الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«جيتانجلي» أو قرابين الغناء

2 سبتمبر 2015 23:22
لقد خلقتني لانهائيّاً.. تلك كانت مشيئتك. هذه الكأس القربانيّة الرّقيقة إنّك لاتني ترتشف منها المرّة تلو الأخرى كيما تمنحها على الدّوام رحيق الحياة الأبديّة. لقد عبرت بهذا المزمار الصّغير من القصب التّلال والوديان.. ونفخت فيه أناشيد متسرمدة بالبعث في دورة الأكوان. وببركة لمسة من يديك.. ينفلت قلبي من قيود أسره في سماوات الفرح الأعظم لينساب فيضاً قدسيّاً في طلسم الأسرار. إنّ عطاياك إليّ لا تنقضي.. إلّا أنني لا أمتلك سوى راحتيّ الضئيلتين للإمساك بها. والأزمنة في سديم الزّوال لا تلبث أن تمّحي.. إلّا أنّك تهرق لي.. وفي قلبي ثمّة أبداً مكان ينتظر أن يمتلئ. *** عندما تأمرني بالغناء أشعر بقلبي يتلاشى ولهاً في حميّا التّيه. وحين أتأمل خاشعاً وجهك تغشى نقب الدّموع عينيّ الذّاهلتين إليك. كل الظّلال الوحشيّة والأصداء المتنافرة في حياتي تنصهر في تناغم عذب في ضوء موسيقاك اللّامتناهية. ويطلق عشقي جناحيه السّماويين كطائر ثمل بلازورد الرّحيل الشّفقي في طوافه فوق البحار. إنّني أعلم بأنّك تطرب لغنائي.. وأعلم أنّني بالغناء وحده ألج عتبات التّجلي حيث ألامس بخفق أجنحة تسابيحي المتبتّلة أطراف قدميك التي ما كنت آمل في الوصول إليهما. وإنّني في خدر الدّوار أنسى نفسي.. فأناديك في نشوة السّكر: أيّها الرفيق.. أنت يا مولاي. *** كيف يتردد صوتك بالغناء يا مولاي فأنا لا أعلم ذلك. إلا أنني في ابتهال الدهشة الصموت ألقي السمع أبداً إلى وقع غنائك. إن أنوار موسيقاك تضيء وجه العالم وهي تعزف على أوتار السماوات ترانيم الحياة الخالدة والتموج الأبدي لفيض ألحانك القدسية يتدفق منهمراً من قلب الصخرة الصماء. إن قلبي يود لو يهب نفسه في سدير غنائك.. ولكنه عبثاً يسعى إلى ملامسة صوتك.. ولسوف أتكلم.. إلا أن كلماتي لن تتساوق مؤتلفة كانثيال النغم الشجي الرخيم فأتردى في مهاوي الحيرة وأنتحب بالبكاء.. آه يا مولاي.. لقد وسمت قلبي بأبدية موسيقاك التي لانهاية لها. *** يا حياة حياتي، سأسعى أبداً لأن أبقي جسدي طاهراً كيما أشعر بلمسك الحي مخضباً بالروح كل ذرة في كياني. سأسعى أبداً لأن أعزف بفكري عن كل باطل عارفاً بأنك قدس الحقيقة الذي يضيء قبلة الحق في روحي. سأنجو بقلبي من كل الشرور وأبقي حبي متفتحاً في زهرة الأبد مدركاً أن مثواك كائن في المذبح الخفي لقلبي. وسأجاهد نفسي لأن تجلوك في كل ما تقوم به عالماً بأن مشيئتك وحدها ما يهبني القوة في كل عمل. *** أناشدك يا مولاي أن تهبني لحظة ألتمس فيها قربك الحيّ لأستروح بين يديك زهد السّكينة المتبتّل، وسأنهي بعد ذلك كل الأعمال التي شرعت في القيام بها. إنّ قلبي المحتجب عن رؤية وجهك لا يصلى راحة ولا سلاماً، وسعيي الذّاهل إليك يستحيل عناء متّصلاّ في بحر من الشّقاء اللامتناهي. اليوم أطلّ الصّيف على نافذتي في لفح أثيريّ من وهج التّنهدات وهمس التّسابيح المتعالي، فيما كان النّحل يغازل على عجل بتلات الخميلة المزهرة. ها قد أزف وقت الرّاحة، ليرتفع صوتي بالغناء في تهليل نذوري على إيقاع الحياة والخصب، ووجهك قبالة وجهي يختم على قلبي بضوء السّكينة وصمت القنوت في غمرة التّجلي. *** لتقطف هذه الزّهرة الواهنة.. ولتمسكها سريعاً بين يديك قبل أن تبدّدها ريح الزّوال وتتهاوى بتلاتها الغضّة في سديم التّلاشي. وإن لم تجد لها مكاناً في إكليلك القدسيّ فباركها باللّمسة الموجعة من يدك.. واقطفها.. فإني أخشى أن ينقضي النّهار وأنا في غفلة ويكون زمن تقديم القرابين قد انتهى. وإن كان لونها وانياً وعطرها يتضوّع في حياء صموت.. فخذها إليك في نشوة العطاء ودعها منذورة لخدمتك في نسك التّخلي.. قبل أن يدركها الأفول ويكون موسم القطاف قد ولّى *** لقد تعرّت أغنيتي من حليّها.. ونضت عنها غلائل الزّهو وديباج الزّينة التّيهاء لئلّا يفرّق بيننا صليل فتنتها الوثني ويحجبنا عن بلوغ أوج التوحّد العذريّ بين روحينا، فإن رنين صنوج الغواية قد يطغى على الانثيال العذب لنداء مناجاتك الأثيريّة آه يا مولاي الشاعر.. إن خيلاء زهوي كمنشد بين يديك قد انكفأ خجلاً في معبد رؤيتك ولقد جعلت سجودي المتبتّل موطئ قدميك الوضيئتين حيث أمهّد لك دروب حياتي كلها لتمتدّ صوبك في استقامة التّقوى وبراءة اليقين السّرمد.. كقصبة ناي يحدوها التّوق الأبديّ لأن تملأها بروح موسيقاك الخالدة. *** إنّ الطّفل الذي يرتدي لباس الإمارة ويطوّق عنقه بالسّلاسل المذهبّة وجواهر الملك البائد ستفارقه كلّ متعة في الّلعب.. وثقل ديباجته الموشاة سيقيّد كلّ خطوة يخطوها.. فمخافة أن يتعفّر ثوبه بغبار الأرض فإنّه سينتبذ مكاناً قصيّاًّ بمنأى عن الجميع دون أن تتأتى له أدنى حركة أمّاه.. أيجدر به أن يبقى أسير هذا الترّف المضلّل في معزل عن تراب الأرض الخصيب؟ أفما تحرمينه هكذا من المشاركة بقدّاس الإنسانية الموحّدة والاحتفال بمهرجان الحياة العظيم؟ *** آه أيّها الأحمق، الذي يسعى لأن يحمل نفسه على كتفيه، أيّها المتسوّل الذي يستجدي العطاء أمام باب داره. ضع عنك أعباءك كلّها بين يديه القديرتين، هو وحده من يستطيع حمل كلّ شيء، وإيّاك أن تلقي بنظرة ندم حسيرة إلى الوراء. إنّ اشتهاءك يطفئ شعلة الضّياء في مشكاة أنوارك ما إن يناسمها لفح أنفاسه، إنّه مدنّس ويداه ملوّثتان فلا تقبل منه أيّ عطاء، واقنع فحسب بما يهبك إيّاه الحبّ المقدّس *** هنا موطئ قدميك حيث تنعم بالرّاحة يحيا الفقير والمشرّد والضّائع. حين أنحني بالسّجود أمامك فإنّ طاعتي لا تطال ذلك العمق القصيّ حيث تستريح قدماك بين الفقير والمشرّد والضّائع. إنّ الغرور لن يتأتّى له أن يسير في موكبك حيث تمضي أنت بلباسك المتواضع بين الفقبر والمشّرد والضّائع وإنّ قلبي لن يهتدي أبداً إلى تلك السّبيل حيث تؤنس من لارفقاء لهم، بين الفقير والمشرّد والضّائع. *** اعزف عن تسابيحك ودع عنك تراتيل الصّلوات وتواشيح السّماع، فمن ذا الذي تتضرّع له في خلوة تلك التّكايا المعتمة، ومن ذا الذي تدعوه في معبد كل أبوابه موصدة صمّاء؟ افتح عينيك في ضوء الرؤية وستبصر أنّ الله ليس أمامك ههنا. إنّه هناك، حيث يحرث الفلّاح أديم الأرض القاسي، وعلى عذار الطّريق حيث يكدح العامل في كسر الحجارة، إنّه هناك، يرافقهم بأسماله المعفّرة تحت هجير الشّمس ووابل الأمطار المنهمر، فلتخلع عنك عباءة زهدك المقدّس ولتهبط مثله إلى التّراب. الخلاص؟ أين هو الخلاص الذي تحسب نفسك في سبيل الوصول إليه؟ أولم يتعهّد مولانا نفسه في غبطة الرّوح روابط الخلق في رحم التّكوين؟ لقد اتّحد بنا جميعاً وإلى الأبد. أفق من غشية تأمّلاتك، ودع جانباً أزاهيرك وبخور تبتّلك، فما ضرّ لو تلوّث رداؤك وأصبح بالياً؟ اذهب واعتصم به بجهدك الحيّ وصهد جبينك.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©