الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأيدي الصغيرة

4 سبتمبر 2013 21:01
تطوق اليدان عنقي ويلتحم بي الجسم الدافئ طلباً للملجأ، وأحس بخفقان القلب الصغير، سريعاً وهشاً، تسري نبضاته إلي وتبث في الرعشة. ثم ­تنحسر المياه المتدفقة فينظر وراءه بتردد ويمد يديه نحوها. وأنزله فيسير ببطئ وهو يلتفت إلي ويدنو من المياه ليلمسها بحذر، ثم يبتسم ابتسامة تتحول ضحكة صافية وهو ينظر إلي بين الحين والآخر كمن يشاركني بسر. وفي لحظة يتلاشى إحساسك بكيانك ويتركز وجودك في ذلك الكيان الصغير الذي يملؤك ضعفه قوة، وتود لو تحتويه أينما يذهب، وتقيه من نسمات الهواء. أهو ذلك الضعف؟ ذلك الاعتماد التام الذي يمحو كل إرادة و تفكير، ويجعل حواسك كلها مركزة فيه؟ الذراعان وهما تنفتحان على آخرهما وتمتدان إليك في حاجة وثقة مطلقة. كيف تشعر حين يخرج قلبك من صدرك ليخفق مكشوفاً أمام الناس؟ حين تغيب عنك ضجة الدنيا وتنمحي صورها من حولك، وتبقيان وحدكما في الكون. وتتلاشى الخيوط التي تربط أفكارك فلا يبقى إلا إحساس بعيد مبهم، غريزة غامضة لا تدري من أين تأتي، ولكنها تسيرك بقوة قاهرة. وتمسك اليدين الصغيرتين، تحتويهما معاً في كف واحد. وتمسد على الأصابع برفق إذ تحس بهشاشتها بين يديك، وتعرف أن هذا الضعف هو الذي يغذي تلك الغريزة التي تنمو في داخلك وتعطي اتساعاً لوجودك. قطعة من روحك لا تعود ملكاً لك، تخرج منك وتتجسد في كيان آخر لا سيطرة لك عليه. ولا تملك عندها إلا أن تفتح ذاتك للخارج، فيدخل آخرٌ ذلك الفضاء الداخلي، الذي لا يعرفه أحد. ولا تعود وحيداً حتى حين تخلو بنفسك، ويصير الواحد اثنين. أهو امتداد لك في العالم، خيط جديد يربطك بما كان بعيداً عنك؟ ما هو إلا جزء منك يعيش حياةً جديدة، تبقى من بعدك وتضيف إلى وجودك وتغنيه، ولكنك تراها تتجاوزك يوماً بعد يوم. ترى هل يضيفون لحياتنا أم يأخذون منها؟ هذه الشعلة التي تتقد أكثر كل يوم، مالذي يغذي جذوتها؟ أليست منا تستمد وقودها، وهي تمضي في النمو غير عابئة بشيء؟ في زاوية مظلمة يهمس هاجس أنهم إنما يقتاتون بروحنا، يستضيئون بالشعلة المتقدة في داخلنا، والتي لن تلبث أن تخفت شيئاً فشيئاً حتى تنطفئ. ولكن هذا الإدراك لا يملؤك بالخوف، بل يغمرك في اللحظة ذاتها ما يشبه النشوة، تنشدُّ لأن تذوب في كائن آخر ليندمج وجودك بوجوده. كيف تحس حين ترى صورة منك، انعكاساً لذاتك، ليست وهماً في مرآة، بل حقيقة من لحم ودم؟ تسري فيك تلك الرعدة التي لا تدري أبهجة هي أم خوف، حين ينكشف من نفسك ما كان خافياً؛ ما تحسبه سراً صار مكشوفاً لكل الأعين، ما تظن أنك أعميت نفسك عنه يحدق فيك وجهاً لوجه. وترى نفسك كما يراها الآخرون، كما لو سمعت من يتحدثون عنك دون أن يعلموا بوجودك. أهو نبل الشهادة ما يحركنا أم أنها تلك الغريزة ذاتها؟ وهم البقاء وقلق الغياب، ونرجسية أن ترى نفسك كما يجب أن تكون، أن يدركها الغير أخيراً كما تشتهي، أن تُحَب كما يليق بها. وأن تحاول مرة بعد مرة حتى تصل إلى ما تريد من الكمال. وهل الأب إلا صورة ناقصة لولده؟ أم أنهما قطعتان مجزوئتان من صورة واحدة؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©