الأربعاء 8 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ميزان الفن..

ميزان الفن..
24 سبتمبر 2014 21:20
يستند فن الطباعة الحجرية بتكويناته المشهدية وتنويعاته اللونية المبثوثة فيه، على جدلية الأصل والصورة، أو النوع المستقل ومتوالياته من الأشباه والنظائر، والتي تستخلص من الحجر المنحوت والأسطح المعدنية القابلة للحفر، ما يمكّنها من تجسيد الانطباعات والخيالات الذهنية على ألواح تصنف كأصل قابل للتعدّد، وبموافقة الفنان أو الحرفي في تحديد النسخ القابلة للتوزيع والعرض والبيع، يظل الأصل الحجري في معية الفنان وملكا خالصا له، بينما تطير النسخ إلى أصقاع الدنيا ممهورة بتوقيعه ومفتوحة على قابليات لونية متعددة تظل مدارا للاختبار والتجريب وكسر صلابة المثال الواحد والمكرر، والذي تحرسه هنا اللوحة الحجرية الأصلية ذاتها. تعتمد فكرة الطباعة الحجرية المستقاة من الفنون الفطرية والبدائية، على عملية الطباعة من سطح مستو - كحجر ناعم أو صفيحة معدنية – والتي تطبع الصورة عليها، بحيث تكون مستقبلة للحبر بينما تكون المنطقة الفارغة طاردة للحبر، وهو التعريف الشائع في قاموس (مريام وبستر) حول الفنون الواقعية، وكان أول من نفّذ هذا الأسلوب في الطباعة المعتمدة على الحجر الجيري الأملس هو الكاتب البافاري ألويس سانفيلدر في العام 1796 كوسيلة منخفضة التكلفة لنشر الأعمال المسرحية، وطباعة النص أو العمل الفني على الورق أو أي مادة أخرى مناسبة. وفي معرض (مسارات) المقام حاليا بمتحف الشارقة للفنون يمكن للزائر التعرف على طيف واسع من اللوحات والمخطوطات والأعمال الفنية التقليدية والأخرى المعاصرة التي اعتمدت أساسا على الإمكانات المذهلة للطباعة الحجرية وما ترتّب عليها من تقاليد فنية وحرفية سواء لدى الجماهير، أو الطبقة البورجوازية. تحوّلات وانعطافات يتناول معرض (مسارات) بدايات وتحولات وانعطافات فنون الطباعة الحجرية في الهند وباكستان خلال الفترة الممتدة بين القرنين التاسع عشر والحادي والعشرين، وكما تشير باميلا تشودري وبولا سنجوبتا المشرفتان على تصنيف مقتنيات المعرض، فإن التاريخ الثقافي لشبه القارة الهندية شهد في القرن التاسع عشر انقطاعات وانزياحات عن الممارسات الفنية الشعبية الأصيلة التي تتمتع بقدسية وهالة خاصة لدى السكان الهنود منذ القدم، والتي فقدت من يرعاها وأصبحت هجينة بسبب التبدلّات الحادّة للأذواق والتقنيات التي أدخلها الاستعمار إلى شبه القارة الهندية، فجاء فن الطباعة الحجرية كأحد الفنون الهجينة « الجديدة» التي فرضتها هذه التحولات. توزعت أقسام معرض (مسارات) على ستة أقسام وبعناوين لا فتة هي: « إنتاج الصورة الشعبية في شبه القارة الهندية»، و«فن الطباعة في مدارس الفنون»، و«ولادة فن الطباعة» و«التقسيم ونقاط التنوع» و: «الحداثة الربيبة » وأخيرا قسم: «ممارسات معاصرة: إعادة تعريف». وفي كل قسم منها ثمة مناط فني يكتسب تميزه في وقوعه بين ضفتي الموضة الزمانية ومتطلباتها، وبين الأسلوب التعبيري المتضامن في الجوهر والمتغاير في الشكل. ففي الأعمال المنتمية للفن الشعبي يمكن مقاربة احتفاء الفنانين وخصوصا في القرن التاسع عشر بالأساطير، وانبهارهم بالقصص الملحمية والشخصيات البطولية، مع إعطاء أهمية مضاعفة للتفاصيل والألوان الزاهية كعناصر جذب بصرية تتعاطى مع المخيلة الشعبية على حساب المشهد الواقعي أو اليومي، ففي عمل يعود لأواخر القرن التاسع عشر ومنفذ بتقنية الليتوغراف على ورق لفنان مجهول، نرى هذه المسحة الدينية ذات البعد التبجيلي للشخصية المحورية في اللوحة، والذي ينعكس حضوره الوديع والمتصالح على المحيطين به من بشر وحيوانات وكائنات خرافية، مع تقسيم اللوحة إلى ثلاثة أبعاد بصرية حيث تبرز القباب والمعابد في الخلفية وكأنها تظلّل هذا الحضور بجلال وقدسية خاصة ومهيمنة على كامل المنظور بمستوياته المتدرجّة نزولا إلى أسفل اللوحة حيث يتقابل النمر مع الثور في ألفة غرائبية تخترق التفسير الطبيعي للعلاقات المتنافرة بين الأضداد. الألم بالأبيض والأسود وفي قسم (فن الطباعة ومدارس الفنون) نرى عملا للفنان هيرونموي رويتشودوري (1884 1962) منفذ بالطباعة الحجرية على الورق، وهي النسخة العاشرة من طبعة محدودة بتوقيع الفنان، يتضمن العمل اللونين المحايدين الأبيض والأسود، يحتلّه بورتريه جانبي لفتاة من ولاية كلكوتا بالهند، تختزن الفتاة صمتا وحزنا عميقا تترجمه نظرتها الذاهلة والساهية في ضباب الذاكرة، وتلخص الخلفية السوداء المعتمة المتداخلة مع لون الشعر، هذا الكمون والانقباض لحالة فردية ونفسية معتمة، ولا تبدو أنها منفصلة تماماً عن واقع عام تعيشه الفتاة تحت ضغط الفقر والتهميش، ويشي أسلوب الفنان في تنفيذه لهذا العمل بميله إلى النماذج الأوروبية للنحت، وهو أسلوب ينعكس أيضا في تقديمه لأعمال أخرى تتسم بالحرارة والقوة والاحتجاج على الظروف البائسة من خلال خطوط خشنة وانفعالية، ولا ترتهن في ذات الوقت لانسياق مفرط يتجاوز به الواقعية المؤلمة نحو تهويمات تجريدية ورموز مبهمة. وفي عمل ينتمي للتوليفات المعاصرة المستفيدة من إرث الطباعة الحجرية نرى عملا يعود للعام 1970 للفنان الباكستاني امتياز حسن بعنوان (المستحمّة) يحاكي به أسلوب الفنان الفرنسي الشهير رينوار المشبع بالتنويعات البصرية في العلاقة بين الظل والضوء، وبين الجسد في مشاع المقدّس والمدنّس، حيث ينحو الأسلوب الانطباعي هنا في اتجاه الكشف الموارب أو المرتاب عند تناول الجسد الأنثوي المكتسي بالغنج والدلال، والمستور أيضا بغلالة من الكثافة الحسية الموزعة إيحاءاتها، وبتوازن بين الطهارة والشبق، والبراءة والتوجّس. المنسيّون أما عمل الفنان زين العابدين الذي يلقب في بلده بنجلاديش بأستاذ الفن الكبير، فيكشف وبخطوط حادة وقاسية معالم المجاعة في بلده المبتلى بعدم المساواة الاجتماعية، حيث نرى عائلة كاملة تتوسّط اللوحة بملامح شبحيه منكسرة حد التلاشي، وبأجساد ضامرة حدّ الذبول، وهذه التكوينات البشرية الذاوية مصاغة بأسلوب يشبه الرسم بالفحم، إمعانا من الفنان في تصدير العذابات الروحية والجسدية للشخوص، وسط دوامة جهنمية من المعاناة والتصحّر العاطفي، وكأن ثمة إدانة صارخة وصادمة يطلقها الفنان للضمير الإنساني، فيما يشبه المحاكمة المفتوحة لكل المتسببين في هذه المجاعة الشرسة في بلاده. كما احتوى المعرض على منحوتات وأعمال كولاج ولوحات حروفية منفصلة عن تقاليد الطباعة الحجرية، مع احتفاظها بالمواد الخام من معادن وحجارة ومخطوطات أصلية وأخرى شبيهة بها، من أجل التعبير عن حقبة ما بعد الحداثة، واستثمار الوسائط المتعددة في الإنتاج الفني، ومن ضمنها أعمال الفيديو آرت والتصوير الضوئي المشمول بعبق الفلكلور والمهن الشعبية وحتى الفنون الرفيعة كالشعر والقصة، بالإضافة إلى المساحات الروحانية التي يمنحها بسخاء وكرم المعتقد الديني للمجتمعات المستقلة والمتسامحة، من دون قهر وإقصاء للإثنيات والأعراق والمعتقدات الأخرى، وهو الأمر الذي فرض أسئلته المقلقة بعد التقسيم وانفصال الهند عن باكستان في العام 1947 خصوصا بعد ظهور الحركة الشيوعية والمتعاطفين معها من النشطاء والفنانين الذين قاوموا سياسة « الأرض المحروقة » التي انتهجها المستعمر البريطاني في ريف البنغال خلال الحرب العالمية الثانية، وبعد تجاوز مرهق ومأساوي لهذه الحقبة الداكنة من تاريخ شبه القارة الهندية، حوّل الفنانون أنظارهم إلى الحساسية الفوتوغرافية لفن الطباعة الحجرية، والحفر الخطّي، والبحث عن المشتركات الثقافية لتكوين هوية جديدة تتوسّل المرونة الفكرية والحوار المعرفي وتبادل الخبرات الفنية بين البلدان التي قسمها المستعمر، والتي ظلت لقرون بعيدة محتفظة بوحدتها وتناغمها الاجتماعي والعقائدي. مزاج حداثي انحازت الأعمال المعاصرة في هذه البلدان للتجريب والمزاج الحداثي، ففي أواخر الخمسينيات وما بعدها من القرن الماضي، وكان واضحا تأثر هذه النتاجات الحديثة بالتيارات الفنية الصادمة والمتمردة في أوروبا مثل السوريالية والتجريدية وفنون التحريك والأنماط التعبيرية الديناميكية، التي استفادت رغم هذه القفزة النوعية في المحتوى والتقنية من الإرث العريق لأساليب وتقنيات الحفر والطباعة الحجرية، وكان طبيعيا أن تنبثق من جذور هذا الفن الأصيل أعمال نحتية وفراغية، توازن بين التقاليد الشعبية وأصدائها العميقة، وبين التجارب الأوروبية المعاصرة المحايثة للتطورات الفنية وتنوع الخامات وتعدد المفاهيم الفكرية التغييرية، خصوصا بعد الحربين الكونيتين، وما تلتها من ثورة مضادة على الأشكال التقليدية للفن، وللبدائل الثقافية عموما. لقد ساهم الفنانون المعاصرون في المزج بين الطباعة الحجرية والتقنيات الرقمية إلى جانب الممارسات التقليدية لابتكار مفردات جديدة للخروج بنتائج فنية قابلة للمعالجة وإعادة تحليل الواقع من خلال الوعي الفني الفردي، والتفكير الجمعي أيضا، بإزاء التحديات الجديدة التي تواجه فئة الشبان والمراهقين في الهند وباكستان وإقليم البنغال، تحديات مثل الهجرة وأتساع الهوة بين طبقات المجتمع، والصراع بين القيم المتجذرة والأخرى الوافدة، وصولاً إلى تفكيك ظاهرة الوعي الممزق بين الواقع الخشن والحلم الطوباوي، وبين النمط المحلي المهادن والمتعايش، والنمط الآخر التغريبي الموغل في أنانيته وجشعه المفرط.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©