الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فنٌّ يعانق الكونية

فنٌّ يعانق الكونية
2 سبتمبر 2015 21:50
جرت دراسة جادة خلال العقود الثلاثة الأخيرة في مجال المنمنمات أولت اهتماماً خاصاً لمسألة خصوصيات المدارس الناشئة إبان فترة حكم السلاطين في الهند. وذهبت إلى تأكيد حرص المسلمين الذين أمسكوا بزمام السلطة في شمال الهند وغربها، في أثناء القرن الخامس عشر، على العناية بالآداب والفنون. فقد ساد بين مختلف الأوساط الحاكمة شغف بالمخطوطات المصوَّرة المورَّدة، علاوة على ذلك تم إنشاء مخابر محلية للإنتاج الفني أيضاً. وإلى حدود تاريخنا الحالي لا يزال الاحتفاظ بنماذج من المخطوطات، مثل مخطوط «الكنوز الخمسة» لنظامي وهو مخطوط يعود تاريخه إلى (1439-1440م)، مودع في المكتبة الجامعية في أوبسالا. في حين يوجد صنفٌ من المنمنمات يتميز بعناصر محددة، يُجمِع الدارسون على انتسابها إلى شمال الهند. لا تزال منها حتى الراهن الحالي أربعة مخطوطات، تُميز منمنماتها الخاصيات التالية: صغر الحجم ومدمجة في فراغ تُرِك في الصفحة للغرض، مناظر لمشاهد داخلية وأناس بملامح جلية، ألوان زاهية تغطي الرسوم، على خلفيات مطلية بألوان متنافرة. وتعرض صفحات المخطوطات الثلاثة غير التامة خاصيات نصادفها أيضاً في مخطوط مكتمل من «الكنوز الخمسة» لنظامي، محفوظ في مكتبة أكاديمية لينشيه في روما. كليلة ودمنة ويعود مخطوط «كليلة ودمنة» الذي أعده نصر الله إلى العام 1492م، وهو من الأعمال المنجَزة في دلهي زمن سلطنة لودي إلى الفترة نفسها. المخطوط في الوقت الحالي مودعٌ في المتحف الوطني في دلهي الجديدة، ويضم ثماني منمنمات من الحجم الصغير، نُسبت إلى رسام فارسي عمل في الهند، وأما مخطوط «بوستان» لسعدي فهو ينتمي إلى سلطنة مالوا، وتحديداً إلى عاصمتها ماندو. أُنجز العمل للسلطان نصر شاه (1500-1511) من قبل الرسام حاجي محمود، والمخطوط محفوظ بالمتحف الوطني في دلهي الجديدة. ورغم أن الطابع محلي وباهت، فإن انتسابه إلى الطراز الفني في هراة أواخر العصر التيموري لا تخطئه العين، وإلى الفترة نفسها يُنسب المجلد الثاني المتبقي من «نعمتنامه»، وهو كتاب في فن الطبخ، مودع بمكتب الهند في مكتبة لندن. وقد أولى عدد من المخابر الفنية التابعة إلى مختلف السلطنات كتاب «لاور شاندا» (قصة شاندا) عناية خاصة، وهو كتاب من تأليف مولانا داوود بين (1377 و1378). بَلَغْتنا منه قرابة خمس نسخ مصوَّرة تتضمن ثماني وستين منمنمة واردة من بوبال، تم اقتناؤها سنة 1957 من قبل متحف أمير بلاد الغال في بومباي، في حين يقبع مخطوط شبه مكتمل في مكتبة جون ريلاند في مانشستر. الحقبة المغولية خلال السنوات الأخيرة أفرد بيش ميلو كليفلاند جملة من الأبحاث إلى المنمنمات المغولية. ويملي علينا تداخل الرسوم التي تميز الرسم المغولي، إيلاء بعض النماذج شيئاً من الاهتمام، في هذا العرض المختصر، ما يسمح لنا بالولوج على مراحل في تاريخ تكوّن هذه المدرسة العريقة وتطوّرها. كان بابر مؤسس العائلة من العارفين الكبار بفنون الرسم، وكان مخطوط «الشاهنامة» المنجز في هراة سنة 1440 من قبل محمد جوكي من جملة مقتنياته الفنية. وحتى تاريخنا الحالي لم يثبت إنجاز مخطوطات مرسومة في أثناء فترة حكمه، بل كان الابن هومايون كلِفاً أشد الكلف بالأجواء الفنية للبلاط الصفوي في تبريز، بعد أن مكث فيه مدة. وعقب اتخاذ هومايون مدينة كابول مقرّاً لحكمه، جلب الرسام الفارسي عبدالصمد، ليُكلّفه لاحقاً بمهمة وكيل رؤساء المكتبات. ويُنسَب إلى عبدالصمد، رسمٌ على القماش بعنوان «أمراء بيت تيمور». يصوِّر المشهد جلسة تعقدها شخصية متنفذة ترتدي زياً من آسيا الوسطى، يُرجَّح أن يكون بابر وهو يستقبل أحد أبنائه. ثمة عنصرٌ مستجد في التصوير، يمكن التنبه إليه من خلال التملي في الرسوم، يتمثّل في دقة التنفيذ والملامح وهو ما لا يبرز في الرسوم الصفوية. لقد تم تجميع ميراث هومايون من قبل ابنه أكبر، ومع أنه كان أميّاً، فقد كان على دراية واسعة بالفنون. شغفُه الكبير بالفنون جلب إليه كثيراً من الرسامين من كل أرجاء الإمبراطورية، ففي كثير من المدن، التي تميز عمرانها بطراز فني بديع يطغى الطابع الهندي، حيث كان يعمل مئات الفنانين في مختلف المخابر يوفرون للبلاط ما يحتاجه من مرافق الأبهة. ويُعدّ العمل الضخم الذي شرع أكبر في إعداده، كتاب «حمزة نامه». والمؤلَّف هو عبارة عن قصة ملحمية تروي مآثر عم النبي حمزة، تطفح بمواقف الشهامة والبطولة التي خاضها البطل، وقد شارك العديد من الفنانين في تنفيذ العمل. ويبلغ عدد المجلدات التي أُعدّت سبعة عشر مجلداً من الحجم الكبير. يحوي العمل قرابة 1400 منمنمة، بأحجام كبيرة، رُسمت على القماش ثم ألصقت على الورق لاحقاً. تتمتع التصاوير بسحر فائق وحيوية فياضة. وفي البعض منها يسهل التفطن إلى تدخل يد الفنان الهندي الكبير مسكين، البارع في رسم الحيوانات، ولا سيما الطيور بأسلوب واقعي. من الأعمال الرائعة مشهد الرهان الذي قبلت بموجبه الفتاة مهردوخت تمرير سهم عبر حلقة وضعت في أعلى المنارة. وتعيد الأشجار والنباتات النادرة للأذهان تصاوير الدكن، ويذكّر شكل الصومعة بطراز أحمدأباد، كما تحيل هيئة الفتيات بأزيائهن الشفافة إلى المنمنمات القديمة في راجستان. خلال العام 1582 أمر أكبر بترجمة الملحمة الهندية «مهابهاراتا» إلى الفارسية، وقد تم الانتهاء من العمل سنة 1589 بعد عنونته بـ«رزم نامه». يظهر من بين الفنانين داسفانت، الذي بات خلال وقت وجيز واحداً من ألمع رسامي عصره، وقد مات منتحراً ببلوغه منتهى المجد والإتقان. رعى أكبر كذلك ترجمة الأصل الفارسي لمذكرات بابر إلى لغة جغتاي التركية، وقد تم الانتهاء من إنجاز العمل سنة 1589. وتعود النسخة الأصلية من مؤلف «بابر نامه» إلى تاريخ 1590 وهي اليوم في عداد الأعمال المفقودة، لكن بعض الصفحات منها لا تزال محفوظة في متحف فيكتوريا وألبارت في لندن. كما نجد عملاً آخر بالغ الأهمية يعود إلى حقبة أكبر متمثلاً في سيرة حياته المعنونة بـ«أكبرنامه»، وقد دوّن هذه السيرة الوزير أبو الفضل، وهي مصوَّرة من قبل كبار الفنانين في البلاط، من بينهم باسوان ومسكين. المخطوط مودعٌ في مكتبة متحف فيكتوريا وألبرت في لندن، ويضم 117 منمنمة تصور وقائع بداية الدولة. وعادة في هذه التصاوير يصعب تمييز يد فنان عن غيره خلال عملية الإنجاز بموجب الاشتغال الجماعي. حوار الفنون ومن بين الرسوم والنقوش ذات المضامين المسيحية التي بلغت البلاط بين العام 1575 و1582، نجد رسوماً للمسيح والعذراء مريم. وبدافع الفضول المعرفي وليس بنية التنصّر، كما أمل المبشرون في ذلك، صاغ أكبر عدة نسخ من المنمنمات. وكلّف من رَسَم له بالألوان المائية بعض المواضع في قصره من بينها خلوة في مخدعه بمشاهد مستوحاة من العهدين القديم والجديد. تعود النماذج الأولى من هذه الأعمال، من حيث الطابع الفني، إلى العام 1580 تقريباً، وهي أعمال مستوحاة من الطراز الغربي ومنجَزَة تحت حوافز هندية. وقد كانت منمنمات أكبر تعكس روح العصر، عراقة النسب وسمو المنزلة، فضلاً عن روح التفهم لرعاياه من غير المسلمين، أما تلك العائدة للابن جهانجهير فهي على خلاف ذلك. فهو رجل رفيع الذوق ورهيف الإحساس، معتدّ بأحكامه في المجال الفني، يحبذ جهانجهير في أعمال مصوريه التركيز على شخصه، كما أنه ميال إلى الجودة منه إلى الكم. وجراء إيمانه بعظيم شأنه وعلو مقامه، آثر جهانجهير التصاوير التي تروي عن مجده وعظيم سلطانه. رسمه رسامه الأثير أبو الحسن، في العديد من المشاهد الرمزية، وهو يقبض على خريطة الكون وميزان العدل، أو يدوس بساقيه عظمة الأسود. ويحوي مصنف «تزک جهانگيري» سيرة جهانجهير، وقد توزعت التصاوير بشكل متفرق على عدة مراقع، مع أن الغلاف يضم اعتلاءه العرش. تابع الأمير خورام الذي بات شاه جيهان (سيد العالم) سنة 1628 فنَّ تصوير الكتب وفق تعاليم والده. وفي الأعمال التي تعود إلى عهده لا نلحظ تغييراً ملحوظاً سوى تطوير بسيط في الأشكال. وفي العام الأول من توليه الحكم أوصى شاه جيهان بإعداد جملة من المخطوطات الشعرية مثل «غلستان» و«بوستان»، وكلاهما من أعمال الشاعر سعدي. وفي المنمنمات الواردة في كلا المصنفين يُلاحَظ الإهمال التام للخلفيات الواضحة وهو تقليدٌ متبعٌ في حقبة جهانجهير، في حين بدأت تطلّ ميولات أكاديمية، ستغدو جلية في الكثير من منمنمات العمل المغولي الضخم «بادشاه نامه». وفي هذا النص ثمة غياب تام للحيوية والتشويق الحكائي المميز للعصور السابقة. انتقيتُ من هذا المخطوط صورة للإمبراطور شاه جيهان في مشهد صيد الأيائل (الصورة: 60). تتوزع الصورة على ثلاثة مستويات أفقية بعلوّ متدرج من الأسفل إلى الأعلى. وفي المحور السفلي، يحضر البطل الإمبراطور في رسم مشهد القنص، وهو جالس على سجادة يسدد من فوقها بندقيته إلى الأمام، وفي المستوى الأوسط نجد رسماً لهضاب جميلة يطغى عليها الطابع الأوروبي البين. في ظلّ حكم السلطان أورانك زيب، بدأت أنشطة اللهو مثل الرقص والموسيقى والرسم تتقلص من البلاط. ما دفع بكثير من الرسامين إلى هجران البلاط. ورغم الانحدار السريع للأسرة الحاكمة عقب موت أورانك، حافظ فن التصوير على حضوره. وتُعتبَر الإمارات الصغيرة في راجستان، وفي الأود، وفي الدكن، الوارث الحقيقي للتقليد المغولي، ففي تلك الربوع وجد الفنانون المسرَّحون ملجأ لهم. ................................... * أستاذة الفن الإسلامي بجامعة روما نص: ماريا فيتوريا فونتانا*
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©