الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«أفضل عرض».. مؤامرة مدبّرة لسرقة الروح

«أفضل عرض».. مؤامرة مدبّرة لسرقة الروح
24 سبتمبر 2014 21:20
----- عندما يتعلق الأمر بعملية اختطاف للروح عن طريق مؤامرة مدبرة بكل مكر متوحش، يجد المشاهد نفسه مصدوماً بما لم يكن يتوقعه. البعض سيرتاب منذ البداية بالحبكة المرسومة بعناية ودراية درامية ذكية تخاطب شريحة ذواقة خبيرة من المشاهدين ونقاد السينما، ولكن ما يمكنك أن تتوقعه لن يبلغ المدى الذي كشفه الفيلم في آخر دقائقه، فقد نهجت القصة مخططاً ذكياً أخذ المشاهد الى انعطافات عديدة مضللة، وإن كانت مقنعة في سياق تسلسلها الرائع، وجعلته يتأرجح به بين النفور والتعاطف مع شخصيتي الفيلم الرئيسيتين (كلير وفيرجل). ----- كتب الإيطالي "جوزيبي تورانتور" وأخرج فيلم الغموض الرومانسي "أفضل عرض"، الذي تشعر وأنت تشاهده وكأنه رواية من العصر القوطي في القرن التاسع عشر على الرغم من أن أحداث الفيلم تدور في عصرنا هذا، عصر التكنولوجيا الحديثة. "أفضل عرض" الفيلم الإيطالي الحاصل على ثلاث عشرة جائزة من مهرجانات عديدة، هو ميلودراما فاتنة. فعلى الرغم من أن الكاتب والمخرج جوزيبي تورانتور يضع بالتأكيد بصمته على الفن المثير في هذا الفيلم فإنه مزج فيه لمسة هيتشكوكية فعالة، بل إن هناك أثراً من حقبة السبعينيات من القرن الماضي يطل برأسه إلى حد كبير، حقبة دي بالما دي مايوركا (تذكر بفيلم "الهوس"). البطل في عزلته يقوم النجم "جيفري راش" بدور بائع المزاد العلني المرموق المتألق النجاح "فيرجل أولدمان"، الذي يعتبر أحد أفضل الرجال في مجال عمله، فهو يستطيع بكل بساطة أن يبيع تحفاً ومقتنيات أثرية وفنية يعود عمرها إلى مئات السنين مقابل ملايين الدولارات في دقائق معدودة. وبالإضافة إلى خبرته الهائلة في اكتشاف القطع الفنية الأصلية، كان يتميز بنظرته الواثقة والثاقبة. وفيرجيل الرجل الأعزب الذي لم يسبق له الزواج أبداً، لأنه كرس حياته لعمله، لدرجة أنه لم يجد فرصة ليتزوج، هو شخص وحيد صعب الطباع، يملك خزانة كبيرة من القفازات (مصاب بهوس الخوف من الجراثيم) وغرفة كبيرة سرية خفية وراء خزانة القفازات كل جدرانها مغطاة بلوحات فنية لا تقدر بثمن وكلها لنساء جميلات، من عصور مختلفة، وكلها تلتقي بنوعية شخصياتها الظاهرة في اللوحة مع نوعية روحه الوحيدة. كانت متعته أن يجلس في الغرفة التي لا تضم من الأثاث سوى كرسي وثير ومكتب وبعض الكتب المتناثرة في الزوايا يتأمل في وجوه السيدات ويتأملنه، وكان أحيانا يتلمس خدودهنّ بلطف، وتلاحقنه بنظراتهن ويلاحق شعاع الروح في النظرة التي خلقتها ضربات ريشة الفنان في كل لوحة. تتصل به فتاة شابة، كلير إيبيتسون، تقوم بدورها "سيلفيا هوكس" لمساعدته على بيع الأشياء القيمة في الفيلا التي ورثتها عن والديها. كلير تصعب المهمة على فيرجيل – كما كانت مهمتها بالأصل صعبة – إلى أن تزهر الرومانسية بينهما، وينغمس فيها فيرجيل دون أن يعي ما يدور. الخروج من العزلة تبدأ حياة فيرجيل بالتغير منذ اللحظة التي تتصل به تلك الفتاة المجهولة وتطلب منه على الهاتف أن يقيم التحف التي تملكها في منزلها لكي تبيعها في مزاد، يقول بحزم وثقة إنه كعادته سيرسل مساعده ليقوم بالتقييم الأولي، لكنها تصر برجاء حار أن يقوم هو بالتقييم، ويقبل وإن كان على مضض، وكأنه يخشى أن يكسر وتيرة نظام عمله الذي شرعه لنفسه واحتمى به والذي يخلق في داخله إحساساً بالرضى رغم كل الهشاشة الكامنة وراء وجهه الجامد مثل لوحة زيتية؛ لا يظهر أي انفعال ولا يشارك أي شخص. كانت شخصية فيرجل تمثل كل الدقة والحذر، حتى أن أحد معارفه قال له ذات يوم: "أنت بارع جداً في الحديث فعلياً دون أن تقول أي شيء". يكسر فيرجل روتين نظامه أمام غموض تلك المرأة وهو لا يدري بأنه بذلك بدأ أول خطوة في كسر دفاعاته الذاتية ضد التفاعل الإنساني بكل روعته وكل ضعفه وخداعه وخطورته. وسرعان ما اكتسحت شخصيته وهيمنت عليها بنوع من المؤامرة لا يتقنها إلا البارعون. لقد بدأت كلير ألاعيبها مع اولدمان بإفقاده تمسكه بوقاره الوظيفي فجعلته هو أول من يعاين تلك القطع الأثرية، وهي المهمة التي اعتاد أن يوكلها إلى مساعده. كما أنها كانت تستثير كل حواسه بما فيها الغيظ والفضول عندما لم تكن تحضر المواعيد المتفق عليها. كان أولدمان يضع بينه وبين الناس والأشياء مسافة، اعتاد على لبس القفازات كي لا يلمس الأشياء مباشرة. وصنع لنفسه حياة مخملية لكنه عاش وحيداً، متشككاً في الجميع مزهواً بعزلته، حتى أنه يحتفل بعيد ميلاده وحيداً في المطعم ذاته الذي اعتاد أن يأكل فيه، والذي خصصت له فيه خزانة توضع فيها له أدوات الطعام الخاصة به والتي رسمت عليها الأحرف الأولى من اسمه بطريقة فنية تزيينية. يدخل المطعم وسط ترحيب من طاقم العمل فيه، و كل من في المطعم يظهر تعابير الدهشة والريبة والتساؤل، رجل عجوز يصبغ شعره، ولا ينزع قفازيه حتى أثناء الأكل، ويأتي لمطعم فاخر ليتعشى وحيداً! نشأ أولدمان يتيماً وعاش طفولته في مدرسة الراهبات، لكنه كان يجد في العقاب الذي يناله منهن بالاشتغال على الترميم ما يتوافق مع ميل خفي في نفسه للفن، الأمر الذي جعله يولع بهذا الفن، وربما أنه بسبب هذا أصبح ملماً بالفنون وتقنيات الرسم وكيفية التفريق بين الأصيل والمُقلد، ومع ذلك وقع من مأمنه، وأصيب إصابة قاتلة رغم أسوار برجه العالي. فقد كانت مظاهر القوة فيه تخفي وراءها أكثر البنى الإنسانية هشاشة. إذاً، يوافق (فيرجل أولدمان)، الخالي البال، على إجراء عملية تقدير قيمة لمجموعة فنية في قصر زوجين توفيا، وتركا وراءهما ابنة ترفض مغادرة القصر وإظهار نفسها للناس بسبب اصابتها برهاب الأماكن المفتوحة، الذي أصيبت به بعد مأساة عاشتها. يزداد افتتان فيرجل بالفتاة الغامضة (كلير) التي لا يتمكن من رؤيتها، وهي تحادثه من وراء باب غرفتها المغلق. لعبة المرأة يستحضر المخرح روح الإثارة وهو يرسم مخطط ازدياد افتتان رجل المزادات بالشابة ومنزلها المعقد من الناحية المعمارية المفعم بالثراء البصري، وذلك بفضل تصميم الإنتاج الثر المعقد المزدان بالأعمال الفنية العالمية المعروضة، وهو أيضاً مفعم بالثراء السمعي، بفضل الموسيقى التصويرية الخصبة، التي واكبت كل حدث وتبنته بأن دخلت في نسيجه وخرجت معه قطعة متكاملة بصرياً وسمعياً. لقد انهار حذر وخوف أولدمان من النساء بعد أن بدأ يتلاشى أمام أنوثة كلير مثلما ينهار السد أمام اكتساح الطوفان. دقة وخبرة أولدمان في معرفة الفن المزيف غابت عنه، ورغم كل الإشارات التي كانت تدل على أن في القصة زيف ما، وأن أمامه عالم تمت صناعته بطريقة سريعة ومزيفة، فإنه صم سمع قلبه وقبل التضليل ضمناً. وقاده الافتتان بكلير إلى تغييب كل مزاياه وقدرته على اكتشاف ذلك العالم المزيف بشيء من إرادته. تلاعبت كلير بفيرجل الذي عاش عمره زاهدا في القرب الحميمي من المرأة ومنغمساً في عالمه المثالي الفج، فاخترقته من تلك المنطقة الدافئة، وقد كانت، هي (كلير) نفسها، تشكل لوحة فنية مثيرة ومفعمة بالحياة، ولا يمكن لسحر أي لوحة أن يقف أمام هذا التأجج. ويكاد الفيلم يخبرنا بأن أول دفاعات المرء النفسية هي هذا الإشباع العاطفي، الذي لا يجب أن يحرم منه إنسان، وأن الإنسان دونه غير متوازن في بحر الحياة وأن مركبه عرضة للانقلاب والغرق عند أول عاصفة دون أشرعته. دخل فيرجيل المنزل المليء بالممرات والأقواس المرتفعة وهمسات الأسرار التي تكاد تسمعها. ربما كان الفيلم يقدم الفن على أنه عزاء النفس الوحيدة المنعزلة المضطربة ربما كانت هذه هي الطريقة التي يجد فيها فيرجيل الإنسان في شخصيته الكئيبة الحزينة. عملت كلير على إرباك أولدمان بغموضها، بمرضها الغريب، بانفعالاتها الحادة، باتهامها إياه بأنه يغشها بأن لا يعطي اللوحات والتحف في منزلها سعرها الحقيقي، ثم بضعفها عندما تبكي أو عندما يترقرق صوتها وتتصرف بحميمتها المباغتة، وفي بوحها له بتفاصيل مرضها المزيف، ثم بتخطيها حدود خصوصيته عندما صرخت به لأنه يصبغ شعره، (والأمر الغريب أنه يتخلى عن صباغة شعره من لحظتها). تنطلي الخديعة على أولدمان فيصبح عاشقاً. كان عشقه مشرباً بمزيج من الفضول والعطش العاطفي. فقط عندما تتأكد كلير بأنه أصبح يعشقها تظهر لناظريه بسلاسة منطقية لا تثير حفيظته. تجلس معه ثم بدورها توحي له بأنها مغرمة به أيضاً. يأخذها في نهاية الأمر إلى قصره الفخم الخالي حتى من الخدم. يدخلها إلى عالمه الفاخر الثمين، إلى كنزه الذي يضم كل اللوحات التي اقتناها. ويقرر أنه سوف يعتزل حياة المزايدات ويعيش برفقتها هي المرأة الجديرة بأن يتخلى عن كل عالمه من أجلها. من مأمنه يؤتى الحذر في الفيلم شخصية أخرى قدمت بمنتهى الإتقان لنكتشف في النهاية أنها كانت محور كل المؤامرة، التي أودت بشخصية فيرجل التي ألفها في نفسه. إنه صديقه، نصف الفنان، "بيلي" (دونالد ساذرلاند)، الذي كان يلعب دورا محددا في المزادات يرسمه له أولدمان نفسه. كان دوره يكمن في المزايدة على اللوحات التي لم يكتشف اولدمان قيمتها الثمينة، ويرسو عليه المزاد، ولكنه في الواقع يقوم بهذا لصالح فيرجل نفسه. كان دور بيلي يبدو ثانوياً في حياة فيرجل، بما أنه يقوم بإدارة هذا الجزء من عمله غير القانوني فقط. وقد كان بيلي في الأصل رساماً يتوق للشهرة، لكن رغم كل شغفه ومحبته للفن، لم ينجح في إقناع شريكه أولدمان بتلك الموهبة الفنية، حتى إن فيرجل واجهه بصراحة فجة (كعادته) بأن حب الفن ومسك الريشة لا يصنعون منه فناناً، وأنه، أي بيلي، بحاجة لغموض إيمان الفنان الأصيل، وأنه في الحقيقة لا يملكه. كانت إشكالية "بيلي" أنّ أولدمان لم يعترف به كفنان تشكيلي. ربما أراد بيلي الذي جعله ضيق أفق موهبته، يتقبل على مضض مشاعر فشله المضنية ويبلعها مؤقتاً، ثم مسوقاً بمشاعر الحقد والتحدي والرغبة في الانتقام، أن يلقن أولدمان، المتباهي البارع في الدقة والإتقان والنظام على طريقته، درس العمر وبالضربة المدمرة. لقد دبر له المكيدة بطريقة احترافية، ولأنه يعرف نفسية أولدمان فقد قرر أن ينفذ إليه من نقاط القوة التي يتباهى بها ذلك الرجل. لقد صنع بيلي لأولدمان عالماً مزيفاً: قصراً ممتلئاً باللوحات والتحف الأثرية وأيضاً قطعاً متناثرة من الخردة المعدنية، وكأنها قطع متناثرة لرجل آلي. كان يعرف أن دراسة أولدمان لها علاقة بتصنيع الرجل الآلي، وقد وضع في ذلك القصر الفتاة الجميلة كلير، وجعلها تتقن دورا رسمه لها بعناية. كذلك أوجد في طريق أولدمان شاباً خبيراً في تصنيع الرجل الآلي روبيرت (جيم سترجس) ذا خبرة بالعلاقات النسائيه، كان دوره أن يلعب شخصية المرشد في الحب لأولدمان، ويدلّه على الطرق المناسبة في التعامل مع تلك المرأة التي لا يراها وهي تنظر إليه من ثقب في جناح عصفور مرسوم على الحائط في قصرها القديم المتداعي، بالإضافة إلى دوره في إيهام أولدمان بأن تلك القطع المعدنية الصدأة المنثورة في قبو المنزل لها قيمتها التاريخية في كونها لرجل آلي مصنع في فترة تاريخية قديمة أذهلت الناس وقتها، ليرسم بذلك خطوات فيرجيل التي تقوده للوقوع في حبائل المكيدة. ثم إنه (بيلي) استخدم حارساً عجوزاً للقصر وكان دوره أن يقدم معلومات مضللة لأولدمان. كل تلك العناصر كانت هي العالم المزيف الذي خلقه "بيلي"، وعاش فيه أولدمان دون أن يشك للحظة بزيفه، سعيداً به طائراً بخفة الريشة من السعادة. . لم يكن يدري أن "كلير" مع باقي عناصر المؤامرة ستقوم بسرقة تلك اللوحات وسوف تختفي، ولا يبقى في صالته السرية، سوى ذلك الرجل الآلي الذي يكرر عبارة: "هناك دائماً شيء حقيقي مخبأ في كل عمل مزور" بصوت صديقه بيلي، واللوحة التي كانت تدعيّ بأنها من رسم والدتها، ثم يكتشف أولدمان أن تلك اللوحة إنما هي من رسم بيلي. رغم كل شيء ظلّ "أولدمان" مؤمناً بفكرته التي تقول: "هناك دائماً شيء حقيقي مخبأ في كل عمل مزور". كان يقول لـ بيلي: "عندما يقوم المزور بتقليد أعمال الآخرين، لا يستطيع مقاومة وضع لمسته الخاصة، غالباً يكون تفصيلاً صغيراً لا يلفت نظر أحد، ضربة فرشاة غير متوقعة مثلاً، في كل عمل يخون نفسه، ويكشف شيئاً خاصاً من أحاسيسه". لحظة الانهيار ينهار أولدمان في هذه الأثناء ويدخل المستشفى حتى إذا ما خرج منه كان مخذولاً وتائهاً. يستعيد ذاكرة الأحداث. يسأل تلك المرأة المعاقة التي تجلس في المقهى أمام تلك الفيلا فتخبره بتفاصيل خديعته وإن تلك الفيللا لم تكن سوى فيللا مستأجرة لأناس يشتغلون بالسينما. يكتشف إنه خُدع في كل شيء، وسرق منه كل شيء. انتقام مروع لسبب غير جدير. وحتى عندما يذهب أولدمان إلى ذلك المطعم التي ادعت كلير أنه المكان الوحيد الذي أحبته، يكتشف أن ذلك المطعم أيضاً كذبة تماثل كذبة الرجل الآلي، وأنها حتى في حديثها إليه عن ذكرياتها، كانت تخدعه. يمثل فيلم "أفضل عرض" حالة نادرة من الأحداث، إنه شيء من الجنون يأخذنا في رحلة مع شخصياته المدمِّرة والمدَمّرة. هناك الكثير مما يمكن قوله عن الفيلم الذي يستغرق وقتاً طويلاً ليكشف لنا المؤامرة ويحل خيوطها. من الواضح تماما أنه تمت زعزعة اشتباك الأحداث كما شلال من وحي، واشتبكت الاستعارات ثم انهمرت فوق وعينا دفعة واحدة. وكان لسقوطها دوي مرعب، هو دوي سقوط روح فيرجيل أولدمان أثناء اكتشافه لخيوط المؤامرة. لكن فيرجيل يعود عن فكرة تقديم شكوى إلى الشرطة في نهاية الفيلم، مع أنه يقينا سيسترد ما سرق منه لو فعل، ولكنه يدرك أن ما فقده ولن يرجع إليه أبدا هو شيء من روحه أغلى من كل تلك اللوحات التي شكلت يوما عالمه. ربما تستعاد اللوحات، لكن كيف له أن يستعيد نفسه بكل مزاياه التي عهدها في نفسه وشكلت توازنه طوال عمره؟ وينتهي إلى مشفى أو منتجع لعل أعصابه ترتاح. . وروحه المنهكة تهدأ بعد ما أصابها من تلك التجربة التي خرجت بكل ما اختزنه من عاطفة وحب! ربما كان رهانه على شيء قالته له "كلير"، ولم يدرك تفسيره بلحظتها، قالت له ذات مساء وهما في لحظة حميمية: (فيرجل "إذا حصل أي شيء لنا. . أودك أن تعرف أني. . أحبك). وربما أراد أن يبقى مؤمناً بهذا ليملك على نفسه مابقي منها بعد ذاك التشظي المؤلم. إن العبارة التي قيلت في الفيلم: "هناك دائماً شيء حقيقي مخبأ في الشيء المزور"، تقودنا لاكتشاف أن هناك شيئاً حقيقياً كامن في الميلودراما هذه، وهو يأسرنا، تماماً كما أسرنا ذلك الأداء البارع لـ"جيفري راش". معمارية الفيلم كانت أيضاً المنهجية التي بنيت بها الحبكة لتصعد بنا إلى ذروة لغز يكشفه الفيلم أيضاً بطريقة منهجية مستنيرة، وطبقة إثر طبقة، فتُحل التعقيدات واحدة إثر أخرى بانهيار متتابع شبيه بانهيار الزيف وسطوع الحقيقة أمام أعين فيرجيل، كل مستوى فيها على حدة، حتى يصل في نهاية المطاف إلى النواة، إلى الحقيقة، حيث تتمكن كمشاهد من تحديد موضوعي للمشكلة. في جعبة الفيلم عدة انعطافات ذكية ومفاجآت مصممة بشكل جيد. وكان التوظيف السمعي لعناصر كثيرة أخرى في الفيلم، مثل انهمار المطر والموسيقى الخصبة، التي كتبها الملحن الأسطوري إنيو موريكوني البالغ من العمر 83 عاماً ترتفع مع شدة انهماره، هو لمسة فنية بارعة باذخة ورقيقة في آن معاً. كانت الموسقى المذهلة تتناغم وترتفع لتوازي حدة إنهمار السيول وتترقرق لتوازي حالة العشق الرومانسية التي يختبرها البطل، وتتلوى مع الخديعة، وتقسو مع الخطر. وقد أضاف فن اللقطة السينمائية إلى الصورة عند فابيو زاماريون وماوريتسيو ساباتيني وتصميم الإنتاج الرائع شيئاً فارهاً يصعب قياسه. شيء واحد أخذ على الفيلم هو هذه الإثارة التي خف وهجها عندما طال كشف الأسرار المحورية التي ركب عليها الفيلم. لم ينسَ المؤلف والمخرج البارع جيوسبي تورناتور توظيف كل العناصر المتاحة، حتى الأسماء وظفت في الفيلم لدلالات معينة: "فيرجل أولد مان" فيرجل اسم يوناني قديم لشاعر، كذلك محل (داي آند نايت). فكرة الفيلم، كلها مبنية على التمييز بين الشيء الحقيقي، والشيء المزور في الفن، وفي الحياة، حتى الأشخاص، والأصدقاء، ونظرتنا للحياة، والمشاعر والأحاسيس الإنسانية الحقيقية، والتي تبقى قيمتها مدى الحياة، ونتجنب بها آلاماً مضنية. -------- كادر فنيات فيلمية * تم تصوير معظم مشاهد الفيلم في إيطاليا، لكن أحداثه تجري في مدينة أوروبية غير محددة الهوية كل من فيها يتحدث الإنجليزية حتى صاحب المقهى. * ديكور الفيلم الرائع كان للمبدع رافايلو جيوفانيتي. * رصدت للفيلم ميزانية 13 مليوناً ونصف المليون يورو، ومدته ساعتان وإحدى عشرة دقيقة. * بعض الجوائز التي نالها الفيلم إلى اليوم: - جائزة ديفيد دي دوناتيلو لأفضل فيلم 2013، ولأفضل موسيقى. - مرشح لجائزة دافيد دوناتيلو لأفضل مخرج. - جائزة الفيلم الأوروبي لأفضل مؤلف موسيقي: انيو موروكوني.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©