السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لقاء الشرق.. بالشرق

لقاء الشرق.. بالشرق
2 سبتمبر 2015 21:55
إنه سؤال يشي بصعوبة الإحاطة بالمسالك الموصلة للجواب عنه، نتيجة قدم الترابط بين الهند والعالم العربي، وأيضا لتشابك العلاقات وتداخلها وتعددها بينهما، لذلك ما سنفعله هو محاولة فك بعض الخيوط والاكتفاء بتحديد الجوانب المتعلقة بالتبادل الثقافي والحوار الحضاري بينهما. أثر العرب على الهند إن الروابط بين العالم العربي والهند وطيدة، والمؤكد أنها موجودة منذ الجاهلية نتيجة رحلات العرب التجارية إليها برا وبحرا، وكانت بالنسبة لهم بلد «العجائب والغرائب»، وزاد من توثيق العلاقة بينهما وصول الإسلام إلى الهند مبكرا لمّا حمله التجار المسلمون أولا إلى هناك، ثم بعد ذلك عن طريق الفتح الإسلامي الذي تم في عصر الوليد بن عبد الملك، ونتيجة انتشار الإسلام بالهند أصبحت الكثير من المناطق تتكلم اللغة العربية التي كانت قبل ذلك لغة التفاهم بين التجار العرب ونظرائهم الهنود ولا زالت إلى اليوم عبارات وكلمات عربية منزرعة في اللغات الهندية، وتبعا لذلك تم ترجيح كفة الثقافة العربية بالهند كما تغلغلت الحضارة الإسلامية هناك وعرفت الازدهار والانتشار فأضحى أثرها لا تخطئه العين. ومن ثم، فإن ظهور مدارس في علوم الدين، كالتفسير والحديث وأيضا علم التاريخ الذي برع فيه العرب أمر بديهي، أما أثر علوم اللغة فقد برز من خلال تبني بعض كتاب الهند لطرق الكتابة الأدبية العربية سواء تعلق الأمر بالشعر أو بالنثر، والمفارقة الأساس أن الحكايات الشعبية العربية، وأهمها ألف ليلة وليلة نالت شهرة كبيرة وانتشارا واسعا في الهند كما أن أحداث وشخصيات بعض حكاياتها هندية. ولم يقتصر التأثير على الجوانب العلمية والأدبية لأنه امتد أيضا إلى العادات والتقاليد والفنون خاصة ما تعلق بالتأنق في الأزياء والتأثيث، ومراعاة الظروف الصحية داخل البيوت من خلال طرق التهوية والإنارة، وبالنسبة للصناعة، فقد أسس المسلمون بالهند مصانع الورق والحرير والنحت والعاج. كما طوروا العمارة فبنوا المساجد والمستشفيات وأنشؤوا الحدائق والبساتين. ومن الآثار الظاهرة على الفنون الهندية، الموسيقى العربية التي أدخلها العرب إلى الهند، وأيضا ما ارتبط بالفن الإسلامي من زخرفة ونحت وتطريز وعمارة، وقد خلف الملوك المسلمون الذين حكموا الهند مآثر ومعالم إسلامية خالدة كوجه من وجوه الحضارة العربية المُشرقة وكشاهد على جمالية الفن الإسلامي وخصوصيته، ومن أروع هذه المعالم وأعظمها المسجد الجامع بدلهي التي اتخذها حكام المسلمين بالهند حاضرة لهم لعدة قرون، و«تاج محل» الذي يعد من عجائب الدنيا السبع وجوهرة من جواهر العمارة الإسلامية، وغيرهما من المساجد والحصون والأضرحة التي تعتبر من العلامات الأكيدة على تغلغل الحضارة العربية والإسلامية بالهند. وقد حكم المسلمون الهند لثمانية قرون ونصف اتسمت بالاستقرار والازدهار، وأكد ذلك الرحالة الذين زاروها في عهد الحكم الإسلامي ودونوا مشاهداتهم وتجربتهم هناك، ومن هؤلاء ابن بطوطة الذي قضى بها عشر سنوات وولاّه سلطانها القضاء. أثر الهند على العرب ظلت الهند عبر التاريخ محملة بذلك الزخم الروحي الشفيف، وكما أنها بلد العطور والبخور والحرير فهي أيضا بلد العلم والحكمة والحضارة والانفتاح على الآخر، وأسماء بعض سلعها موجودة منذ الجاهلية عند العرب كالصندل والكافور، واسم السيف المهند حاضر في أشعار الجاهليين وبعض الكلمات ذات الأصل الهندي وردت في القرآن الكريم كالكافور والزنجبيل، وهي أمور تؤكد قدم العلاقات التجارية بينها وبين العالم العربي. ويرى بعض الباحثين أن المسلمين مدينون للهنود قبل اليونان بتطورهم لتأثرهم بالعديد من معارفهم وعلومهم سواء تعلق الأمر بالطب أو بالرياضيات أو بعلم الفلك أو بالآداب أو بالموسيقى، لأنهم برعوا في هذه العلوم، وحسب ابن النديم فإن أهم علماء الهند الذين وصلتنا مؤلفاتهم العلمية في مجال الفلك والطب هم باكهر، وداهر، وآنكو وأندي.. وغيرهم. ويمكن اعتبار الترجمة من أهم الطرق التي انتقلت من خلالها العلوم الهندية إلى العالم العربي فأسهمت في تشكيل معارف العرب وعلومهم الخاصة، لأنه مع بدء تدوين العلوم عندهم، ارتفعت وتيرة التواصل بين العرب والهنود، فزار الكثير من العلماء العرب الهند لأخذ العلم من مصادره وبالمقابل قدم الكثير من علماء الهند إلى بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وبالخصوص في عهدي هارون الرشيد وابنه المأمون حيث نشطت حركة الترجمة وقتها، فتمت ترجمة العديد من كتب الفلك من الهندية إلى العربية لاهتمام العرب بهذا المجال ولنبوغ علماء الهند فيه، وقد اكتسب علم الفلك شعبية واسعة في العالم العربي وما أوصله لهذه المرتبة شغف بعض الخلفاء به كالخليفة المنصور الذي بنى مدينة بغداد وفقا للقواعد الفلكية وقد كلّف ابن إبراهيم الفزاري الذي درس اللغة السنسكريتية بترجمة كتاب «سدهانتا» وهو أهم الكتب الهندية في علم الهيئة، ويرى البيروني أن هذا الكتاب هو نواة علم الفلك العربي، وتمت ترجمته مع إضفاء تعديلات عليه فتحول عنوانه إلى «السند هند الكبير»، وأعاد تلخيصه محمد ابن موسى الخوارزمي وسماه «السند هند الموجز». وأيضا تمت ترجمة كتب الطب الهندي الذي يسمى «الأيورفيدا» وهو لا يزال سائدا إلى اليوم كنوع من الطب البديل، كما شملت الترجمة مجال الأدب أيضا فتمت ترجمة كتاب كليلة ودمنة من طرف ابن المقفع، وكان قد تُرجم إلى الفهلوية من قبل. وبالنسبة للرياضيات فقد طورها العرب في القرن التاسع الميلادي لاطلاعهم على علم الحساب الهندي، وأخذهم منه نظام الترقيم وهو المعروف من واحد إلى تسعة والذي انتقل إلى الغرب عن طريق الأندلس بعد ذلك ولا يزال معمولا به إلى اليوم. ومن أشهر المترجمين المسلمين الذين ترجموا المؤلفات العلمية الهندية من اللغة السنسكريتية إلى العربية والمؤلفات العلمية العربية إلى الهندية، ابن أحمد البيروني الذي استطاع التعريف بالثقافة والعلوم الهندية في العالم العربي وبالعلوم العربية في الهند، ومن أشهر مؤلفاته «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولةٍ في العقل أو مرذولة» وأطلق عليه المستشرقون اسم بطليموس العرب، وتأثر العرب أيضا بالموسيقى الهندية من خلال اطلاعهم على كتاب الموسيقى الهندي ويسمى «يافر». وأمام كل هذا اعترف الكتاب العرب القدماء بتقدم الهند وتطور علومها وصنائعها، فهذا ابن واضح الإخباري يقول: «والهنود أصحاب حكمة ونظر، وقولهم في النجوم أصح الأقاويل»، أما الجاحظ فيرى بأن: «الهند اشتهرت بالحساب وعلم النجوم وأسرار الطب» والأصفهاني أيضا يؤكد علو شأنهم في العلوم بقوله: «الهند لهم معرفة بالحساب والخط الهندي وأسرار الطب وعلاج فاحش الداء». أما الجاحظ فيقول في رسالته «فخر السودان على البيضان»: «وأما الهند فوجدناهم يقولون في النجوم والحساب، ولهم أسرار الطب والدواء ولهم تفوق في التماثيل، ودهن الصور بالأصباغ وهي التي تتخذ في المحاريب وأشباه ذلك، ولهم في الشطرنج، وهي أشرف لعبة، وأكثرها تدبيرا وفطنة. ولهم السيوف وهم ألعب الناس بها، وأحذقهم ضربا بها، ولهم الرقى النافذة في السموم والأوجاع، ولهم غناء معجب، ولهم الكنكة، وهي وتر واحد يمد على قرعة، فتقوم مقام أوتار العود، ولهم ضروب الرقص»، إنه تلخيص لنبوغ الهنود في العلوم والفلسفة والآداب والفنون والتي انفتح عليها العرب وتأثروا بها وأدمجوها بالعلوم اليونانية ليطلقوا العلوم العربية كبداية لتطورهم وازدهارهم. تواصل لم ينقطع استمر التواصل بين الهند والعالم العربي عبر التاريخ فنتج عن ذلك ميراث ثقافي وحضاري مشترك، وبالخصوص مع دول الخليج العربي التي كانت لها علاقة وطيدة مع الهند منذ فجر التاريخ، ودخلت العصر الحديث أي منتصف القرن العشرين وعلاقتها بها لم تتبدل، والدليل على ذلك أن هذه الدول قبل أن تصدر عملاتها الوطنية كانت تستخدم الروبية الهندية في تبادلها التجاري مع الهند، ومن الدول الخليجية الأكثر حرصا على استمرارية الروابط مع الهند، دولة الإمارات العربية المتحدة، ويتأكد ذلك من خلال تشجيع هذه الأخيرة على التعاون الثقافي بينهما عن طريق التأليف والترجمة والأنشطة الثقافية والفنية المتنوعة، وكل ذلك من أجل التقريب بين الثقافتين، وأيضا تسعى باستمرار لتعزيز العلاقة الاقتصادية والتبادل التجاري الذي يعرف ازدهارا بين الدولتين، فالإمارات أكبر ثالث شريك تجاري للهند بعد الصين والولايات المتحدة، وبها أكبر جالية هندية بالخارج وعدد مهم من الشركات الهندية، وعليه فقد وقعت الدولتان العديد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم من أجل تأكيد التعاون بين البلدين على المستوى الاقتصادي والثقافي وأيضا ما يتعلق بأمن المنطقة ومحاربة الإرهاب. لا شك أن التفاعل وتبادل التأثير والتأثر بين الأمم والحضارات أمر طبيعي وبديهي، ولا يختلف عليه اثنان، وبما أن العلاقات التجارية بين الهند والعالم العربي بصفة عامة وشبه الجزيرة العربية بصفة خاصة قد نشطت منذ فجر التاريخ، فقد واكبتها بالنتيجة علاقات ثقافية وحوار حضاري لا يزال متواصلا إلى اليوم، فما أوجه التبادل الثقافي بين الهند والعالم العربي؟ وما سرّ استمراريته؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©