الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فرنسا... وما وراء قانون «مذبحة» الأرمن

25 يناير 2012
تيموثي جارتون آش أستاذ الدراسات الأوروبية بجامعة أوكسفورد صادق مجلس الشيوخ الفرنسي يوم الاثنين الماضي على مشروع قانون يجرم إنكار جرائم الإبادة الجماعية ضد الأرمن التي وقعت عام 1915، بالإضافة إلى جرائم أخرى يعتبرها القانون الفرنسي جرائم إبادة. ومع أنه سبق للغرفة الصغرى في البرلمان الفرنسي ممثلة في مجلس النواب إقرار القانون المثير للجدل كان يفترض بمجلس "الشيوخ" رفض المصادقة عليه لما يشكله من انتهاك سافر لحرية التعبير، ووقوف في طريق حرية البحث التاريخي، بل إن القانون يعارض تشريعاً فرنسياً يرجع إلى إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر بعد الثورة الفرنسية الذي يعتبر من القوانين المؤسسة للجمهورية الفرنسية، وهو قانون ينص على "التداول الحر للأفكار والآراء باعتبارها من الحقوق الثمينة...". والسؤال الحقيقي الذي تغافل عنه مجلس الشيوخ في مصادقته على مشروع القانون ليس ما إذا كانت الفظائع التي ارتكبت ضد الأرمن مطلع القرن العشرين من قبل الإمبراطورية العثمانية سيئة، أم لا، أو ما إذا كان يتعين الاعتراف بها والإقرار بجسامتها في الذاكرة الأوروبية والتركية على حد سواء؟ فتلك الجرائم كانت بالفعل فظيعة، لكن السؤال الأهم هو هل يتعين سواء بموجب القانون الفرنسي، أو قانون أي بلد آخر تجريم مساءلة ما إذا كانت تلك الجرائم ترقى إلى الإبادة الجماعية؟ وهل البرلمان الفرنسي مهيأ، أو يملك حق تنصيب نفسه محكمة دولية تبت في حوادث تاريخية وإصدار الأحكام على وقائع تورطت فيها بلدان أخرى لا علاقة لفرنسا بها؟ الجواب بالطبع هو لا. والأكثر من ذلك أن القانون الذي أُقر يوم الاثنين الماضي يجرم ليس فقط التشكيك في الإبادة الجماعية للأرمن، بل حتى تقليل من عدد ضحاياها، وهو ما انتقدته "فرانسواز شانديرناجور" من منظمة حرية التاريخ مشيرة إلى أن تجريم التقليل من عدد الضحايا يظل غامضاً حتى بمعايير قانون الذاكرة التاريخية. فإذا كانت الرواية التركية تضع الرقم في حدود 500 ألف أرمني الذين لقوا حتفهم في الصراع المرير مطلع القرن الماضي، والأرمن يجعلون الرقم في مليون ونصف المليون قتيل، فمَ الذي يشكل تقليلاً للعدد بموجب القانون الفرنسي؟ هل نعتبر مثلاً 547 ألف قتيل عدداً غير كاف؟ وهل يتعين اعتقال رئيس الوزراء التركي خلال زيارته الرسمية إلى فرنسا بتهمة أنه لا يعترف بالرقم المحدد سلفاً لعدد ضحايا مجازر الأرمن؟ ولو تعاملنا بحسن نية مع القانون الفرنسي لقلنا إن القانون الجديد هو فقط محاولة نبيلة لإنصاف الأرمن، لكن ذلك سيكون ضرباً من السذاجة، فالعلاقة واضحة ووثيقة بين هذه المقترحات المثيرة التي ترتفع في فرنسا بين الحين والآخر وبين الانتخابات الوطنية المقبلة والتي يلعب فيها الأرمن، بأصواتهم البالغة نصف مليون، دوراً مهماً، فاعتراف فرنسا بالجرائم ضد الأرمن على أنها إبادة جماعية حصلت في عام 2001 بفترة قليلة قبل الانتخابات البرلمانية، كما أن مشروع قانون شبيه بالذي تم إقراره يوم الاثنين المنصرم سبق أن طُرح في مجلس النواب خلال 2006 قبيل انتخابات 2007 ورفضه مجلس الشيوخ، وهو ما يتكرر اليوم مع الانتخابات الفرنسية، لذا من الواضح أن الأمر مرتبط بالانتخابات، ومع ذلك ظهرت أصوات حتى من داخل حزب ساركوزي معارضة للقانون أهمها وزير الخارجية، آلان جوبي، الذي يعرف تداعيات مثل هذا القانون على العلاقات الفرنسية التركية، لا سيما في ظل ردود الأفعال الشديدة الصادرة عن الحكومة التركية. وهكذا اخُتزلت مأساة الأرمن التي يتعين إخضاعها للذاكرة التاريخية والنقاش الحر لتجريب شتى الأفكار والنظريات حتى الأكثر شططاً منها إلى وسيلة للاستغلال السياسي وورقة في يد السياسيين، بل إن القانون الفرنسي يضيق الخناق على المفكرين الأتراك الذين يعتبرون المجازر إبادة جماعية ويعرضهم للملاحقة في تركيا التي أصدرت قوانينها الخاصة نكاية بالرواية الفرنسية. والحقيقة أن هذا الجدل حول القانون الفرنسي الذي يجرم إنكار جرائم الإبادة الجماعية للأرمن ليست سوى خطوة رمزية تحيل إلى أسئلة أكبر تتجاوز الذاكرة التاريخية إلى واقع حرية التعبير، فما هي مثلاً حدود حرية التعبير في عصر الإنترنت الذي لا يترك مجالاً لإخفاء الآراء المعارضة ويجعل من المتابعة القانونية والتضييق أمراً عديم الجدوى؟ ومن يملك الحق لفرض القيود على حرية التعبير؟ هذه الأسئلة وغيرها يتم تداولها حالياً في مشروع تشرف عليه جامعة أوكسفورد تحت اسم النقاش حول حرية التعبير، ومن الأفكار التي تم طرحها للنقاش تبرز واحدة لها علاقة بالذاكرة التاريخية وهي "عدم السماح بالمحظورات لكبح النقاش ونشر المعرفة"، والحال أن قوانين الذاكرة التاريخية مثل تلك التي أقرت في فرنسا لا تحترم هذه الفكرة، والأمر لا يتعلق فقط بالحوادث التاريخية المثيرة للجدل والروايات المتضاربة بشأنها، بل يتعداها إلى مشاكل حرية التعبير بمفهومها العام. لكن هناك أمثلة أخرى تستدعي الفحص والتفكير مثل قرار السلطات الأميركية المختصة عدم نشر أبحاث حول فيروس معدل لإنفلونزا الطيور في الدوريات العلمية خوفاً من استغلال ذلك في الإرهاب البيولوجي، ثم ماذا عن موضوع إنكار فيروس الإيدز الذي إلى فترة قريبة كان يدافع عنه الرئيس السابق لجنوب أفريقيا، ثابو مبيكو، ما تسبب في وفاة مئات الآلاف من الأشخاص لإنكار المرض؟ ففي هذه الحالات يتعين مراجعة مبدأ انعدام المحظورات في حرية التعبير لما لها من تداعيات خطيرة، لكن مع الحرص على عدم وضع سقف على تلك الحرية كما يسعى إلى ذلك القانون الفرنسي سيئ الذكر. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي. تي. إنترناشونال»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©