الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«قميص يوسف».. الذات في جبّها العميق

«قميص يوسف».. الذات في جبّها العميق
24 سبتمبر 2014 21:15
رواية «قميص يوسف»، الصادرة حديثاً عن دار «كُتّاب» للنشر والتوزيع في دبي، هي الإصدار الروائي الأول للكاتب سلطان فيصل. وتتألف الرواية من مائتين وثماني وسبعين صفحة من القياس الوسط، تتوزع على فصول عدة. ولكن الفصول في النص لا تبدأ كالبدايات المعهودة، وإنما يُستهل الكلام فيها بمفردة مميزة ببنط نافر ويختلف عن بقية كلمات الفصل، بعكس ما تجري العادة في تبويب فصول الرواية، التي درجت أن تكون إمّأ بالعناوين أو الأرقام أو الحروف اللاتينية في بعض الأحيان. يحمل عنوان الرواية «قميص يوسف» دلالات متعددة، ويبدو لافتاً وجذاباً إلى أبعد الحدود، ويتجاوز بإثارته حدود الغواية التقليدية للقراءة، كعتبة رئيسة للنص، حسب جيرار جينيه، لأنه ينطوي على رمزية عميقة في الوعي العربي والإسلامي عموماً، تستدعي بدلالاتها مباشرة قصة قميص النبي يوسف (عليه السلام)، الملطخ بدماء الذئب، كما وردت في القصص القرآني، وتحيل المتلقي مباشرة إلى الظلم والتزييف أو تغييب الحقيقة، التي انتظرها النبي يعقوب (عليه السلام)، مدة تزيد عن مدة تيه بني إسرائيل، حتى بانت له خالصة مُخَلّصَةً لا يداهنها ريب أو بهتان. وبهذا المعنى تتعدد الحقيقة، ويصبح لها أكثر من وجه، وربما تتراءى من وراء غلالات نحسبها وكأنها في غاية الشفافية والوضوح، إلا أنها في الواقع تكون متدثرة بالكثير من الحُجُبْ التي يصعب اختراقها، وقد تحتاج زمناً طويلاً لتنجلي بنورها الساطع كما هي في الواقع المجرد. هذا ما حاولت رواية «قميص يوسف» أن تقوله من خلال سرد قصة بطل الراوية وقميصه المُحَبرِ بالكلام الذي يروي حكايته في السجن، الذي وجد نفسه به من دون ذنب معلوم أو جرم مشهود. وهو في كل الأحوال سجن أشبه بالجُب الذي غيب يوسف عليه السلام، رغم أنه لا تشابه بين الحكايتين، إلا إذا اعتبرنا أن الظلم الاجتماعي، الذي يقع على الأفراد العاديين في سياقات ثقافية تقليدية متخلفة، يقارب في سطوته وقسوته وفداحته المظلمات التي تعرض لها نبي الله يوسف (عليه السلام). عتمات الذات الرواية تحكي عن تلك العتمة الموجودة في الذوات الإنسانية عموماً، التي تتسع مساحتها، وتزداد أو تقل وتنحسر من إنسان إلى آخر، بقدر ما تَكبُر الشروخ وتتزايد الانكسارات والإحباطات، أو الأفراح والمسرات والنجاحات في حياة الإنسان، رجلاً كان أم امرأةً. فالذات الإنسانية – حسب علم النفس الحديث – تختزن في اللاوعي كل ما تراه العين، ويدركه العقل ويشعر به الجسد، وخاصة في مراحل الصبا الأولى. وإذا ما تفتحت الطفولة في أحضان تفتقد الدفء والأمان، تصبح نهباً للهواجس والاضطراب وعُقَدِ النقص بأشكال مختلفة. ذلك لأن الطفولة ترى في الوالدين الحصن الحصين، والملاذ الأكثر أماناً وطُمأنينة، وربما الدرع الأول والأخير الذي يحميه من غوائل الأيام مهما كَبُرتْ أو تعاظمت. ولكن عندما يكون حضن الوالدين بمثابة نافذة مشرعة للريح والعواصف، ومفتوحة على المجهول ومهجوسة بالخوف من الحاضر والقلق على المستقبل، فإن الحياة تصبح حينها ضرباً من الأقدار المؤجلة، التي تُنذر بفجائعيتها كل لحظة دون أن تصل إلى نهاياتها. ما يختزل العمر إلى أيام من الانتظار الثقيل الذي يُرخي سُدُلُه السميكة على الروح والعقل معاً، فيحيلهما إلى شقاء يفوق بمراراته وعذاباته آلام الإبتلاء بكل أوجاع الأرض، كما هو الحال مع (أم البطل). يقول الراوي: «لم تشعر أمي يوماً بالأمان في علاقتها بوالدي، هي من أخبرتني ذات مرة أن والدي قد يتخلى عنها في أي لحظة، لهذا فقد وضعت حقيبة السفر التي جاءت بها (. . . ) أمام عينيها فوق خزانة ملابسها، مهيئة نفسها لذلك اليوم». لم يكن موقفها هذا ناجماً عن النظرة الاجتماعية التي وجدت نفسها محاصرة بها من أهلها الجُدُد والجيران والمجتمع برمته فقط، وإنما أيضاً بسبب الزوج (القاضي سالم) الذي تركها وحيدة في قلب الحصار، لا بل أقام جبلاً جليدياً ما بين قلبيهما، لأنه بالأساس لم يحبها كامرأة يريدها شريكة لمشواره في الحياة بحلوها ومرها، وإنما تزوجها كغريبة، ليضرب عصافير عدة بحجر واحد – كما يقال. العصفور الأول يستجيب لشرط مجلس القضاء لكي يعتلي منصة القاضي. أما العصفور الثاني، فهو نكاية بنساء العائلة، ذلك لأن تفضيل الغريبة على القريبة هو بمثابة امتهان لشخصياتهن وطعنة لكرامتهن. بينما العصفور الثالث يطلق صرخة احتجاج وغضب ورفض قاطع لواقع اجتماعي لا يسمح للمرء بالتعبير عن مشاعر الحب أو نبض القلب. في حين ينتقم العصفور الرابع لحبه الضائع، الذي لم يجرؤ على البوح به يوماً، سواء لابنة عمه حمدة التي أحبها بعينها، أو لسواها، ما جعل سرقتها منه تتم بسهولة ويُسر بعدما سافر إلى بغداد لدراسة الحقوق، من دون أن يكترث له أو يهتم بأمره أحد، ومن دون أن تثير أي تساؤلات من الآخرين، القريبين أو البعيدين. أما هو، فشكل له الحب المسروق صدمة قاسية ومؤلمة، ما زالت تداعياتها المؤلمة تحز بنصلها الحاد على روح الفتى، الذي صار قاضياً وزوجاً وأباً، وربما كانت الصدمة أكثر من كافية، لقتل مشاعره وموتها ودفن ما يسمى نزعة الحب في ذاته حيال أقرب الناس إليه، ما عدا حمدة، التي ظل يحتفظ بصورتها مع صورة له، أُلتقطت لهما في باحة المدرسة التي كانا يتعلمان فيها، واكتشفها الابن يوسف بعد أن صار شاباً، في طيات كتاب مدفون بمكتبة والده، مرفقة بومضات القلب في زمن تفتحه الأول للحب. وزاد الطين بِلّة على الطفل يوسف أن نساء العائلة رددنَ على طعنة القاضي لكبريائهن وامتهان مكانتهن أو مقاماتهن، بأن جعلن زوجته منبوذة، ولم يتوقف الحصار على الأم بل تعداها إلى يوسف الذي صار يلمس الفارق بينه وبين أقرانه لا سيما من خلال الطريقة التي ينادونه بها، ما حال دون نمو طفولته بشكل سوي. . لقد نبذه جميع أطفال الأسرة والماحوْل، ما عدا علياء، الغريبة المنبوذة هي الأخرى، التي تكبُرُه بتسع سنوات، ومع ذلك تقرر زواجه منها قبل أن يولد، بسطوة الحصار وما تلاه من تداعيات العزلة، فصار الاحساس بالدونية يكبُرُ بداخله ساعة بساعة مع أيام وشهور وسنين عمره. لذلك كان من الطبيعي جداً أن تتقوقع شخصية الطفل يوسف - بطل الرواية - على ذاتها الداخلية، وتنطوي على قدر كبير من الهشاشة، وتستحيل إلى كهوف معتمة بقلب كهوف أكثر عتمة، تستوطنها عُقَدُ النقص والأشباح والهلوسات، ما جعل ذاته زنزانة مشطورة، وموزعة على ثلاث شخصيات، هم يوسف كما يريده الآخرون، أو النسق الذهني الحاكم بالوعي الثقافي في المجتمعات البدائية، و«البياض الأعظم» أو البقية الباقية من الذات النظيفة، أو الذات الطهرانية بداخله، الذي يتراسل من خلال «الانترنت» مع الشخصية الثالثة «السواد الأعظم»، أو الذات الماجنة المهزوزة المتشككة بكل شيء فيمن حولها، التي غطت وطغت على شخصية البطل، وقادته في النهاية إلى الفشل والانسحاب من الواقع إلى المزيد من الانطوائية والانكفاء على كهوف الذات. براعة التوليفة الكاتب فيصل سلطان ينجح في ابتكار توليفة روائية غير مسبوقة، وربما تبدو غريبة بعض الشيء بمعنى الحكاية، إلا أنها رائعة وتتجاوز عبقرية الإبداع بالمعنى الأدبي. عندما أراد للبطل أو الراوي في «قميص يوسف» أن يختار هواية جمع نماذج من الألبسة المستعملة، أو ما يمكن أن نسميها - بمعنى أكثر وضوحاً ودقةً - نماذج مستعملة من أزياء جميع الشعوب، كدلالة رمزية تكشف رغبة دفينة في العقل اللاواعي لدى البطل بالانفتاح على الآخر، كرد عفوي وطبيعي جداً على ما يعانيه من الإقصاء والتهميش. وإن كانت الهواية غير مألوفة بين الناس في المجتمعات الشرقية إلا بوجه واحد، وهو اقتناء مقتنيات المشاهير، ومن ضمنها ألبستهم المستخدمة. إلا أنها تبقى مراوغة فنية ذكية، وفكرة مبتكرة كأسلوب أدبي، يلجأ إليها الكاتب، ليقدم من خلالها مدخلاً مقنعاً إلى الحكاية بحرفية روائية عالية على مستويين: في المستوى الأول، يقدم الكاتب جرعة لافتة وجاذبة بكل المقاييس، تكفي لإقناع المتلقي بأنها حكاية واقعية وحقيقية إلى أبعد الحدود، حينما اختار الكاتب أن يكون جمع الملابس المستعملة هواية له، ومن بداهة الأمور أن يعثر بين هذه الملابس على النص مخطوطاً على رداء كان لسجين ما، ذات زمن ما، وليس ضرورياً أن نعرف سبباً محدداً لسجنه قبل نهاية الرواية؟ وللمزيد من المخاتلة الأدبية، بإقناع المتلقي بأن الرواية واقعية، يسعى الكاتب لتعزيز النص بالهوامش الفرعية، التي توضح بعض الإشكاليات في معاني المفردات، التي طَمست معالمها رثاثة الرداء أو تقادمه حسبما يكشف النص. ليس هذا فحسب وإنما يدفع بالمتلقي إلى حدود اليقين، عندما يُرفق النص بثلاثة ملاحق ختامية، هي عبارة عن شهادات للنسوة الثلاث اللواتي مررن بحياة البطل: (علياء ومي وزينب أو زينة)، سماها إفادات تُكمل التحقيق مع المعتقل يوسف أو بطل الرواية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن النص مقنع بمخايلاته الجميلة، التي اقتربت بل تماهت مع الواقعية في أكثر من ثلثي الرواية بكل المعاني الفنية والأدبية. وفي الوقت عينه قام على رمزية كاشفة بدلالاتها بوضوح وجلاء، من دون الحاجة إلى الملاحق الثلاثة الختامية أو حتى الهوامش. على الرغم أن النص من أوله حتى آخره، لا يجعلنا نعرف كيف وصل الرداء إلى مجموعة مقتنياته من الأزياء القديمة للشعوب كافة، التي يحرص الكاتب على جمعها وينفق الكثير من الأموال في سبيل ذلك، رغم تأكيده أن الجميع ممن حوله يستهجنون هوايته، وأن أكثر تعليق لهم يُسعده بأن للجنون فنوناً. ولكنه في النص يقنعنا بأنه جنون إبداعي خلاق لا ريب فيه. إحالات رمزية في المستوى الثاني، يبدع الكاتب بتقديم الإحالة الرمزية القوية في دلالاتها، التي تقطع الشك باليقين، بالنسبة إلى واقعية الثيمة الروائية، التي يقوم عليها النص، سواء على مستوى السرد الذي ينهض على رداء السجين، وليس على الوسائل المألوفة أو المعروفة، مثل الأوراق أو الكرتون أو حتى جدران السجن، أم على مستوى واقعة أو حَدَثية السجن، التي تنفي وجوده واقعية القص أو السرد مع نهاية النص، بمعنى كونه سجناً ذاتياً، وليس مادياً بزمان ومكان معلومين، أو بوظيفة محددة هي حبس المثقفين من الكتاب أو السياسيين، أو غيرهم من المؤهلين للتعبير عن المصائر والأقدار بلغة إبداعية، تتقدم فيها مسائل اكتشاف الذات ومحاكاة الواقع وتعريته بحرفية أدبية وفنية غير عادية، على مسألة التدوين والتحبير. كما هو الحال بالنسبة إلى يوسف بطل الرواية، الذي خط مخطوطته على قميصه أو ردائه بلغة إبداعية، وليست مجرد خواطر أو مذكرات. تشوهات ثقافية أما على المستوى الفني، فإن «قميص يوسف» تعالج بأسلوب روائي أخاذ، العديد من التشوهات في النسق الثقافي، الذي يهيمن على الوعي الاجتماعي في الواقع العربي الراهن، مثل مسألة العصبوية البغيضة، التي تُمارس بفجاجة وصلف بشع - بكل المعاني الإنسانية - ضد الأغراب حتى في محيط الهُوية الثقافية الواحدة، سواء على مستوى الهزء والسخرية من التمايز باللهجات أو اللكنات، أم على مستوى النبذ والاحتقار بقوة الانتماء القبلي أو الأسري أو حتى الاجتماعي. وكذلك مثل مسألة الرؤى الأحادية المغلقة، التي تحتكر الحقيقة، وتؤسس لثقافة العنف والكراهية وإلغاء الآخر المختلف، التي تتوارثها الأجيال جيلاً بعد آخر بكل بشاعتها وقسوتها على كل المستويات الذهنية والنفسية والمعنوية، ناهيك عن دمارها المادي بالمعنى الدموي أو الإجرامي في بعض الأحيان أو الحالات. وهي على العموم باتت رؤى مستهجنة ومستغربة، بل ملفوظة ومرفوضة في الثقافة المعاصرة، بكل المعاني الثقافية، الأخلاقية أو الدينية. وتنجح الرواية بالإضاءة على هاتين المسألتين، وتقديمهما بأبشع صورهما، وأبلغ آثارهما وأكثرها مأساوية، في إطار أدبي روائي جميل، وأسلوب ماتع وسرد رشيق، ولغة جذلة، حيث يخرج المتلقي بعد الفراغ من قراءة الرواية، بأن أقل نتائج الممارسات العصبوية، أو الرؤى الأحادية، هو دفع شخصية الضحية قسراً إلى التمزق والانفصام أو الانفصال عن واقعه تماماً، ما يترتب على سلوكه الانطوائي الميال للتشكيك بكل الناس مِن حوله، وكل القيم أو المفاهيم والأعراف، الكثير من الأذى والخراب، الذي يمزق النسيج الأسري ويهدد النسيج الاجتماعي ويصيبه بمقاتل ليس أقلها التفكك والانهيار، وإنما قد يتجاوز ذلك إلى الاحتراب بوسائل عنيفة لا تُبقي ولا تُذر. وهذا لا يعني بالمطلق أن الرواية وعظية أو خطابية، وإنما هي حبكة أدبية وتوليفة فنية وأسلوبية وسرد رشيق وماتع، استطاع الكاتب أن يحمله من الرموز والدلالات ما يكفي للإضاءة على هذه الموضوعات أو الرؤى الإنسانية الراقية والشفافة بكل المقاييس الجمالية والفنية والأدبية. سياقات مبتورة يؤخذ على الكاتب أن نهايات الرواية أو قَفلَتَها – إن صح التعبير- لم ترتقِ إلى المستوى الجمالي والإبداعي المقنع بحذاقته ورشاقته، الذي تميزت به حبكة الحكاية بدءاً من مدخلها إلى أكثر من ثلثيها. بمعنى أن سياقات تنامي الشخصيات بدت مبتورة في النهاية، وخاصة الشخصيات النسائية، التي لم تتواصل تصاعدياً، بالمستوى الدرامي الذي تصاعدت به شخصية يوسف البطل حتى النهاية، بحيث أن الإضاءة على الشخصيات النسائية الثلاث، اللواتي مررن بحياة البطل، لم تكتمل إلا من خلال ثلاثة ملاحق أضيفت للرواية في الختام، قدمها الكاتب في إطار مراوغته الفنية لتعزيز مراميه باقناع المتلقي بأن حكايته حقيقية، وهي إضاءة كان يمكن لها أن تضيف جماليات هائلة على البنية الحكائية، فيما لو تمكن الكاتب من ادغامها في متن النص، ولو بشكل فصول مستقلة حتى لو تجاوزت ستة فصول بدلاً من الملاحق الثاثة، علماً بأنه من الأفضل والأجمل – بالمعنى الروائي - أن توزع الإضاءة على جرعات تدريجية في كل فصول الرواية. كذلك يمكن أن يؤخذ على الكاتب استخدام بعض المفردات المشتقة من العامية، التي ليس لها جذر فصيح، من دون تقويس، أو من دون حصرها بين مزدوجين. إضافة إلى بعض الهنات اللغوية والقواعدية التي يمكن تجاوزها بالدُربة والمِران والقراءة العميقة والمكثفة، إذ بهاتين المسألتين فقط تستجيب اللغة إلى الكاتب، وتصبح أكثر طواعية وجذالة، وفي الوقت عينه، يصبح بالإمكان تطريزها بالرموز والدلالات المُلّهِمَة، حمالة المتعة والمعرفة والوعي الجديد في آن واحد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©