الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وعي الانتماء.. وتحولات المكان

وعي الانتماء.. وتحولات المكان
25 سبتمبر 2014 01:04
* تنتمي الرواية في نمط خطابها وأسلوبها السردي تنتمي إلى أدب ما بعد الحداثة * تعتمد تقنيات الرواية على بنية التضاد في الحدث لللكشف عن النفَس الازدواجي ----- في رواية سلطان العميمي الأولى (ص. ب 1003) الصادرة عن دار الثقافة والنشر عام 2014، يطالعنا غلافها بإلاشارة إلى عنوانين / مكانين، يرمز أحدهما إلى المرسل إليه في إشارة إلى المكان من خلال الخط والختم البريدي، والمرسل منه في إشارة إلى البريد الجوي. . كما يطالعنا الإهداء برمزيته، فالكاتب يقدم روايته إلى «كفين ستعبران من هنا للتصفح كانتا قد مرتا على قلبي يوما كأصابع مسيح»، إنهما كفّان لهما فعلهما في البرء والشفاء والحنين. ويتعمد الكاتب تحريض متلقيه على القراءة مع إغراء مموسق في قهقهة عالية من صوت الكاف المتكررة في قوله: «تذكر بعد أن تنتهي منها ألا تفكر كثيرا بما يمكن أن يكون مكتوباً». ----- الرواية في نمط خطابها وأسلوبها السردي، وبنيتها المفتوحة تنتمي إلى أدب ما بعد الحداثة، بلغة واضحة وبسيطة، دقيقة سلسة، لا حشو فيها ولا إطناب ولا استطراد، تبدو من خلالها الذات الساردة انتقائية فيما تسرد من أحداث، أو ما تقدمه من معلومات. . الزمن في الرواية وحدات متقاطعة، حاول الراوي أن يضبط من خلال المشاهد إيقاع انتقالاته من وحدة زمنية إلى أخرى. . وقد وضع الراوي إرادته في السرد الروائي لا في تفاعل العلاقات الروائية؛ فالرواية تقوم على أدب الرسائل الذي حفل به تاريخنا الأدبي فضلا عن الأدب الغربي مما جعل الراوي يترك في الرسائل المتبادلة فسحة للتأمل والتفكير والحلم، كي يجعل من كتابة الرسالة لذة في حدِّ ذاتها، فيما يتذوق الكاتب متعة الدخول إلى أعماق ذاته، يسكبها على الورق ليقدمها هدية جميلة إلى المرسل إليه. . من خلالها يبتدع ذاته، ويبتدع الآخر في آن معا. تورية الرسائل والوثائق واليوميات هي واحدة من طرق السرد، فطرق السرد بين مباشر وذاتي أو وثائقي تقود العمل وتحلله وتعلله، وعبر الفضاء التراسلي يعيد سلطان العميمي في (ص. ب 1003) إلى أدب الرسائل بريقه ولكن بمواصفات وتقنيات فنية تقدم عملا روائيا متماسكا تتحقق فيه روائية الرواية. . فالرسائل في الرواية تواصل غير محكوم باللحظة الهاربة لـ عليا (بطلة الرواية) بل هو بحد ذاته انتصار على الزمن الأفقي وذو صلة بالبنية الاجتماعية وانعكاساتها على العلاقات، فالرسالة مساحة أوسع للحوار. . كما أن أدب الرسائل يدخل في عادة القراءة المتأنية والقراءة التأملية. . والقارئ لهذه الرواية يعيش 75 مشهدا تتداخل عناوينها في المعالم السردية وعناصر التشويق في دلائل بوح غرائبية تتمثل في بعض المشاهد منها: صندوق البريد، مبنى البريد، موظف البريد، ظرف الرسالة، بطاقة بريدية، دفتر الرسائل، أول رسائلي، طابع، عنوان غير معروف. هذه المشاهد تتفاعل لتلتقي في بنية مفتوحة تأسر القارئ وهو يتابع الأحداث من خلال حيادية الذات الساردة، فرسائل عليا إلى عيسى ما هي إلا معيار أساسي من معايير الحراك الاجتماعي والتطور الذي يشهده المكان؛ لهذا يبدو سؤالها الجوهري: ما السبيل إلى علاقة معافاة بين الرجل والمرأة؟ ويبدو أن العميمي معجب بالعناوين الرقمية فمن الصفحة 79 مجموعته القصصية إلى 1003 أرقام تعتمد على التورية الكامنة. . لقد قدمت الرسائل في الرواية المعلومات، وكانت تتطور كما أراد لها الراوي، فالقارئ يجد في السرد هموم الإنسان العربي في المكان. . كما كان الراوي ملتزما بقضايا وطنه وما يشهده من تحولات وقفزة نوعية، وفياً له لا سيما القضايا الإنسانية والثقافية. وقد تحقق هذا في حوار الرسائل المتبادلة بين عليا ويوسف وبين مكانين. أما الحوار فيطل لأول مرة في «ملفات يوسف» ص 73 الذي دار بين يوسف ووالد عيسى، وفي المشهد التالي له (غريب يبحث) ص76، (في انتظاره) ص203 وفي لقاء عليا مع عيسى، وفي (شك) ص204، و (خدعني) ص209، فالكاتب يستخدم أسلوب الارتداد والتعاقب. أجواء غرائبية قدمت الرواية عدة شخصيات مسطحة واستنطقت الجماد وأنسنته؛ حيث شكلت اللقطات التي رسمها السارد في بعض المشاهد أجواء غريبة بدءا من «صندوق البريد» إلى «بابي الموصد» أي صندوق البريد أيضا. . فمثل هذه المشاهد لا يمكن أن تحدث في الواقع، ولكنها في ذات الوقت توحي به، وتعيد تشكيله وتكشف خفاياه، فيصبح هذا اللامعقول حديثا في المعقول وكشفا لتناقضاته من خلال الدلالات والرموز الكامنة وراء هذه الأحداث الغرائبية، ليقول الراوي في بداية الرواية على لسان صندوق البريد: «أذكر أني خلقت نكرة، بلا رقم، عندما وجدت نفسي بين ليلة وضحاها في أعلى صفوف صناديق البريد التي تقبع في الحائط الجنوبي من هذا المبنى، ثم تم تعريفي بالرقم 1003 الذي ألصق على وجهي الخارجي كي يتعرف إليّ من استأجرني. . . كنت أتمنى أن يكون رقمي 1000 مثلا أو 1001 أو أي رقم آخر يسهل حفظه. . وما زاد من إحساسي بالغبن أن جاري الصندوق 1001 اسـتأجرته فتاة، تمد يدها الناعمة إليه من حين إلى آخر، يا له من صندوق محظوظ. . ». (ص10) والغريب أن صندوق البريد لم يكتشف هو الآخر أن عيسى قد مات، وظل يتساءل: «ترى أين عيسى؟». ويكتشف أيضا وبغرابة: «استمرار وصول رسائل من بريطانيا باسم عيسى، والأغرب أن يوسف كان يستلمها أيضا» (ص228). والراوي يتابع مشاهد اللامعقول هذه عبر المكان مع هذا المشهد بمشهد غرائبي آخر: «مبنى بريد» (ص13) الذي كان واحدا من المظاهر العصرية الجديدة. ويسير اللامعقول وأنسنة الأشياء في الرواية في خط متواز مع خط الحدث المتنامي في الرواية، فهي خط الإحالة والدلالة التي تمهد للمشاهد الأخرى؛ فكأنها ماوراء الأحداث أو تمهد للحدث أو الموقف الذي يحاول الكاتب تجسيده وإيصاله إلى القارئ بأسلوب رمزي إشاري مقنّع بأسلوب اللامعقول كالذي رأيناه في المشاهد التالية: كيس أسرار (ص17)، ظرف رسالة (ص28)، بطاقة بريدية (ص82)، دفتر رسائل (ص117)، طابع (ص127) ، الحياة بين رفوفي (ص141)، على لسان مكتبة، قلم لا أكثر (ص148)، طاولة صاخبة (ص207)، صديقة الأسفار (ص224) في إشارة للحقيبة، الشيطان يتحدث (ص172،197). هذه المشاهد تبدو جزءا مهما من الشخصيات، إذ تقوم بدور شخصيات مساعدة تتضافر مع الشخصيات البشرية تشعر بأفراحها وتحزن لحزنها كما في: غرفة خالية (ص67) وغريب يبحث (76) وهو حديث عن الغرفة/ المكان، وكأن الغرفة هي أم عيسى المتوفى. . وهكذا تتحول الشخصية لغير الإنسان كما وجدناه في حصان تشيخوف وبحر همنغواي أو كالزمن البطل كما هو عند بروست. ويهدف العميمي في (ص. ب 1003) إلى تقديم رؤيتين للمكان من وجهة نظر مختلفة (شرق – غرب) كلاهما احتفى بالمكان، وكلاهما كان للمكان الدور الأساسي في الرواية. المكان عند العميمي، المكان الطبيعي، أو الموضوعي، له دلالاته التاريخية والاجتماعية من خلال الأفعال وتشابك العلاقات. . وقد أخذ المكان قيمة أكبر حين كان جزءاً من بناء الشخصية في مفهومها النفسي: «البشر لا يشعرون بأهمية الأماكن إلا بعد أن يغادروها أو تغادرهم بزوال معالمها، أو تغيرها، وهذا ما يجعلني [على لسان مبنى البريد/ المكان] في أعينهم مجرد بناء إسمنتي يجمعهم لساعات معينة يوميا، ثم يغادرونني إلى أبنية إسمنتية أخرى يرتاحون فيها، أو يمارسون حياتهم بين جدرانها. . » (ص16). فالمكان (المبنى) يفرض عند العميمي ظلاً كبيراً على العمل الروائي أو أنه المجال الذي تخرج منه الرسائل، وهو الحيز الذي يكشف عن نظام من الأخلاقيات المتحاورة والمتجاورة: «أما المكاتب الخلفية للموظفين فتشهد أحاديث يومية لا تنتهي عن عالم الرجال وحكاياتهم. أكثر الأوقات متعة في هذا البريد، تلك التي أقتنصها للجلوس في المكاتب الخلفية التي لم تكن تخلو من جلسات كبار السن. . كانوا يستمتعون برواية مغامراتهم التي لاتنتهي. . لا يتحرجون من التفوه أمام أبنائهم أحيانا بألفاظ بذيئة». (ص 15) وإذا كان المكان (مبنى البريد) يفتخر أنه واحد من المظاهر العصرية، فإننا نقرأ في ظلاله الحضور البدوي الذي اختار له العميمي (الذيد) بأخلاقياته وانكساراته وطموحاته في الخطاب باعتبار (الذيد – البادية) الولادة والجذر والطفولة، وهذه تعدّ المنبع المركزي الذي لا ينضب لتشظيات الكتابة وهي التي تقوم عليها العوالم الروائية، ويتأسس عليها الحلم ولها. فتبدو الذيد وأهلها: «إنهم بدو بسطاء، لم تغيرهم النقلة الحضارية التي شهدتها الدولة منذ اتحاد إماراتها، وتطبع من جاء للعمل أو الاستقرار فيها بطابعهم. . » (ص12)، غير أن العميمي يدعم مكانه الروائي ذا البعد الاجتماعي الواضح بمجموعة من العادات والتقاليد التي يستمدها من التراث الإماراتي، أحاديث كبار السن، تلفظهم بالألفاظ البذيئة. . بعض هذه الإشارات الصغيرة لا تقدم شيئا في السياق الروائي بمعنى أنها غير ضرورية لتحفيز أحداث أخرى صغيرة أو كبيرة، لكنها تكتسب أهميتها من اتساقها العام مع الهدف الذي تسعى الرواية إلى تحقيقه. لقد كان المكان في الرواية أحيانا يكتم الأسرار، فغرفة عيسى الخالية تكتم أسراره (ص67)، وصندوق البريد يتمنى أن يعرف ما تضمنته الرسائل التي تحشر فيه كل يوم. . كما يبدو المكان وهو يضيف شيئا من الشعور بالحياة في الأجواء التي تزاوج بين الريف والبداوة (ينظر ص13) وتبدو تجليات التراث والماضي بعبقه: «حين تجود السماء فيه غالبا بأمطار غزيرة يبتهج الناس أو ببرد قارس يحتمون منه بملابسهم الغليظة، أو بمواقد نارية أو كهربائية للتدفئة». (ص13) أما المكان الآخر (الغرب) فيظل كما هو لا يتغير ولا يكبر كما يكبر ويتسع المكان في الإمارات، يتردد هناك باب شقة (عليا) الذي تسقط عبر فتحة الرسائل رسائل عيسى، لكنه قد يمتد عندما يصل يوسف لندن، إلى مطعم وفندق ومتحف (مدام توسو) وحديقة الهايدرباك. . لكن هذا المكان يخلق حالة الصراع الداخلي مع النفس حيث يعيش الدهشة، ويحس بثقافته القاصرة: «شاهدت في المتحف تماثيل شمعية لمشاهير من مختلف دول العالم، عرفت بعضا منها، كتمثال المهاتما غاندي، وبعضها لم أعرفه. شعرت بأني في حاجة إلى القراءة، والبحث أكثر عن بعض الشخصيات التي رأيت تماثيلها هنا. . ». (ص220). وقد يتغير المكان من كافتيريا صغيرة تقع في الطابق الأسفل من جامعة عليا، كما تشير في إحدى رسائلها. (ص 97) إن قارئ الرواية يجد التناغم المتبادل ما بين السرد وعلاقاته بالزمن والمكان. . فالسارد لا يقدم سرداً تقليدياً حين يلغي حدود المكان، وإنما يجعل يوسف يعيش في داخله اشتياقا عجيبا لـ (الذيد) لم يمر به من قبل حيث يكون في لندن، يقول: « كأني قطعت المسافة من هناك إلى هنا مشياً، كأني غبت عنها سنينا. . الآن يجرفني حنين كبير إلى الطرقات. . ». إنه يتذكر طفولته في المكان / المزارع، صوت الماء في أفلاجها، المحلات التي تصطف على جانبي أشهر شوارعها. إن وعي الأديب هو الذي يجعل من الروائي ملامسا لواقعه، يبحث عن ملعبه، عن بيته، عن أنواع النخيل وأشجار الليمون عن القلاع الشامخة، يتذكر أمه وأباه. . بنية التضاد تعتمد تقنيات رواية العميمي على بنية التضاد في الحدث ليكشف عن النفَس الازدواجي، فالمشاهد الـ75 على الرغم من أنها تتصف بقصرها لكنها تتسم بنفسها السردي الذي ينفتح إلى وحدات أخرى كالزمان والمكان والحدث لتعبر عن رؤيته، فمشاهد الحنين إلى المكان الأول تدفعنا إلى حب الوطن الذي يتجلى في هذه الرحلة من مكان لآخر. . حتى الشخصية الرئيسية في الرواية (عيسى) ينتقل من مكان إلى مكان آخر حيث اللاعودة، إنه الموت الحقيقي، وثمة فعل الإنسان الذي يجعله يموت بخيانته. . وبين ما حدث وما لم يحدث حدثت أشياء أخرى. . ويبقى حب الوطن هو الأكبر. . إنه الباقي ونحن الراحلون. . لهذا يباغتنا السارد بحدة وعيه، وبنضجه المعرفي يشخّص الواقع ويجعل آخر المطاف نهاية مفتوحة ليأخذنا إلى منطقة ملتبسة على وعينا وإلى خبر يحمل المقاربة في الفعل لنرسم في الأخير العاقبة الواحدة بمرارة وخيبة يلملم فيها السارد أوراقه. ولا يمكن فصل رواية «ص. ب 1003» عن تاريخ الرواية الإماراتية التي تعرف اليوم تطورا عبر الانتقال إلى مجتمع القفزة النوعية، فخصائص المرحلة تدفع الراوي إلى تنويع وسائل الاتصال، والانفتاح المعرفي جعل بطله المتردد الذي يعيش ترسبات المجتمع القبلي ليخلص الراوي إلى تغييره وتحريكه من مكان إلى آخر من الذيد إلى الشارقة إلى لندن. . واستلاب الإنسان أمام المتغيرات الجديدة. . فسقوط يوسف في الخيانة الوظيفية أو الصداقة جعل الراوي ينشغل بتخيل هذا السقوط كغواية من الشيطان الذي دفعه الفضول أول الأمر إلى معرفة ما تضمنته الرسائل لعيسى، لينتهي بعد ذلك كل شيء: «أخرجت من جيبي قلما وشطبت بخط عرضي على العنوان المرسل، وكتبت الجملة التي تعودنا على كتابتها على الرسائل القادمة من دول غير عربية، والتي تكون عناوينها غير صحيحة لدينا أو لا يوجد مستلم لها: address unknown». (ص233) ونخلص، في هذا الجانب التقني من الرواية، إلى القول إن من يقرأ صندوق بريد العميمي 1003 ينظر لتاريخ وطن يسير على قدميه في حالة من الانبهار والنشوة في قيادته وشبابه المرأة والرجل، وتطلعاتهم في البناء، ومواكبة القفزة النوعية والحضارية. . وكل السرد يضعنا بين معطيين الماضي والحاضر، وبين وعي الانتماء و تحولات المكان.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©