السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الطريق إلى الحداثة الإماراتية

الطريق إلى الحداثة الإماراتية
3 يناير 2013 10:06
كان الرجل يقف أمام إحدى الوثائق التي منحتها إدارة المدرسة الأحمدية لأحد طلبتها في الخمسينات من القرن الماضي، وهي شهادة بإيفائه المتطلبات العلمية في إحدى المراحل التعليمية، وقد جرى تصويرها فوتوغرافيا لتكون واحدة من تلك الصور التي ضمّها معرض لصور فوتوغرافية تتعلق بالمدرسة وبُناتها الأوائل وروّادها، فطلبت من زميلي المصور الفوتوغرافي أفضل شام وأنا أن يتنحى قليلًا ليتيح فرصة التقاط صورة للوثيقة. المعرض كان الفعالية الأولى في احتفالية ندوة الثقافة والعلوم بمناسبة مرور مائة عام على إنشاء المدرسة واستمرت لثلاثة أيام بمقر الندوة ومقر المدرسة في منطقة الرأس في برّ ديرة بدبي، وأثناء التجوال فيه قال الزميل شام أن الرجل ذاته يقف أمام صورة لواحدة من الشخصيات وأنه على شَبَهٍ به. أي أن من الممكن أن يكون ابنه أو قريبا له. كان لا يزال واقفاً، يلتقط صوراً بهاتفه الخلوي للصورة المعلقة على المسند، وكانت ابتسامة على وجهه تكاد تنفرج، “لا بدّ أنك سعيد بهذه الصورة” فردّ سريعا: “طبعا، إنهم المواطنون الأوائل الذين درسوا في البلاد ودرّسوا فيها”، وفي إشارة باليد والعين معا عن الرجل الذي يقف أمام صورته ومَنْ هو بالنسبة إليه، لم يتردد في القول سريعا: “إنه والدي”، وقد انفرجت الابتسامة كاملة على صفحة الوجه. وفي ما يشبه الممازحة في سؤال عن أنه يبدو شاباً قياساً إلى والد في مثل هذه السنّ، ردّ بأن الراحل قد عمّر طويلًا وضحك. كان صاحب الصورة هو المربّي الشيخ عبد الله بن ناصر بن حنظل، وكان اسم الشاب: ناصر، كما قال. ربما تشير هذه الحكاية التي استغرقت ثواني فحسب إلى ذلك الاعتداد بالذات من رجل إماراتي بتاريخ مشرّف لأهل دبي بالمدرسة الأحمدية، فهي اللبنة الأولى في التعليم الحديث في دبي، التي بادر إليها المجتمع الأهلي بعد أن كان من الممنوع على أهل الإمارات التعليم بعد أن أدرك البريطانيين خطورته على وجودهم في المنطقة حتى قبل اكتشاف النفط، بحسب ما تقول وثائق تتعلق بتاريخ الإمارات. أبعاد رمزية هكذا باتت الأحمدية رمزاً ومعنى وليست فكرة فحسب. أي معنى للعيش في الظلمة ذاك سيتلقفه تاجر لؤلؤ كان يبحر باتجاه أمم أخرى أو حتى مناطق مجاورة، ويرى ما الذي يفعله العلم في المجتمعات؟ ربما هي الغيرة المحمودة من ذلك المنجز أولًا ثم الوعي بضرورة التعلّم ثانياً، فتبادل الأفكار حول هذه الأهمية مع أصدقاء وأقرباء يلتقون في المصالح والأفكار والمنهج، ثالثاً. لكن يبدو أن الغيرة، وهي محرّك أساسي في النفس البشرية، قد شكلت أساساً لذلك الدافع الذي ألهم تاجر اللؤلؤ الدبوي أحمد بن دلموك إلى أن يفكّر بمدرسة نظامية حديثة تخدم أهل دبي جميعاً وبلا تفرقة بين أيٍ منهم على أساس موقعه الاجتماعي؟ أليست هي الغيرة، حقيقة؟ إذ بالتأكيد كان هناك الكثير من الأثرياء في دبي في أوج ازدهار تجارة اللؤلؤ وسواها. وربما يكون هذا ما قاد الارتقاء بالوعي بضرورة التغيير الاجتماعي عبر العلم من الانغماس بالشأن الخاص إلى الشأن العام إلى حدّ أن وريثه في المدرسة الأحمدية قد أوشك على الإفلاس في الأزمة الاقتصادية العالمية الخانقة التي أصابت دبي بوجع شديد خلال الثلاثينات من القرن الماضي. وسط هذه الظلمة وفي السنة الثانية من القرن العشرين اتخذ الرجل قراره بأن يوقد شمعة ولا يلعن الظلام وأن يبدأ سعيه في مشوار الألف ميل، مهما كلّف الأمر، في ظروف اجتماعية وسياسية وإنسانية وشروط ثقافية، تستدعي الوقوف أمام هذه التجربة، ككل وانتزاع القبعة. وأغلب الظن أن مصدر الاعتزاز ذاك لدى الأخ ناصر عبد الله بن ناصر بن حنظل هو تاريخ ذلك الكفاح الذي خاضه المجتمع الدبوي الأهلي من أجل التعليم وفتح بواباته أمام أهالي دبي من أبناء كل الناس دون أن يكون حكرا على أبناء التجّار والميسورين، فحسب. مكان تحت الشمس في العام 1912 عندما كان العالم كله على حافّة الحرب الكونية الأولى، كان التاجر التنويري أحمد بن دلموك يدرك أن العلم هو الطريق إلى المستقبل، وأن الوقت يدرك هذا المجتمع.. وأنه رغم كل الظروف على أبنائه أن يكون لهم مكاناً تحت الشمس؛ وأن هذا المستقبل سيبدأ من إدراك الطفل لشكل الحرف ثم شكله في الكلمة فمعناها أيضاً، عبر استلهام المادة التعليمية واقتباسها من الكتاتيب ومجالس العلماء، أي علماء الدين. إنهم تجّار اللؤلؤ الذين آثروا أن يتعلم أبناء مدينتهم الكتابة والحساب وأن يحفظوا بعضاً من الآيات الكريمة ثم يبحروا في العالم ويروا تجارب الأمم الأخرى بعين أخرى، وهي رؤية سوف تأتي أكلها في الأربيعينات عندما ظهر العديد من تجّار اللؤلؤ الشعراء الذين نقلوا التجربة الثقافية العربية إلى الإمارات من محيطهم العربي ومن القوس الحضاري العربي والإسلامي للثقافة العربية والإسلامية... ثم أن يسهموا في الجدل الدائر في هذه الثقافة بكل إشكالياتها وأزماتها ومآزقها في الأربعينات التي كانت تمور بأسئلة عميقة حول الاستقلال والهوية وسواهما. أيضا، أثمرت فكرة المدرسة الأحمدية عن فكرة الشروع بالنظام التعليمي بدءا من العشرينات. نظام تعليمي يختلف عن الكتاتيب والمجالس ودروس الجوامع وينتمي للتعليم الحديث، أي نظام محكوم إلى إدارة يقودها فريق لا رجل واحد وتحدد استراتيجيتها المهنية والتعليمية معايير حديثة وليست وفقاً للمقايضة، بمعنى أن يأخذ شيخ الكتّاب أجره بيضاً وخبزاً لقاء حفظ سورة الفاتحة وبعض السور الأخرى التي تعين المرء على الصلاة. إن الفكرة الأساسية للمدرسة الأحمدية هي التحفيز، بأدوات العلم والمعرفة، على أن تستقل ذاتياً في تفكيرك وأن تستقل عن المجموع دون أن تنسلخ عنه تماماً، ربما كان الوجدان العميق لأحمد بن دلموك وأشقائه من التجّار يتّجه إلى هذا المستقبل، بكل ما يحمله هذا المستقبل من احتمالات مفتوحة على كل الوقائع والمصائر الفردية والجمعية، لكن لحظة التفكير بالمدرسة الأحمدية وتأسيسها كانت لحظة فارقة في تاريخ الإمارات عموماً ودبي على وجه التحديد. معانٍ ودلالات أدوات الكتابة .. قلم رصاص، وممحاة، ومبراة. طالب في سنّ مبكرة من عمره يجلس الآن على مقعد وفي يده الكتاب. كانت نهاية التعليم على الطريقة التقليدية، أي الخلاص من الترديد والتكرار الجماعي وبداية عصر جديد في التعليم بمنهاج يقصد التربية والتعليم، فلم يعد الأمر مجرّد محو أمية، بل هي انطلاقة أخرى تأسست في دبي منذ العشرينات. بالتأكيد رافق ذلك وجود أساتذة جدد جرى استقدامهم من الاحساء في السعودية ومن الزبير في العراق، وكتب تمّ بناؤها على اعتبارات الأعمار والمراحل الدراسية المتتالية في مرحلة عمرية تخصّ الطالب في سنّ يكون فيها الطفل خلالها مؤهلاً لاكتساب المعارف على نحو طبيعي بحيث لا تُنسى، أي تبقى راسخة في الذاكرة فيأخذ الواحد من هؤلاء الطلبة صفة المتعلم في المجتمع باعتراف رسمي مكتوب من المدرسة ذاتها، أي أن الدولة التي يوجد هو فيها سوف تتعامل معه على هذا الأساس وتقدم له وظيفة تتناسب مع تعلّمه ومع مقدرته على المشاركة في إدارة شؤون الدولة والمجتمع. كل ذلك عنى الانتقال إلى فكرة أخرى غير معهودة عن علاقة الفرد بالدولة والمجتمع وعن إحساس كل منهما بالآخر بناء على فكرة أخرى مختلفة تماماً عن ما هو سائد. أيضا ثمة هذا التجاور الذي بدأ بين الشفوي والمكتوب في الثقافة اليومية للناس وحياتهم وعيشهم، وبدأ المجتمع باكتشافه والتعايش معه، بمعنى أن التجاور في الحفظ في الصدور من فرط التكرار يتجاور الآن مع الحفظ في الكتب والبدء بالنظر إلى التاريخ بعين أخرى ومستوى آخر إلى الحاضر، فدخلت إلى المجتمع الدبوي فكرة “المثقف” بوصفه المتعلم الذي بوسعه أن يقرأ في الكتب ويطرح فكرة. لنتخيّل أنه في العام 1920 كان عدد طلاب المعرفة والعلم 300 طالب. وهذا الأمر لم يكن قصراً على أبناء القادرين من أبناء تجار اللؤلؤ فحسب بل من أبناء كل الناس أيضاً ما جعل للمدرسة الأحمدية هذا الصيت، إذ لا بدّ أن خريجيها كان ينظر إليهم من المجتمع الإماراتي بطريقة مختلفة، فهي المدرسة الوحيدة التي أُنشئت على امتداد إمارات الساحل العماني، هذا ما يؤكده المثقف والكاتب عبد الغفار حسين الذي يعيد تاريخ بناء المدرسة إلى العام 1905 أو 1906 وليس العام 1912 في تلك الفترة التي حكم فيها الشيخ مكتوم بن حشر الراحل في العام 1906. إن إصرار المجتمع الأهلي الدبوي، أوائل القرن العشرين، وعزيمته على إنشاء المدرسة يتكشف بدءا من قصة رحيل الشيخ أحمد بن دلموك أثناء بناء المدرسة ببرّ دبي واستمرار نجله الشيخ محمد بن أحمد بن دلموك في ما شرع به والده ثم تلك التطورات في النظر إلى النظام التعليمي وفقا لنظرة أخرى لم تكن سائدة من قبل. كذلك فإن هذه الفكرة الحداثية التي أسست لها المدرسة الأحمدية هي التي دفعت بالمجتمع والحكومة معا إلى إعادة إحياء فكرتها بعد إغلاقها لستة أعوام في ثلاثينات القرن الماضي، فتبنتها حكومة دبي وأُلحقت بدائرة المعارف وأصبحت الحكومة ذاتها مسؤولة عنها منذ تعيين الشيخ محمد نور بن سيف المهيري على رأس الهيئة التدريسية فيها العام 1937. أي أن البذرة التي انغرست العام 1905 أو 1906 أو 1912 قد باتت الآن ممارسة اجتماعية يمارسها أفراد المجتمع، فيُنظر إلى الفرد إن كان متعلماً أم لا ذلك أن التعليم في دبي قد بدأ مجانياً تقريباً، والآن بات جانباً من فكرة العائلة أن الأبناء ينبغي أن يصحوا صباحا ليذهبوا إلى المدرسة الأحمدية وباتوا ينتظرون ما سوف ينجزه الأبناء ويحصلون عليه في تعليمهم وارتقائهم في هذا التعليم مرحلة بعد أخرى وابتعاثهم إلى الخارج لتحصيل علم أوسع إن كان في مقدورهم ذلك. بهذا المعنى أحدثت المدرسة الأحمدية التي بدأت فكرة في رأس تاجر لؤلؤ تنويري وذي أفق معرفي واسع تغييراً في فكرة المجتمع عن الدولة وممارساتها والفرد ودوره في الارتقاء إلى الأفضل دائما بهذا المجتمع.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©