الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حب حتى الموت

حب حتى الموت
5 سبتمبر 2013 20:15
أحمد محمد (القاهرة) - إن موكلتي بريئة من الجريمة براءة الذئب من دم ابن يعقوب، لا يجوز أساسا أن يتم تحويلها إلى المحاكمة باعتبارها متهمة، لأنها هي المجني عليها، فضاعت حقوقها مرتين، لم تقتل الضحية لأنه هو الذي قتل نفسه بتصرفاته، وقتلها نفسيا ومعنويا، وإن ما حدث وقع في لحظة جنون وقتي، نعم هناك مرض اسمه الجنون الوقتي يعرفه خبراء الطب النفسي، لذا فإنها غير مسؤولة عما حدث لأنها لم تكن في كامل وعيها، لذلك أطالب ببراءتها من التهمة المنسوبة إليها، ولتأكيد ذلك اطلب تحويلها إلى مستشفى الأمراض النفسية لإعداد تقرير عن حالتها النفسية وقواها العقلية وقت ارتكابها الجريمة، ثم يعود بعدها للمرافعة عنها بناء على هذا التقرير. انتهى المحامي من مرافعته المقتضبة التي أبدى فيها مطالبه، وهو لا يريد أن يسترسل على عكس ما اعتاده المحامون من كثرة الكلام والتطويل في محاولاتهم للمزيد من الحديث بالقانون وبروح القانون وبكل الوسائل للحصول على البراءة لموكليهم، وقف وكيل النيابة يعقب معترضا على ما تقدم في جلسة المحاكمة، وقال بحماس شديد إن ما أبداه الدفاع من طلبات لا يرقى إلى الأهمية بمكان، وما هو إلا محاولة لتضييع الوقت والتسويف بلا داع ولا هدف إلا المماطلة التي لا فائدة منها، فمهما مرت الأيام والشهور فإن الحقيقة لن تضيع لأن الأمور واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، فالمتهمة قد تلوثت يداها بالدماء وارتكبت جريمتها مع سبق الإصرار والترصد ولن تفلت بجريمتها ولا بد أن تنال عقابها الرادع، وفوق هذا وذاك فقد اعترفت بكافة وأدق التفاصيل من البداية إلى النهاية، بل وقامت بتمثيل الجريمة في المسرح الذي وقعت فيه. كما قدمت السكين الأداة التي ارتكبت بها الحادث البشع وأراقت دم شاب بريء في مقتبل العمر، ولا يمكن لأي جريمة أن تبرر بأي شكل أو بأسباب واهية، والاعتراف سيد الأدلة. كان الرأيان مختلفين، رأي الدفاع ورأي النيابة لذلك لم تجد المحكمة بدا من الاستجابة لمطالب الدفاع لتحقيق العدالة، ولتكون على بينة من الأمر، كان هذا يجري بينما «إيمان» قابعة في قفص الاتهام بملابس السجن البيضاء، تحجرت دموعها وتتمنى لو بكت كثيرا لتخفف عما يدور داخلها، فمنذ أن وقعت الواقعة قبل ثلاثة أشهر وهي عاجزة عن البكاء مع أن الدموع هي سلاح الأنثى القريب الجاهز دائما لا يحتاج إلى استحضار لأنه متوفر بغزارة، ومع ذلك لم يسعفها في محنتها، كانت تتابع الكلام الذي يدور لكنها لا تفهم معظمه، ولا تدري إن كان سيأتي بنتيجة إيجابية أم لا وبالطبع تمني نفسها بذلك، لكنها لا تأمل في البراءة لأنها بالفعل اعترفت بارتكاب الجريمة وقتل «رمضان» على مرأى ومسمع من العشرات من شهود العيان في الشارع، وهي تعرف أنها ليست مجنونة، وربما تريد أن ترفض تحويلها إلى مستشفى الأمراض النفسية، لكنها لا تعرف كيف تتصرف ولا تدري ما هو في صالحها وما هو ضدها فهي لا تفهم في القانون، وقطع الحارس عليها هذه الحيرة عندما نادى عليها باسمها لنقلها إلى محبسها لاتخاذ إجراءات تحويلها إلى المستشفى تنفيذا لقرار المحكمة، فخرجت معه في هدوء كما اعتادت أن تتصرف. الحضور يتعاطفون مع المتهمة الشابة لأنها صغيرة السن وفي مقتبل العمر، ربما سالت دموع النساء تأثرا بالموقف وكذلك بعض الرجال وحاول بعضهم أن يتماسك حتى لا يبدو عليه الضعف، لكن في المقابل كان هناك آخرون يرون عكس ذلك، وربما رددوا داخلهم أنها تستحق الإعدام لأنها مجرمة قاتلة وتستحق العقاب، فالقتيل أيضا شاب في مقتبل العمر قتلته بكل جرأة على غير المعتاد في طبيعة الفتيات، فيداها ملوثتان بالدماء، وبعيدا عن هـذا وذاك فالقضــية معروضة أمام المحكمة وهي أمينة على حقوق كل الأطراف. جلست «إيمان» في سيارة الترحيلات، سرحت بخيالها في الماضي القريب وما حدث لها من انقلاب في حياتها، فهي تنتمي إلى أسرة فقيرة، تركت الدراسة بعد حصولها على الشهادة الإعدادية لضيق ذات اليد وعدم قدرة أسرتها على الإنفاق، وقد ارتضت ذلك ولم تكن ساخطة وإن كان على عكس رغباتها، فهي تحاول أن تساعد أسرتها على ظروف المعيشة الصعبة وتقوم بأعمال قد لا تناسب عمرها ولا قدراتها، تحملت الصعاب وواجهت الحياة مبكرا، عملت في حرف مختلفة وأماكن متعددة معظمها تقوم فيها بالنظافة وإعداد المشروبات، وهي تلقى أسوأ معاملة من جميع من عملت معهم ولم تجد يدا رحيمة حانية ولا كلمة رقيقة. وصل بها قطار العمل وهي تتخبط بين محطاته إلى شركة متخصصة في أعمال الديكور، وعلى غير المعتاد استقرت فيها لسنوات عدة، فقد كانت الأجواء فيها هادئة، وهي تقوم بمعاونة المهندسين والفنيين في أعمالهم وقد شربت المهنة وتعلمت الكثير من فنونها وأسرارها وهذا خلق بينها وبين العاملين في الشركة تفاهمات جيدة، بجانب أنهم يرقون لحالها ويراعون ظروفها فهي فتاة مكافحة وتستحق التقدير والاحترام، ومع أنها تخطت العشرين من عمرها لم يدق قلبها مثل كل المراهقات ولم تدخل قصة حب مع أي شاب، فلا وقت عندها لذلك إذ لديها ما يهمها ويشغل تفكيرها إنه متطلبات هذه الأسرة التي تضم أبا عاملا بسيطا غير قادر على الوفاء باحتياجات أسرته، وأما لا حول لها ولا قوة وشقيقين صغيرين. ووسط هذه المعاناة توفي الأب وتحملت إيمان مسؤولية الأسرة وحدها على عاتقها، المـسؤولية ثقيلة بكل المقاييس ولا قبل لها بها ولكنهـــا لا تستطيع التخلي عنها، بجانب أحزانها وقد اتشحت بالسواد حدادا على رحيل الأب، ووسط هذه الصعاب وجدت «رمضان» زميلها في العمل الذي يكبرها بخمــس سـنوات يحاول من قبيل العطـف والإنـسانية أن يخفف عنها أحزانها، شــكرت له هذه المشاعر الطيبة، لكن مع الأيام تطور الأمر إلى أحاسيس متبادلة صرح بها كل منهما للآخر، وعاشا ثلاث سنوات وهي تتمنى أن يأتي اليوم الذي يطلب فيه منها تحديد موعد لمقابلة أمها لخطبتها رسميا، ولم تتعجل ذلك لأنها تعرف ظروفه ولا تريد أن تتزوج وتترك أسرتها في مهب الريح، لذلك فهي تكتفي بأن تعيش مشاعر طيبة وسط الأحزان والمتاعب، والوقت أمامها فيه من المتسع ما يكفي لتحقيق أحلامها. بعد ست سنوات كاملة من هذه العلاقة البريئة، فوجئت إيمان بتغير واضح من رمضان تجاهها، لم يعد يهتم بها ولا بأمورها كما كان فالتمست له الأعذار لكنه تمادى في تصرفاته، ووصل إلى مسامعها ما يمكن أن يفسر لها ذلك فقد همست زميلاتها في أذنها بأنه يسعى للزواج من فتاة أخرى، ولم تترك الأمر للشائعات، فقد توجهت إليه بالسؤال مباشرة، وفوجئت به في حالة من المسكنة ثم اللف والدوران من غير أن تستفيد منه أو تفهم مقصده بشكل مباشر، وهي التي تتلهف لنفي ما سمعت، وحاصرته بتساؤلاتها حتى اعترف لها بأنه عرض على أسرته أمر الزواج منها لكنهم جميعا رفضوا ولا يستطيع أن يخالف أسرته، وقد خطبوا له فتاة تمت لهم بصلة قرابة وهو لا يمكنه أن يخالفهم، شعرت بدوار وزلزال عنيف يهزها هزا، وأخيرا خرجت عن شعورها وانهالت عليه بالشتائم والأوصاف بالخداع والنذالة وفقدان الشهامة والرجولة وقد رد عليها بالمثل. وتحولت المحبة إلى عداوة بسرعة شديدة واشتعلت الأجواء بينهما، بكت لكن الدموع لم تأت بنتيجة ولم تغير الموقف، قلبها يحترق والنار تتأجج داخلها فقد ذبحها بغير سكين، وأخيرا فقد استسلمت لقدرها لكنه لم يتركها وشأنها، وفوجئت في الصباح الباكر بعد أن استيقظت من نومها بأربع رسائل على هاتفها المحمول كلها تهديد لها بالقتل والانتقام، وأخيرا اتصل بها وطلب لقاءها في هذا اليوم لتصفية وإنهاء ما بينهما وديا، لكنها استشعرت انه يتأبط شرا ويعتزم إلحاق الأذى بها، فوضعت سكينا في حقيبة يدها لتدافع بها عن نفسها إذا لزم الأمر، ولم تفكر في الاعتذار عن عدم اللقاء الذي جرى في الشارع. على مقعد جانبي جلسا متباعدين نسبيا بالكاد يسمع كل منهما الآخـر، وبدأ النقاش محتدما، بالفعل هددها بالقتل إذا هي نفذت ما توعدته به من أنها ستخبر خطيبته بما كان بينهما، وعادت لتلومه على موقفه المتخاذل ورفض الاتهام، وعادا لتبادل الشتائم والسباب فخرج عن هدوئه وصفعها على وجهها أمام المارة فلم تحتمل وأخرجت السكين من حقيبة يدها وانهالت عليه بالطعنات، قبل أن يتدخل المارة ويتنبهوا للمشـهد الدموي كانت قد صوبت له ثلاثاً وعشـرين طعنــة خلال أقل من دقيقة أودت بحياته وأسقطته جثة هامدة، كان المشهد مرعباً وغير مسبوق، أمسكوا بها وسلموها للشرطة، وفي التحقيقات اعترفت بالتفاصيل كافة، لم تتردد ولم تخف شيئاً لذلك قررت النيابة حبسها وإحالتها إلى المحاكمة بتهمة القتل العمد مع سبق الإصرار وطالبت بمعاقبتها بالمؤبد. في جلسة المحاكمة لم يجد محاميها مخرجاً غير اتهامها بالجنون ليحصل لها على البراءة، وجاء تقرير المستشفى ليؤكد أنها في كامل قواها العقلية، وأنها مسؤولة عن جريمتها، ومع ذلك راعت المحكمة ظروف الفتاة وملابسات الجريمة واستعملت معها الرأفة وقضت بمعاقبتها بالسجن سبع سنوات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©