الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الهند قادمة

الهند قادمة
2 سبتمبر 2015 21:50
الهند قادمة إن لم يكن اليوم فغداً أو بعد غد. إنها العملاق الآسيوي الثاني. وهي صاعدة نحو القمة والمجد لامحالة. وهذا ما توقعه أندريه مالرو منذ أكثر من خمسين سنة. فالهند من أقدم الحضارات في التاريخ وأكثرها عراقة. إنها بلد المليار والثلاثمائة مليون شخص. بلد الروحانيات العميقة وأحدث أنواع الاختراعات التكنولوجية في آن. بلد الأصالة والمعاصرة، التراث والحداثة. بلد المفارقات والتناقضات العجيبة. فهي مشكلة من ثمانية وعشرين دولة، ومن إحدى وعشرين لغة رسمية، وألف وستمائة واثنتين وخمسين لهجة، وأكثر من عشرين ديناً ومذهباً، ومع ذلك تدعى بالاتحاد الهندي! ما الذي يجمعها يا ترى؟ لماذا لا تنهار وتتفكك إلى خمسين دولة؟ لماذا لا تشتعل فيها نيران الحروب الأهلية والمجازر اليومية؟ لأنها أكبر ديمقراطية في العالم. ولأنها قائمة على فكرة التسامح والتعايش لا التعصب والكراهية. وهناك خلفية فلسفية عامة يلتقي على أرضيتها الجميع من هندوس ومسلمين وجانيين وسيخ ومسيحيين الخ.. وهذه الخلفية الفلسفية العميقة تقول لنا بأن الوحدة تكمن خلف التنوع الفوار والهائل للمظاهر السطحية. هذه العقيدة الهندوسية - البوذية العميقة هي التي تمسك الهند فلا تتفكك. وهي التي تمثل التراث العميق للهند وهو أقدم تراث في التاريخ البشري ويعود إلى خمسة آلاف سنة وربما أكثر. والقيم الأساسية للشخصية الهندية تتمثل فيما يلي: البحث عن الحقيقة، أهمية الوحدة فيما وراء التنوع والاختلاف، الزهد في الحياة الدنيا والثروات والوجاهات، الطاعة والقناعة، التسامح وفلسفة اللاعنف، السيطرة على الذات وعدم الاستسلام للانفعالات الغرائزية الهائجة. من الهند إلى الإمارات ينبغي القول بأن المرسوم الحضاري الذي أصدرته الإمارات مؤخراً عن منع الكراهية والتكفير والتمييز العنصري والطائفي ينطبق على الهند تماما. فلولاه لما كان التعايش فيها بين مختلف الفئات أمرا ممكناً. فعلى الرغم من الاختلاف الشديد في الأعراق والقوميات واللغات والأديان والعادات والتقاليد فان الهند استطاعت أن تصهر كل ذلك في بوتقة واحدة وتولد الشخصية الهندية الجامعة. وهذا أكبر دليل على أن الاختلاف يمكن أن يكون نعمة لا نقمة. إنه غنى وثروة للأمة إذا ما عرفنا كيف نفهمه بشكل متسامح، منفتح. أما إذا انغلقنا على أنفسنا وتعصبنا لديننا وطائفتنا ومذهبنا وكفرنا الآخر وشيطناه فعندئذ يصبح الاختلاف لعنة ومصدراً للحروب الأهلية والمجازر. كل شعب من شعوب الهند قدم عطاءه الخاص لهذه الأمة العظيمة. الهندوس قدموا عطاءهم، والمسلمون قدموا عطاءهم، وكذلك الشيخ والمسيحيون والبوذيون الخ.. ونتجت عن كل ذلك الحضارة الهندية الشاملة. والهند مشكلة من ثمانين بالمائة من الهندوس. ولكن هل نعلم بأن المسلمين يجيئون في المرتبة الثانية. فعددهم يحاذي المائة وثمانين مليون شخص. والهند هي البد الإسلامي الثالث في العالم من حيث عدد السكان بعد اندونيسيا والباكستان. ولكنها ستصبح قريبا البلد الأول. وعلى الرغم من بعض الانفجارات والصراعات التي اندلعت بين متطرفي الهندوس ومتطرفي المسلمين إلا أن التعايش هو السائد وهو القاعدة العامة. ناهيك عن أن الإصلاح الإسلامي ابتدأ في الهند على يد السيد أحمد خان (1817-1898) وتلامذته (لا أستبعد أن تطل علينا الأنوار الإسلامية من الهند)، وقد أثر هذا المصلح الكبير على الشاعر والمفكر الإسلامي الشهير محمد إقبال (1877-1938)، وكذلك على أستاذ جامعة شيكاغو وصاحب كتاب (الإسلام والحداثة) المفكر الباكستاني فضل الرحمن (1919-1988). وبالتالي فالهند لم تقل كلمتها الأخيرة بعد بالنسبة لنا نحن العرب. بل وعندها أشياء كثيرة يمكن أن نتعلمها منها. يضاف إلى ذلك أن الهند جارتنا. إنها على بعد مرمى حجر من منطقة الخليج العربي. ويجمع بيننا وبينهم: بحر العرب! وبما أن مركز الثقل العالمي سوف ينتقل قريبا إلى منطقة الشرق الأقصى فإن من مصلحتنا أن نتوجه بأنظارنا نحو الشرق بعد أن توجهنا بها نحو الغرب على مدار القرنين الماضيين. فالغرب الذي سيطر على العالم منذ أربعة قرون ابتدأ يفقد هذه السيطرة مؤخراً كما يقول المفكر الفرنسي المحترم جان كلود غيبو. لقد قام رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي مؤخراً بزيارة تاريخية إلى الإمارات العربية المتحدة. وهي أول زيارة له إلى منطقة الشرق الأوسط. وهذا أكبر دليل على مدى الأهمية التي يوليها للإمارات. ولا يخفى على أحد حجم الجالية الهندية الكبير في الإمارات، وما يحولونه من الأموال إلى بلادهم تقدر بالمليارات سنوياً، وهي ذات أهمية كبيرة بالنسبة للاقتصاد الهندي. يضاف إلى ذلك أن الهند كبلد صاعد وضخم بحاجة ماسة إلى الطاقة البترولية والغازية. ولذا فان علاقاتها بالإمارات هامة جدا. فهي المستورد الثاني للطاقة منها بعد اليابان. من هنا أهمية العلاقات الإماراتية - الهندية. وهي علاقات مرشحة للتطور أكثر فأكثر. الفلسفة الهندية للأسف لا يزال معظم فلاسفة الغرب مستمرين في تكرار الكليشيهات الموروثة عن هيغل وهوسرل وهيدغر والقائلة بأن الفلسفة يونانية - غربية فقط. وهذا يعني أنه لا توجد فلسفة أخرى في العالم غير الفلسفة الغربية! وهنا نجد العرقية المركزية الأوروبية في أعلى تجلياتها. بهذا المعنى لا توجد فلسفة عربية أو صينية أو يابانية الخ.. بل وينكرون وجود شيء اسمه فلسفة هندية. ويقولون لك ما معناه: لا يوجد هناك إلا حكمة شرقية وشيوخ روحانيون دراويش أو ما يدعى (بالغورو). هذا هو الرأي الذي كان سائداً حتى أمد قريب. ولكنهم لحسن الحظ ابتدأوا يغيرون موقفهم مؤخراً، أو قل بعضهم. فقد أخذوا يعترفون بوجود فلسفة عربية إسلامية. بل ويعترف المنصفون منهم بأن العرب كانوا أساتذة لأوروبا طيلة عدة قرون وهم الذين نقلوا إليها فكر أرسطو والفلسفة اليونانية. (انظر أبحاث المفكر الفرنسي آلان دوليبيرا). وكذلك أخذوا يعترفون، على استحياء، بوجود فلسفة هندية متميزة. ويقول لنا البروفيسور فرانسوا شينيه أستاذ الفلسفة الهندية في جامعة السوربون بأن الأبحاث التاريخية الجديدة أثبتت بما لا يدع أي مجال للشك بأنه توجد فلسفة هندية بالمعنى الحرفي للكلمة وليس فقط أديان هندية أو روحانيات شرقية أو حكمة قديمة . والواقع أن التراث الفكري للهند يغطي عدة آلاف من السنوات. ويتفق الكثيرون على القول بأنه لا مثيل له من حيث الغنى والوفرة والعراقة في كل تاريخ البشرية. وبالتالي فعلى عكس ما يزعم هيغل وهوسيرل وهيدغر فان الفلسفة شهدت ولادة أخرى خارج اليونان. وهذه الولادة كانت في الهند. لقد برهنت الهند على أصالة ابتكارية في مختلف المجالات الفلسفية والأدبية والفنية الجمالية كما في مجال الحضارة التكنولوجية المادية وأنماط التنظيم الاجتماعي. وبالتالي فهناك فلسفة هندية ذات خصوصية متميزة. بل وهناك ابيستمولوجيا هندية أي فلسفة علوم خاصة بالمفكرين الهنود. كما أن هناك علوماً إنسانية هندية. ولا يمكن الاستغناء عما أعطته الهند في كافة هذه المجالات. ويمكن القول دون مبالغة أن الفلسفة الهندية تمثل إحدى الإنجازات الكبرى للروح البشرية. وتستطيع أن تنافس الفلسفة الإغريقية والغربية بمجملها. لقد جددت الفلسفة الهندية من رؤيتنا للعالم، والله، والذات الإنسانية، وبقية القضايا الفيزيقية والميتافيزيقية. وبالتالي فحشر الفلسفة الهندية في خانة الاستشراق الاكزوتيكي الغرائبي كما فعل الغرب طيلة القرن التاسع عشر لم يعد شيئا مقبولا اليوم. الآداب الهندية عندما يذكر الأدب الهندي فانه يخطر على البال فوراً اسم رابندرانات طاغور. فهو المقابل لشكسبير عند الانكليز أو لغوته عند الألمان أو لفيكتور هيغو عند الفرنسيين أو للمتنبي عند العرب الخ.. ورغم أن حائز نوبل للآداب عام 1913 كتب روايات عديدة وقصصا قصيرة ومقالات إلا أنه اشتهر أولا كشاعر ضخم. وقد أدهش كبار شعراء العالم من أمثال ويليام بتلر ييتس وعزرا باوند وآخرين. ومن ترجمه إلى الفرنسية؟ الكاتب الشهير اندريه جيد. ولكن بالطبع فان الآداب الهندية لم تتوقف عند طاغور الذي مات عام 1941، قبل أن يكحل عينيه باستقلال الهند عام 1947. ومعلوم أنه ناضل من أجله مثل غاندي. وبالتالي فقد ظهرت عدة أجيال من الكتاب بعد رحيله. ويمكن القول بأن الرواية احتلت مكانة متميزة في الثلاثين سنة الأخيرة. فهي الأقدر على معالجة المشاكل العويصة المعقدة التي يعاني منها بلد ضخم كالهند. من بين الأدباء المعاصرين يمكن أن نذكر فيكرام سيش صاحب رواية (الولد المحترم). وهناك أيضاً الروائية المتميزة أروندهاتي روا التي نشرت رواية لافتة بعنوان: (اله الناس المعدمين). وفيها تضيء لنا مشاكل الهند المتمزقة بين التقاليد العتيقة البالية/‏ والحداثة الغربية. وهي اشكالية موجودة في الأدب العربي أيضاً وبقية آداب العالم الثالث كما يقال. وهناك أيضاً الكاتب شاشي تارور صاحب الرواية التاريخية الضخمة بعنوان: (الرواية الهندية الكبيرة). وهي تشمل تاريخ الهند بحاضرها ومستقبلها، بشيوخها الروحانيين ومثقفيها الحداثيين، بمشاكلها الاجتماعية والدينية والسياسية. وتشبه الى حد ما ثلاثية نجيب محفوظ. وهناك الكاتب أميتاف غوش الذي يصور لنا الهند الفوارة بالطبيعة، الهند التي تجمع بين عبق البخور وروث البقر! انظر روايته:(نيران البنغال). أما الكاتب المبدع أكحيل شارما فيذكرنا بالكاتب الإنكليزي الشهير تشارلز ديكنز. ففي روايته (أب مطيع) يتناول المواضيع الحساسة والحارقة التي تشغل المجتمع الهندي كموضوع الرشوة والفساد، أو موضوع الطائفية، أو موضوع الاختلاط، أو موضوع انتهاك المحرمات.. ولا ننسى الكتاب الهجائيين الساخرين من أمثال أوبامانيو شاترجي الذي أدان في كتاباته البيروقراطية والبيروقراطيين. انظر روايته (أوقات الفراغ لموظف خارج الإطار). أما الكاتب هاري كونزرو فيغطسنا معه في متاهات فترة الاحتلال الإنكليزي للهند وذلك من خلال روايته: (المشعوذ). أما سوجيت ساراف فقد أصدر رواية بعنوان: (عرش الطاووس). وفيها يدين بشدة ظاهرة الانتهازية السياسية في الهند. أما الروائي فيكرام شاندرا فقد أدان في رواياته ظاهرة الفقر المدقع الذي تراه حتى على الرصيف فيصدمك ويتجاوز طاقتك على التحمل وتتمنى ألا تراه مرة ثانية أبدا. وهناك أخيرا الروائي الكبير روهنتون ميستري الذي نشر روايتين عظيمتين بعنوان: (توازن العالم)، و(مجرد مشكلة عائلية). ومسرح رواياته عموما مدينة بومباي، الخ، الخ.. هكذا نلاحظ أنه من رواية لأخرى، ومن كاتب لآخر، فان الأدب الهندي، ككل أدب عظيم، يتحمل مسؤولية الواقع والإشكاليات الكبرى التي تعاني منها البلاد. ونلاحظ عموما أن الأدباء الهنود مفعمون بالذاكرة الاجتماعية لبلادهم العريقة. وهم يمزجون في رواياتهم بين الوقائع الصغيرة والقضايا التاريخية والاسطورية الكبرى بشكل ملحمي بل وشاعري في أحيان كثيرة. من هنا جاذبية أدبهم. وكثيرا ما تنضح رواياتهم بالمناقشات اللانهائية عن حرب التحرير ضد الانكليز، وطرد الاستعمار، ونيل الاستقلال.. ولكنها تمتلئ أيضا بالهموم الحاضرة وبالأخص المشكل الأصولي والطائفي والتزمت الديني سواء على الطريقة الهندوسية أو الإسلاموية. كما أن الأدب الهندي يعكس الصراعات الطبقية والاجتماعية ويدين تقسيم المجتمع الى طبقة عليا من المهراجات وطبقة دنيا من الفقراء المنبوذين. وهناك أيضا مشكلة العائلة وتحرر المرأة والاختلاط. فهذه أيضاً مشاكل تعتبر بمثابة الشغل الشاغل للمثقفين الهنود. وأخيرا فان أساطير الخصوبة والوفرة الفائقة الغزيرة كانت دائما قد غذت أديان الهند القديمة. وعلى نفس المنوال فان أدبها الحالي غزير مفرط الحيوية والنمو وبخاصة في بلد عملاق. انه عبارة عن طاقة خلاقة تخترق قلب الحداثة وتصالحها مع الساحر الخلاب والتراث الهندي العريق الذي يغوص في ليل الأزمان. تفاعل القناعات والتسامح واللاعنف صنعت أمة عظيمة العنف واللاعنف المهاتما غاندي استخدم منهج اللاعنف كسلاح أساسي لتركيع الاستعمار البريطاني وقد ركعه في نهاية المطاف. ولكن مفهوم (اللاعنف) غير موجود إطلاقا في قاموس داعش. بل الموجود هو عكسه تماما. الموجود هو ممارسة العنف الدموي بشكل غير مسبوق كعقيدة أساسية. انظر كيف قتلوا بكل وحشية عالم الآثار الكبير الدكتور خالد الأسعد في تدمر. لكن الإسلام لحسن الحظ لا يختزل في داعش. فالإسلام العظيم له دور كبير في صناعة الحضارة والأمجاد الهندية. وأكبر دليل على ذلك (تاج محل) إحدى عجائب الدنيا السبع. ولا أحد يستطيع أن ينكر أهمية البعد الإسلامي الحضاري للهند. رؤية أخرى للعالم يقول لنا المستشرق ماكس مولير (1823-1900) أحد كبار المختصين بالهند هذا الكلام الرائع: لو سألوني عن أعظم بلد في العالم من حيث جمال الطبيعة الغناء لقلت لهم فورا ودون أدنى تردد: الهند. إنها جنة الله على الأرض. ولو سألوني تحت أي سماء عالية طورت الروح البشرية بعضا من أفضل ملكاتها ومواهبها لقلت لهم: الهند. لقد عمقت الهند التساؤلات الفلسفية المتعلقة بالمشاكل الوجودية الكبرى للإنسان على هذه الأرض. لقد توصلت إلى عمق فلسفي نادر يحسدها عليه حتى أولئك الذين درسوا أفلاطون وكانط. ولو سألوني ما هو البلد في العالم الذي يمكن أن يخرجنا نحن الغربيين من عقليتنا الانغلاقية على الحضارة الإغريقية-اليونانية ومن عرقيتنا المركزية الأوروبية لقلت: الهند. إنها تقدم لنا رؤيا أخرى للعالم، رؤيا مذهلة ما كنا نحلم بها مجرد حلم..
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©