الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ناشر يفضح أسرار عالم النشر

ناشر يفضح أسرار عالم النشر
4 سبتمبر 2013 20:45
ليدي سالفاير Lydie Salvayre مؤلفة هذا الكتاب هي في الرابعة والستين من العمر، وهي من أصل إسباني وأمها أندلسية، وقد هاجرت عائلتها إلى فرنسا واستقرت في مدينة “تولوز” بالجنوب الفرنسي مع مجموعة كبيرة من اللاجئين الأسبان الفقراء الذين فروا من بلادهم إبان الحرب الأهلية الإسبانية الطاحنة، التي أكلت الأخضر واليابس، وهلك بها مئات الآلاف من الإسبان. والمؤلفة ولغتها الأصلية هي اللغة الاسبانية اكتسبت اللغة الفرنسية وتعلمتها، وأصبحت تتقنها وبها كتبت الكثير من رواياتها التي تمت ترجمتها إلى عديد اللغات. وليدي سالفاير هي في الأصل خبيرة في علم النّفس، إلا أنها أصبحت روائية ونشرت عام 1989 أولى رواياتها ثم تتالت مؤلفاتها وتحصّلت على عديد الجوائز الأدبية، وهي متزوّجة من برنار والت Bernard Wallet مؤسّس دار النّشر المعروفة “فرتيكال”(عمودي) والذي فقد فجأة البصر، وأمام هذه المصيبة التي حلّت به والتي قلبت حياته رأسا على عقب أخذ يملي على زوجته كلّ ما كان حبيساً بين ضلوعه من أفكار وآراء ومواقف من الحياة والنّاس، كما سرد عليها ذكرياته ومغامراته فكان هذا الكتاب الّذي حمل في عنوانه الحروف الأولى من اسمه وهي: B ،W. «بورتريه» وإلى جانب نقل المؤلفة لما أملاه عليها زوجها فإنها تقدم في هذا الكتاب “بورتريه” عنه فتقول في وصف شخصيته: “إذا شرب فحدّ الثّمالة، وإذا قطع علاقة بأحد فإلى الأبد، وإذا تألّم فلحدّ الذّوبان جسدا”، فهو مفرط في كل شيء إفراطا حد الشطط، وهي تحلل شخصيته مبينة بأن هذا الشطط والإفراط منبعه حب الحياة الجارف والرغبة الدائمة الجامحة في الارتواء من ينابيعها المتدفقة. برنار والت أحبّ عالم النّشر وعمل به قرابة الثلاثين عاما في دار “غاليمار” ودار “سوي” الشهيرتين، ثم أسس داراً خاصة به، ثمّ أغلقها وترك عالم النشر نهائياً حتى قبل فقده لبصره، وهو يؤكد في هذا الكتاب أنه أدرك من خلال تجربته وممارسته لمهنة “الناشر” أنه عالم تغلب عليه حسابات التجارة والربح والخسارة، وقد فضح خفايا أساليب دور النشر في اللهث وراء الربح المادي مهما كان الثمن وبأي ثمن ولو على حساب القارئ، فالمال هو المحرك ـ حسب قوله ـ لكل دور النشر الفرنسية مهما كان اسمها براقا أو تاريخها عريقا، إلا أن بعض من تعرّف على برنار واليت عن كثب يقول عنه: “إنه يحب أن ينشر ولكنه لا يحب أن يبيع!”. ويتحدث الكتاب عن مأساة الناشر الشخصية بعد أن فقد النّظر بعينه اليمنى، وكانت عينه اليسرى أيضا مهددة، وتدريجياً ويوماً بعد آخر ضعف بصره إلى أن أصبح أعمى. في تلك الفترة التي لم يعد يرى فيها ولد هذا الكتاب من رحم المأساة الشخصية التي عاشها الرجل، وهو المحب للسفر والحركة والتنقل أصبح غير قادر على الخروج من بيته إلا مع مرافق، وأشد ما حز في نفسه وعذبه أنه أصبح غير قادر على القراءة والمطالعة ومشاهدة التّلفزيون. وقد أملى على زوجته إحساسه بالألم والحرمان في سرد يشوبه التأمل في مصائب الدهر ومشيئة القدر. ويكتشف القارئ عند تصفح هذا الكتاب أن الناشر وقبل أن يفقد البصر طاف العالم شرقا وغربا، وسافر وعاش فترة في أفغانستان بحثا عن المغامرة، وهو الآن يدين الحروب والنزاعات ويدعو إلى التسامح بين الشعوب والأمم مهما اختلفت مشاربها وقناعاتها، والخلاصة الّتي خرج بها أنّ العالم اليوم بسبب النزاعات والإرهاب والحروب قد ضاق فرحلة اليوم إلى الهند أو أفغانستان أو إلى العراق ـ وهي الرّحلات الّتي قام بها النّاشر عندما كان في الثّانية والعشرين من عمره ـ أصبحت كما يقول في هذا الكتاب مستحيلة. وهو يرى أنه خلافاً لما نظن فإن العالم ضاق ولم يتسع رغم حركة الطيران وسرعة التنقل من قارة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر. اعترافات ومن الفصول الطّريفة في هذا الكتاب اعتراف النّاشر لزوجته وهو يملي عليها ذكرياته أنّه ـ ومنذ أن كان طفلا ـ يشعر بأنّه طفل قبيح الشّكل، وقد عيّرته أمّه ـ حسب قوله ـ بقبح شكل رأسه، فانطبع ذلك في وجدانه، وكردّ فعل على إحساسه بأنّه طفل غير وسيم انغلق على نفسه متقوقعا على ذاته ثمّ قرّر أن يفرّ من البيت عندما بلغ الثّالثة عشرة من عمره. وهو يعترف أنه فرّ لحثّ أمّه على الاهتمام به أكثر ولزرع الخوف عليه لديها طمعا منه في ان تظهر له بأنّها تحبّه، فقد حصل لديه انطباع بأنّها لم تكن تحبّه أو هكذا خيّل إليه. إنّه كان يرغب في أن يدفع أمّه إلى الصّراخ جزعاً كحيوان انتزع منه صغاره، وكان يحلم عندما فرّ بأن يسمع من أمّه كلمات حب رقيقة ترجوه أن يعود إلى حضنها. لقد رحل وارتحل وسافر وغاب واختفى أملا في أن يرى أمّه ترجوه العودة والحضور. إنّ في فراره من البيت إعلانا عن وجوده. وهو في هذا الكتاب يسترجع ذكرياته تلك ويتصفح منها ما كان مدفوناً في داخله، ويملي على زوجته ورقات من سجل حياته المليئة بأحداث غريبة ومدهشة فقد هاجر الى الهند وهو شاب لم يبلغ العشرين من العمر، ثم حاول تسلق جبال الهيمالايا في نفس تلك الفترة، وقد كان في شبابه بطلا رياضياً في سباق 800 متر، كما أنه كان حاضراً في قلب الحرب الأهلية اللبنانية. والزوجة المؤلفة نقلت بأمانة كل ما أملاه عليها زوجها مع إضفاء لمسة حب منها لزوجها المتألم، وهو شخصية معروفة في الوسط الثقافي الفرنسي باعتبار تأسيسه وإدارته لإحدى أهم دور النشر الفرنسية، كما أنه اشتهر بمواقفه التي تخرج عن المعتاد والمألوف، فقد فضح خفايا عالم دور النشر وكواليسها مما أحرج الكثير من دور النشر الأخرى، ولكنه لم يعد يخشى شيئاً ولم تعد له أية حسابات، وكرجل حر من كل قيد كشف للعموم ما كان خافياً في عالم الكتاب والنشر ورفع الستار عن كل ما كان مسكوتاً عنه. إن شخصية الناشر من خلال هذا الكتاب هي شخصية رجل صارم لا يساوم، كريم، ولكنه قاس أيضاً شديد الغضب وقلق وغير صبور وغير حذر، بل هو مغامر. وبعد أن أصبح شبه أعمى شعر كأنه “أسد في قفص” مما غذى حيرته وأصبح رجلا هشا، وهو ما دفعه إلى البوح لزوجته وهو يملي عليها مادة هذا الكتاب بما لم يبح إليها به سابقاً أبدا، والزوجة استمعت ونقلت وحررت ولكنها أيضا علقت وأضافت. يقول برنار والت إنه لما عاش فترة في لبنان إبان الحرب الأهلية: “كان الخوف من الموت في بيروت لا يفارقني أبدا وحصل في مرات عديدة أن ذهبت إليه خشية أن يفاجئني”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©