الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عندي مكان!

عندي مكان!
4 سبتمبر 2013 20:48
أبحرت الكاتبة حياة الحويك عطية في كتابها الجديد “حوار الأنهر.. الأردن والدانوب” في العلاقة بين النهرين رغم بعد المسافة الجغرافية، وانتمائهما لحضارتين غير متناغمتين، ويسجل التاريخ صفحات من الدم والدموع، وبخاصة أثناء الحملات الصليبية، ومخرجات الحرب العالمية الثانية. الكتاب نص مفتوح تتقاطع فيه المقاطع الشعرية بالنثرية، قسمته الكاتبة لسبعة أقسام لما للرقم سبعة من دلالة أسطورية تراثية: مقدمة وستة فصول عبر 300 صفحة مزينة بحوالي خمسين لوحة تشكيلية. النص مترجم إلى أربع لغات الإنجليزية والألمانية والروسية والرومانية إضافة للعربية، لأن الإنجليزية هي اللغة العالمية، أما الأخرى فهي لغة الحضارات الرئيسية المطلة على نهر الدانوب. وأصدر الكتاب رواق البلقاء بالأردن على نمط ما يسمى بكتاب الطاولة. وتولى ترجمته وتوزيع النص المكتوب على مجموعة الفنانين التشكيليين من عرب وأوروبيين لترجمته إلى نصوص بصرية على مدى سنة كاملة، فكانت معظم اللوحات التي زينته إضافة إلى بعض اللوحات لفنانين كبار كوجيه نحلة، وجورج بهجوري، وفرغلي، وحازم الزعبي، وسروان، وزيّن خلدون داود بعض لوحات الفنانين الأجانب بحروف عربية، بعضها مستوحى من رمزية الجسر لدى محمود درويش. بين حضارتين تنطلق حياة عطية من تمثل فائق للأسطورة وخلفية معرفية واسعة في التاريخ، والتشكيل، والموسيقى، والشعر، والفولكلور لتجعل من الحوار بين النهرين حواراً شعرياً إبداعياً بين حضارتين، يحمل فكراً واضحاً ورسالة وطنية وإنسانية أبعد ما تكون عن المباشرة، وأسلوباً مبتكراً جاذباً ينم عن ثقافة واسعة ومتنوعة: “كان الوجود ماء وجسد نعامة/ استلت الأسطورة ذراع مردوخ فشطرت كليهما”. والمتصفح للكتاب يكتشف أن الانتماء لحضارة ما يعني الانتماء إلى سلّم معين من القيم والنتاجات الإبداعية من التاريخ بمعناه الثقافي الذي يشكل الخط الفكري المكون للأمة فيما هو أعمق من الخطاب والتاريخ والسياسيين. تقول الحويك: إن نهر الأردن ضاج بالخصب في المعاني حاضراً وماضياً ونهر الحضارة الأولى المرتبطة بمجراه من جبل الشيخ إلى مصبه في البحر الميت مروراً بما أصبح اليوم لبنان وسورية وفلسطين.. والأردن هو عالم التاريخ برؤاه الأولى والمتطورة التي صاغها الإنسان أساطير وفنوناً وعلوماً وزرعاً وطقوساً وفرحاً وكوارث وحروباً عبر الحضارات المتعاقبة، دون أن ننسى الأديان، فهو النهر المقدس منذ حضارات ما قبل المسيحية خاصة الأسينية، وتعميد المسيح وجار أريحا أقدم مدينة في التاريخ، أو كما أطلقت عليها الكاتبة: “جدة الحضارة الأولى/ راعية تأتأة الحضارة الأولى”. من جهة ثانية فإنه نهر الوحدة والمجد العربي، هو نهر العذاب العربي المستهدف من الصراع الوجودي مع المشروع الصهيوني، ومن هنا استدعت الكاتبة في الباب الثالث بعنوان “باب اللون” عملين إبداعيين معروفين: معزوفة “الدانوب الأزرق” لشتراوس، وقصيدة “الدانوب ليس أزرق” لمحمود درويش، حيث تلعب على مفارقة العنوانين لترسم تعبيراً عميقاً عن معاناة الإنسان الفلسطيني التي لا تسمح له برؤية النهر أزرق وهدوء حياة الموسيقي النمساوي الذي يصعد إرث أبيه شتراوس الأول ليصل إلى الدانوب الأزرق. وعن سبب اختيارها لدرويش تقول الكاتبة: إن درويش ليس الشاعر العربي الوحيد الذي استوحى الدانوب، لكن مقاربته لهذا الاستيحاء كانت موحية جداً.. لقد جعلنا نفهم كل شيء بكلمتين “عندي مكان” تقولها الفتاة الدانوبية للرجل الفلسطيني، فالقضية هي المكان وفقدانه أو انتزاعه أو انتزاع إنسانه منه.. هي جوهر علاقة تضاد مركبة “حب وكراهية”، “توق ومرارة”، بين إنسان منّا اسمه محمود درويش أو غيره، وبين إنسان أوروبي امرأة أو غيرها علاقة يترجمها هنا اللون. كما لعبت أيضاً على واقعة تاريخية هي أن الدانوب هو الذي حمل يهود ألمانيا إلى فيينا هرباً من النازية، ومن هناك أرسلوا إلى حيفا وتعمدت إثارة استغلال البعد الديني كذريعة للحروب والصراعات: “من فيينا جاءنا بعضهم إلى حيفا، ومن حيفا لم يحملني النهر بل الجسر”. أما الدانوب فهو نهر العواصم العشر من دونشجن بألمانيا إلى أوكرانيا، هو ـ بحسب الكاتبة ـ شاهد على أقدم حضارات أوروبا في بلغراد. وتضيف الكاتبة: إن الدانوب نهر النهضة الأوروبية في الموسيقى والشعر والتشكيل، وربما كان من المصادفة أنني عايشت حضارة الدانوب من خلال الإبداعات الثلاثة قبل أن أعرف الدانوب مادياً، لذلك عشقته في حين أعتبر نهر الأردن ذاتي أنا كإنسان ومواطن. والملاحظ من خلال صفحات “حوار الأنهر.. الأردن والدانوب” أن حياة عطية تغرف دائماً في أعمالها من الإحساس بالتاريخ والوحدة الحضارية والفنون والآداب لتجسد دائماً حساً وقضايا ذاتية وإنسانية، بل قضية البيئة، حيث نسألها عن الرابط البيئي بين النهرين فتقول: “من ناحية بيئية مادية يتعرض النهران لصراع البقاء لكن صراع نهر الأردن هو أمر آخر.. من جبل الشيخ إلى البحر الميت مروراً بالوزاني وبانياس وطبرية.. هو خط الاستهداف المعرض للاقتلاع والموت بالتجفيف أو التلويث وكأن ارتباطه بصميم حضارة الإنسان هنا يعني أن موته يجب أن يرافق موت إنسانه.. تجفيف بحيرة الحولة وتلويث طبريا، واحتلال جبل الشيخ ومصادرة الوزاني حتى ليكاد النهر نفسه يلحق بالحولة.. لكأننا نكون نحن والأردن أو لا نكون معاً، ومن هنا تقول الحويّك عطية إن إعادة إبداع ما يحمله هذا النهر من حضارة هو محاولة للدفاع عن البقاء. وترى عطية إن الإنسان منذ وجد مشدوداً على خيط رفيع بين الحب والحرب، أو ليست الحرب تعبيراً عن حرب وكراهية في آن واحد؟ لكن من حيث الخصوصية نحن على نهر الأردن كنا حضارة قائمة على قيمة الحب “خصوصية حضارة الماء”، وبعيداً عن الدين أو فيما يتجاوز الدين كان هذا المفهوم جوهر المسيحية، ربما لأنها نشأت هنا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©