَس الأخير.. أنت يا سيدي في الخضم الرحب، تبدو النجمة الوارفة بالضوء تحصي عدد الأحياء الأموات، وتستدعي الوعي الغائب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©