الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

غربة الكائن في حضور المكان

غربة الكائن في حضور المكان
21 فبراير 2008 01:32
لا تظهر صورة المكان بمعزل عن حركة الشعور والنفس فيه، والرؤية الشخصية للكائن الذي يعيش فيه، فهو عبارة عن مكان فيزيائي مغطى بطبقة نفسية، ولا يتمتع بأي استقلال عن العلاقة المتبادلة التأثير بين الإنسان والمكان، ففيه ومعه تتأسس تجربتنا الوجودية، وأول ما يلفت النظر في تجربة الشاعر الإماراتي إبراهيم الملاّ، من خلال ديوانيه ''صحراء في السلال''، و''تركت نظرتي في البئر''، هو تلك الثنائيات التي تميز رؤيته إلى الأشياء والعالم، وتولد البنية الدرامية للقصيدة، فالمكان المغلق الداخلي، يقابله المكان الخارجي المفتوح، وإذا كان المكان الأول هو المكان المغلق الذي يحيل على ما هو حميم وخاص، فإن المكان الثاني المفتوح يحيل على ما هو عام ومجتمعي، وتتجلى العلاقة الوجدانية مع المكان الأول، كما تعكسها الحالة الشعورية المهيمنة في العلاقة معه، وهي حالة تتسم بالحزن والإحساس بالفقد واللوعة والغياب، أو يغدو دالا على علاقة وجودية تتصف بالسأم والعذاب: ها أنا متعب وهاهو النوم يغمرك باخضرار معتم الساعة متروكة على الطاولة والزمن في عروقنا يئن مثل جرعات من سأم طويل· مطرح للسرد يتحول المكان في قصائد الشاعر إلى بؤرة مولدة للسرد وللاستذكار، وعلامة على الغياب الذي يوقظ فيه صور الأحبة والأصدقاء والماضي وذكرياته، ما يجعله لا يظهر بمعزل عن العلاقة الوجدانية معه، وبالتالي يتحول إلى ذاكرة لوعي وجودي حزين، يعبر عن غربة الكائن، وشعوره بالوحشة واللوعة والفقد والحنين، في عالم يزيد من وطأة الشعور بهذه الوحشة وهذا الغياب، بعد أن انتقل الشاعر إلى موقع الهامش، وغدا حضوره خاصا وذاتيا، يتعمق انفعالات الذات ومشاعرها ومعطيات التجربة الحسية، إن صورة المكان المادية بوصفه وعاء التجربة التي يعيشها الكائن الإنساني قد تحولت إلى عنصر فاعل ودال في هذه التجربة، بعد أن اكتسى بتلك الملامح الشعورية من خلال البنية الاستعارية القائمة على التشخيص والتجسيم كآليات في الكتابة الشعرية، ساهمت في بعث الحياة والحركة فيه· ثنائية ضدية لعل قراءة عناوين قصائد الديوانين، يمكنها أن تشف عن هذا الدور الذي يلعبه المكان في النص الشعري الجديد، بعد أن أصبحت الصورة الاستعارية التي هي تشكيل مكاني، تشكل أداة التمثيل، والتعبير الجمالية عن هذه التجربة، وتنبع أهمية قراءة هذه العناوين من الوظيفة الاتصالية التي يقوم بها العنوان، باعتباره تكثيفا واختزالا لمعاني القصيدة، من خلال اختراقه لها وتشكيله محوراً لها، الأمر الذي يجعل منه معادلا رمزيا له ( أطياف، متاهة، الغائبة، إلى غائب، انتظار، هجرة، ذكرى، الغريب، شتات، لا أحد، ما تبقى، على العتبة···)، فهذه العناوين التي دلت على أسماء مكان أو معاني مجردة، أو صفات توحي جميعا بالغياب والفقد والضياع والرحيل · تظهر دلالية المكان من خلال الثنائيات المتقابلة أو الضدية، وفي مقدمتها ثنائية الداخل والخارج، أو ثنائية المكان المغلق الذي يحيل على ما هو خاص، والمكان المفتوح الذي يدل على ما هو عام، وتعكس هذه الثنائية جدلية العلاقة بين الذات والعالم، وطبيعة التجربة الشعورية التي تعيشها الذات على المستوى الوجودي، ففي المكان الداخلي تتجلى مظاهر الحياة الداخلية جميعا، ويجري إسقاط جميع هذه المظاهر عليه، من خلال أنسنته وتحريكه وبثّ الحياة في جماداته: ترتعشين··· وعلى الطاولة فتات الجاز وصوت القمر البارد نربي خوفنا كما نشاء· الصورة والمكان إن المجال الحسي لهذه المشهدية، يوحي بالخوف والتشظي والوحشة، وتأتي الجملة الأخيرة في المشهد متممة للمعنى الذي يدل عليه فعل البداية، في حين أن العناصر المشكلة لصورة المكان تعمل على خلق الإيحاءات التي تعمق من شعورنا بهذا المعنى الذي ينطوي عليه المشهد، من هنا فإن الصورة الشعرية في تلك المشهدية تحتاج إلى المكان، لكي تجعل منه حيزا تتحقق فيه، وفي مشهدية الشاعر يظهر التوحد على صعيد المعطيات الشعورية للعلاقة مع المكان، وتغيب بالتالي تلك الثنائية، ما يدل على الضعف والإحساس بالخوف والنفي، والشعور بتشظي الزمن في العلاقة مع الواقع: الحب قتيل على العتبة طردتنا الموسيقا والغرف في ممر الأشجار الفاكهة مسمومة الليل يحرِّش ذئابه والشتاء مكسور كآنية· ويستخدم الشاعر الحشد التراتبي في نهاية القصيدة/ المقطع تعبيرا عن الحضور الشعوري المكثف بالحالة التي يريد أن يلفت الانتباه إليها، ويعمق في شعور المتلقي بها، وهي حالة توحي بالخوف والرعب والتشظي، ويبلغ هذا المشهد مداه المعبر عن تراجيديا العلاقة الحزينة مع الوجود عندما تتحول الذات إلى ناطق باسم الجماعة، وتعلن عن الاستسلام والعجز والضعف أمام انغلاق المكان بليله أمامها: لمرة واحدة أقفلنا المشهد لم يكن باب هناك ولا نافذة فقط الليل كان يلِّمع جسدينا والريح القوية تكنس الفائض من أيامنا· دلالات المكان الداخلي يوحي المكان الداخلي دائما بالغياب واللوعة والفقد والحزن حتى يتحول إلى ذاكرة للغيّاب، مسكونة بروائحهم وذكرياتهم ووجوههم التي تهب وتوقظ معها أشواقها وحنينها، والشعور بالوحشة والأسى حتى يتحول كل فعل يقوم به إلى موقظ لذلك الغياب الذي يلفّ كل شيء من حوله، بل يصبح الغياب علامة تشبه موتهم، أو معبد يتوحد فيه مع أطيافهم وذكرياتهم، ولعل هذا الحضور الواسع والمكثف لموضوع الغياب في قصائد الشاعر يرتبط بالشعور الحزين المتولد من الإحساس بالوجود الهامشي الذي أصبح يعيش فيه الشاعر، وما يستتبع ذلك من شعور حزين حاضر باستمرار بالغربة في هذا العالم الغريب، وبقدر ما يدل على ذلك موضوع الغياب والشعور بالفقد واللوعة المسيطر على قصائد التجربة ومناخاتها النفسية: يرنّ غيابك كلما تحسست الهواء كلما رميت حجرا في البريق يرنّ غيابك لأن لا أحد ينتظر· في هذه القصيدة التي تتميز بالتكثيف الشديد في لغتها، يكشف الشاعر عن العلاقة السببية بين الشعور الحاد بلوعة الغياب والوحشة، والعالم الغريب الذي بات يعيش فيه حتى لم يعد أحد في انتظاره، وهذه الغربة في حقيقتها هي غربة وجدانية وروحية تدل على حالة العزلة التي تحكم حياة الكائن، وتسمها بهذا الشعور القاسي بالغياب والموات : من تركوا البيوت ظل لهم على العتبات غبار يشبه موتهم· ويقول في قصيدة أخرى : البيت الذي يشبه معبد المجوس سوف يتذكرك كلما هبَّت رائحتك على العتبة وكلما اخترق البحر خشب النافذة· من الداخل إلى الخارج في القصيدتين الأخيرتين تأخذ حركة الأشياء اتجاهين مختلفين: في الأولى تكون الحركة من الداخل نحو الخارج لتؤسس لحالة الغياب، وفي الثانية تكون الحركة من الخارج نحو الداخل أي نحو الفضاء الخاص والحميم لتوقظ ذكريات الغائبين والحنين إليهم، مما يجعل دلالة المكان والحركة فيه لا تدل سوى على هذا الشعور المستيقظ والحزين، ويلعب المعجم الشعري المؤلف من مفردات، يتكرر استخدامها دورا مفتاحيا في استكناه معاني هذه التجربة، واشتغال علاماتها الدلالية في القصيدة الشعرية، وإدراك المحاور التي تدور حولها، إذ تؤلف هذه المفردات التي تحمل دلالات حسية حقلا دلاليا واحدا (الظلال، العتبة، الصحراء، الصمت، الأطياف، الظلمة، الروح، الغياب، الموت، الليل، القمر، الغرف، الهواء، النهار، الرائحة، الجسد، الضباب، المطر، السماء ···)·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©