الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأيديولوجي والإبداعي لا ينفصلان لا في الكتابة ولا في الممارسة

24 سبتمبر 2014 21:15
صبري حافظ ليس هناك فاصل بين الأيديولوجي والإبداعي لا في الكتابة ولا في الممارسة. خاصة في هذا الزمن الذي شاع فيه الحديث عن موت الأيديولوجيات، وساد فيه الترويج للغة مقلوبة تخفي عكس ما تصرح به، وتسمي مقاومة المحتل إرهابا، والتصدي للنظم الاستبدادية تخريبا، واستعمار الشعوب تحريرا، والتفريط في الحقوق المشروعة اعتدالا، والتمسك بالثوابت الوطنية تشددا. إن هذه اللغة المقلوبة تتناقض مع كثير من أسس التواصل اللغوي ذاتها، في محاولتها للتعمية على أبشع تجليات الأيديولوجية القديمة الجديدة أيديولوجية الاستعمار ونهب ثروات الشعوب في تجلياته الجديدة وتسمياته المغايرة بالعولمة تارة، وتحرير الشعوب من حكامها المستبدين أخرى. وكي تتضح المسألة فلابد من معرفة ما هو المقصود بهذين المصطلحين: فالأيديولوجيا هي صياغة فكرية أو تجريدية لتصور ما للعالم أو وعي ما به. وقد يكون هذا الوعي وعيا زائفا يطلسم على تناقضات العالم ويخفيها، وقد يكون وعيا نافذا مستبصرا يعي تلك التناقضات ويكشفها ويتعامل معها. وقد كشف ماركس عن أن لكل وعي بالعالم، أو لكل أيديولوجيا محتواها الطبقي ومصالحها الاقتصادية، ومحاولتها لصياغة مصالح طبقة ما باعتبارها هي الحقيقة أو التصور الطبيعي للعالم. ومن هنا بدأ مفهوم الوعي الزائف يفت في عضد مفهوم الأيديولوجيا منذ ميلاد هذا المفهوم الجديد. وقد مكننا مفهوم الوعي الزائف ذاك من الوعي بتناقضات الأيديولوجيا وباستراتيجياتها المراوغة، وأكثرها انتشارا ومراوغة في هذه الأيام هي إنكار الأيديولوجيا، والقول بعصر موتها ونهاية التاريخ، فكل تنصل من الأيديولوجيات وكل تنكر لها ينطوي على أيديولوجيته المضمرة، ويخفي في طواياها تناقضات الوعي الزائف بالعالم أو الوعي الذي يريد أن يطلسم حقائقه ويخفي وراء معسول الكلام أغراضها البشعة ولا يسميها بمسمياتها، فالمسميات الحقيقية هي شارة وعي، ولا يسود الوعي الزائف إلا في ظل غياب الوعي الحقيقي وغيبوبة العقل. وما الانتشار الواسع الجديد للأيديولوجيات الدينية من الصهيونية وحتى التأسلم السياسي مرورا بالمسيحيين الجدد في أمريكا إلا تجليا من تجليات غيبوبة العقل الجديدة تحت عباءة موت الأيديولوجيا ونهاية التاريخ. أما الإبداع، والذي يبدو في السؤال وكأنه نقيض الأيديولوجيا، فإنه في حقيقة الأمر رديفها. لأن كل أيديولوجيا تنطوي على إبداع ما لصياغات وتصورات جديدة للعالم، أليست الطلسمة على حقائق العولمة البشعة والتي مكنت رأس المال الغربي من نزح ثروات شعوب العالم الثالث بمعدلات أعلى كثيرا من تلك التي كانت تتم بها نفس العملية إبان أكثر فترات الاستعمار القديم بشاعة هي نوع عبقري من الإبداع؟! وإن كان إبداعا مقلوبا. كما أن كل إبداع ينطلق من تصوره الخاص والمضمر للعالم، أي من أيديولوجية ما. صحيح أن الإبداع مصطلح يطلق عادة على الإنشاء الأدبي والفني، ويتسم بالتجسيد بينما تقوم الأيديولوجيا على التجريد، فإن تجسيده دائما ما يخفي في طواياه مجرداته الفكرية التي تشكل الهيكل العظمي الذي لا تقوم للتجسيد قائمة بدونه. وقد لا يستطيع كل من يرى إنسانا أن يعرف شكل هيكله العظمي، لأنه ينشغل أساسا بملامحه المجسدة لحما ودما، وينشغل بحركاته وسكناته عن حقيقة هيكله، ولكن عالم الفسيولوجيا يعرف أن هذه الملامح التي تتجسد أمامنا ما كان لها أن تقوم وتتبلور من دون الهيكل العظمي الذي تنهض عليه. لذلك فإن الناقد بالنسبة للعمل الإبداعي كعالم الفسيولوجيا بالنسبة للجسد الإنساني، ما أن يتعرف على عمل إبداعي حتى يستطيع استشفاف البنية المجردة المضمرة في كل تجسداتها والتي تتجلى وراء كل تفاصيلها. أي ما يسمى في مصطلح النقد الحديث بأيديولوجيا النص. وكلما كانت تلك البنية المجردة أصيلة وعميقة وشاملة كلما بدا العمل الإبداعي متماسكا ومتكاملا وقادرا على إرهاف قدرة المتلقي على فهم العالم والاستمتاع به معا. إذن ليس ثمة فاصل في رأيي بين الأيديولوجيا والإبداع، ولا توجد كتابة أو ممارسة ثقافية وخاصة في عالمنا العربي في هذا الزمن الرديء لا تنطوي على موقف أيديولوجي من العالم ومن مؤسساته الثقافية والسياسية على وجه الخصوص. فليس موقف الكاتب الذي يسخر قلمه لتبرير وضع ما أو لإضفاء نوع من المصداقية على حاكم لا شرعية له ولا مصداقية لممارساته، كموقف الكاتب المستقل عن المؤسسة الذي يكشف عن تناقضاتها وعن عريها من المشروعية. فالأول يصدر عن موقف كلب الحراسة المكلف بحراسة النظام والأيديولوجيا السائدة، ونشر الوعي الزائف ومد مظلات الغيبوبة العقلية على كل شيء كي يسود الظلام، بينما يجعل الثاني حراسة الكلمة ورفع راية قيمها العقلية والنقدية النبيلة همه الأساسي فيكشف ما تنطوي عليه أيديولوجيا الأول من وعي زائف وتناقضات مشينة. الأول؛ شخص عار من الإبداع أما الثاني؛ فهو الذي يعزز قيمة الإبداع، لأن كل إبداع حقيقي هو ابن وعي نقدي للعالم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©