الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نزق الخيال

نزق الخيال
21 فبراير 2008 01:30
يحلو لنا ونحن نقارب بؤرة المتعة الإبداعية في مدح الجمال الأنثوي أن تستجلي بعض الفقرات الماهرة التي قام بها كبار الشعراء في وثبات خيالية نزقة، عندما جمعوا بين عناصر لاتقترن عادة في الحسّ العام، مما يدخل في باب الطرافة الموقظة للحساسية، وربما كان الشعراء المؤهلون لهذا النوع من ابتكار المفاجآت هم الذين حرموا من سلامة بعض الحواسّ، فقامت آلية التعويض الحكيم بمضاعفة نصيبهم من الحواسّ الأخرى، أو بالنفخ في جذوة نار الخيال المتقد عندهم· لكننا لا نبعد عن التمثيل لطاقته الشعرية الوثابة في تخيلها عندما نستحضر قوله فيما نحن بصدده من تصوير الجمال: حوراء أن نظرت إليك سقتك بالعينين خمرا وكأن رجع حديثها قطع الرياض كُسين زهرا وكأن تحت لسانها هاروت ينفث فيه سحرا وتخال ما اشتملت عليه ثيابها·· ذهبا وعطرا ولنتأمل أطراف التشبيهات الأربعة المتوالية في هذه المقطوعة الوجيزة لندرك الفجوة الفاصلة بينها والصانعة لشعريتها: عين ناظرة = خمر مُسكِرة حديث عذب = زهر في روض ما تحت اللسان = ملاك السحر ما تحت الثياب = ذهب وعطر فالمسافة بين النظر وسقيا الخمر بعيدة يحتاج اجتيازها وقوداً حدسياً متوهجاً مثل المسافة بين الحديث والزهر واللسان والسحر والجسد مع الذهب والعطر، فكل ذلك ليس مما يعيره الحسّ دون قفزات نزقة يشعلها وجدان مستوفز، وقد أسهب طه حسين باستبطان عميق في أولى مطارحاته لشعر المعري في الحديث عن مصادر الصور الحسية لدى العميان، فأرجعها إلى تخيلاتهم وتوهماتهم ومعلوماتهم إلى جانب تمثلاتهم لكلام المبصرين، لكن كبار مبدعيهم يتجاوزون ذلك كله ليضيفوا خبرتهم الروحية الحارة بمعطيات الحس، ولايفوتنا أن نلاحظ في الأبيات السابقة تركيز بشار على الصوت المسموع في وصف جمال المرأة، فهو الحبل الذي يشده إليها وهو القائل بأن ''الأذن تعشق قبل العين أحيانا'' أما حديثه عن الجسد باعتباره عجينة من الذهب والعطر فهو يتخطى اللمس الذي يتعرف به على الآخرين ليشير إلى القيمة المادية في عالم تباع فيه الجواري دون استنكار، لكن اللافت عند بشار أنه لايعترف بعجزه الشخصي عندما يتحدث تماما كما تعوّد المبصرون فيقول في سياق مقارب: وما ظفرت عيني غداة لقيتها بشيء سوى أطرافها والمحاجر بحوراء من حور الجنان غريرة يرى وجهه في وجهها كل ناظر فهو يجعل حواسه الأخرى من شم ولمس وسمع بمثابة عينين يمدهما في اتجاه صاحبته فلايظفر إلا بالأطراف والمحاجر، من حورية حوراء (لاحظ الموسيقى) ساذجة بريئة تعكس للمشاهدين وجوههم كالمرآة الصافية، يقفز مرة أخرى بخياله الوثاب لالتقاط النور الداخلي للإنسان، مادام قد عجز عن رصد النور الخارجي·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©